شعرية المعاناة فى ديوان (بقلع الضرس) للشاعر "ناصر صلاح"
"بقلع الضرس" ديوان شعر عاميّ، للمدبع "ناصر صلاح" وهو يمثل المجموعة الرابعة "من أغاني حرفوش المجذوب" للشاعر نفسه..(1) ومن عتبة الديوان الرئيسة (الغلاف) يبدو الديوان منطويًا على روح ثورية وطنية جادة.. أما العنوان فيجسد المعاناة.. والمعاندة.. والآلام .. وصعوبة المحاولة.. وبالصورة المصاحبة كرسي مفرد.. مسنده أحمر، ومقعده أسود، معلوه كُتب داخل إطار الصورة باللون الأبيض" الشعب يريد الكرسي تيفال" والإطار الخلفي الصابغ لكامل الصورة يغلب عليه السواد وفى ركنه الأيسر رمادية أقرب إلى السواد، والألوان الثلاثة حين تكون هى ذات ألوان العلم المصري فهي دالة ابتداء على وطنية محمودة.. يبدو أنها هى وحدها سبب المعاناة! ولكل من الثلاثة الألوان دلالته الخاصة منفردًا.. أما الأحمر فربما دل على دموية الجالس.. والمقعد الأسود حينما يكتب عليه بالإنجليزية (Tefal) فيجسد مع العنوان الداخلي بالصورة رغبة جماهيرية وأملاً يراود أخلاقهم ألا يكون الكرسي لاصقًا بجالسه .. أو أن يكون جالسه لاصقًا به يريد سهولة الحلحلة ، ويرغب فى التداول، لا التأبيد، ويقبل التنوع لا التوريث، والعبارة البيضاء، كاشفة بلونها، وألفاظها عن آمال الشعب فى التغيير.. وبالعتبة وجود لضرسين لا واحد، أحدهما يسبق عنوان الديوان الرئيس، والآخر يلحق باسم الشاعر "ناصر صلاح" وكأن الضرس بما يمثله من معاناة.. أو استبداد مقيم.. يحوط التجربة بكاملها بدءًا وانتهاء، ومتن الديوان ناطق صارخ بالمعاناة!
والروح الثورية بالديوان، وكذا الوطنية الحقة ، كما أطلت من العتبة الرئيسة ، فإن حضورها بارز جدًا بنصوص الديوان، ومن قبل النصوص بعتبة الإهداء ، إذ يهده (ص3) "إلى شهداء ثورة 25 يناير" وفى تقديم الديون يبدو كذلك "ناصر صلاح" واحدً من أسماهم (شعراء القضية) فى مقابل (ص6) "شعراء اللاقضية الذين يتسلقون على كل جدار ليقطفوا عناقيد العنب وحدهم".
وبالنص الأم بالديوان (بقلع الضرس) "ص88" تتماهى المعاناة مع الروح الثورية .. مع الوطنية الصادقة ، يقول كاشفًا عن حجم المعاناة ومدى الآلام وضخامة التحدي الذى يواجه كل وطني مخلص يحاول النهوض بوطنهن وتحصيل الحياة الكريمة:
وقلع الضرس ما يكفي
فتحت الضرس كام دمل
وكم خراج بيرعاه سوس
تقولش تتار.. تقولس بسوس
وحتمًا السريع حاجتين / لمدة شهر أو شهرين
هنتمضمض بثورة الصبح / وبالليل غاز مسيل للعين.
يغني للثورة والحرية .. والجيش .. ويلعن الحرامية ! فيقول فى (ما نشيتات ثورية 79):
يا شهيد الثورة المصرية / سجل بدماك الوردية
حدوتة أحمس وبهيه / حدوتة جرجس ومحمد
وصمود الوحدة الوطنية
فلتحيا الثورة المصرية / وليحيا الجيش والحرية
وإرادة مصر الحديدية / وليسقط كل الحرامية.
يغني لميدان التحرير ، أيقونة الثورة المصرية، ولجيل التغير ، مشيدًا بما معًا، فى نصه الافتتاحي (بداية الكلام 9) كاشفًا عن شيءٍ من أسباب معاناته وعن بعض آماله ، فيقول:
أجمل ميادين الكون/ هوَّ ميدان التحرير
أجمل أجيال الكون/ طبعًا جيل التغيير
لو عشت الثورة صغير/ هتعيش العمر كبير
وتواجه كل مصاعبك / ولا تسكت ع التزوير
ولا يوم هيبيعك تاجر / ولا تختلّ المعايير.
يبدو حال الوطن الواهن إذن هو من يحزن له الشاعر، ويأسى له، فحال الوطن يثير العجب، فمقوماته ترشحه ليكون محوريًّا فاعلاً فى إقليمه والساحة الكونية. . لكنها تحولات الجملة الحالية.. حين تجعل الفاعل مفعولاً ! موارد البلاد كافية لكن العوز عميم .. يقول "ناصر صلاح ص 47":
خير البلد دي كتير / يتعبى فى زكايب
لكن الغريب يا بلد / ويشيب الشايب
خيرك لغير ولدك
مش حقه دي عجايب
ومن جميل شعر "ناصر" أنه يوظف بذكاء شديد ملموح ثقافة الجمهور الشعبية لتمرير رسالته على أوضح نحو ممكن، طالما كان من شعراء القضية، ، ممن يسهمون فى تشكيل الوعي الإنساني والوطني العام.. وإذا كان الجمهور يعتقد فى الحسد والسحر على نحو مغالٍ فى كثير من الأحيان فإن الشاعر.. مازحًا جادًّا.. مبدعًا ساخرًا يتسم تواصله بالذكاء الاجتماعي مع متلقيه، من ثم يرى أيامه محسودة! ليس من يعيشونها.. والأمر لذا جلل، لا يطاق، يقول فى (السيل ص 42):
محسودة أيامنا / أو سوده أيامنا
لا هينفع ليها فاسخوخه أو رقو بخور
والشعب (كامل الشعب!) مسحورُ له ، فتفوته أحلامه، ويعيش بائسًا، يعوزه "فكّ العمل" وإبطال السحر.. يقول فى (سجان ص 16):
.. وشعبها المطحون / بالطبع مسحور له
بيحبّ خنَّاقه / يهتف به كل أدان
امتى يا ضيِّ الفجر/ جوه سمانا تبان
امتى العمل يتفك / يرجع لنا سليمان
إن حال الوطن صار يستدعي الشفقة ، بعد العجب، لا من بني الإنسان بل من جنس الطير، وكأنما استدعى ذكر سليمان (عليه السلام) ذكر الطير، إذ عُلِّم (عليه السلام) منطقها، فى نص (مقابر 35) وهو من عتبته دالُّ بجلاء على المأساة الشعبية التى تحياها الجماهير، فهي تقطر أسى، إذ تشفق الطيور (أيقونة الحرية!) على أهل الوطن، أما العصافير فترفرف فى السماء.. وأما الجماهير (فتفرفر) بالأرض.. يقول فى ذكاء وسخرية، وسردية بائسة ..حالمة:
حبة عصافير/ فى السماء رايحين
على كل بلاد الكون جايين
مروا بالصدفة على بلادنا
نص العصافير وقف اتعجب
والنص التاني بيتنهد / قال م الحسرة
م الدمع النازل على رجليه/ قضبان وشجون !(2)
دي مقابر مصر المحروسة / الشعب الميت م الكوسة
الشعب الميت من أيام توت نخع آمون(3)
ولعل من بواعث معاناة الشاعر بالديوان ..أنه يعرف جيِّدًا أعداء الوطن.. من أبنائه، ومن دلائل ذلك، أنه فى (الجامسوة وااالدة ص 31) يشير إلى أعداء الأمة، سبب بلائها ومقاصدهم المنحصرة فى التجهيل والاستلاب أو الإقصاء أو الإبادة ، فيقول:
أما الثور (الأمريكانى)
شاطح ناطح / رجّع تاني
عصر الدب الأحمراني / كل بهايم الأمّة بهايمه
يركب ديه / يوهب دِيَّه / يدبح ديه
ويقول إن الجاني دا هيه، واحنا يا إما هندفع ديه
أو يدبحنا زي دا هيه.
وفى الديوان كثير من ملامح السردية، ومطارحات شعرية تصبان فى تشكيل الوعي، لمصالح القضية؛ لصالح نهوض الوطن وسعادة جماهيره ، تنجلي السردية فى أكثر من نص، مثل (طابور الموت، قدر مكتوب) ومع السردية بالديوان قد تتكاثر الشخوص بالنص ويتعالى صوت الدرامية كما بالأول؛ إذ يقول (ص49):
طابور الموت، مافيش زحمه عليه ولا ضرب
دي ناس ع الوقفة مغصوبه
قليل فرحان ومتجهز لساعة الكرب
خفيف لحمال، وعاش صافي وكان بيعف
قليل حزنان/ على كتافه جبال م الذنب
بيتهرب ويتدارى / ونفسه يكون فى أخر الصف
ويدي القلب آخر فرصة فى المشوار
يعود للدرب/ كثير واقفين كما طوبه
لحد ما تيجي معطوبه
فا دوول عاشوا ما بين الناس كما الأموات
وبكره يعيشوا بعد الموت عذاب وآهات
ومفتاح الضلال يصبح على دماغهم../ قفال من نار(4).
ومن أمارات القدرة على الحوار، مما تتنامى معه درامية النص ما ورد بـ (كارت معايدة ص 26) وفى مطلعه ما يكشف عن آلام المبدع الثابتة، التى لم تتحول عن وجدانه ، بحيث فقد الإحساس بالبهجة والأعياد.. يقول محاورًا (أحمد):
ترنن . . ترنن
ترنن.. ترنن
- أيوه .. ألووووه
* أستاذ ناصر
- أهلاً يا أحمد / عامل إيه؟
* أشكر ربي/ قلت أنا أسبق
نفسي أعيد مره عليك
- بتقول عيد ؟! عيد إيه يا أحمد!!
إنها الآلام .. تنسى الإنسان حلاوة الأيام.. ومن النص يبدو المبدع واحدًا من صانعي البهجة، إذ لم يغفل عن مبدأة الأحباب بالتهنئات إلا بعد تحول طال الحياة، فأسنت ، وشمل الزمان فعبس.. ساعتها فقط بدأ الآخرون (أحمد) يبادرون ! لكن بعد الفوات!
(2)
2/1 اعتمد "ناصر صلاح" فى ديوانه (بقلع الضرس) على تقانات بعينها، كربها كرَّرها جميعها لتجسيد قضية للمتلقي، تشكيلاً لوعيه المفقود، أو تنحية لوعيه الزائف، أو تأصلاً لوعي لمّا تتحدد معالمه بعد، والتكرير بالشعر العامي تقانة منسجمة مع طبيعة الشعر، الغالب أن يلقي فى تجمعات حيَّه، فتلقيه فى الغالب يكون مباشرًا بين المبدع والجمهور، والتكرير مع هذا السياق نافع وجماليُّ.. يسعف المتلقي على التفاعل .. والحضور! والتكرار مهم جدًّا فى معركة تشكيل الوعي .. يعتمد الشاعر على تكرير الفعل (اوعاك، اوعى) عامدًا إلى بيان خطورة الوعي ، وحرص الولاة على تغييبه أو تزييفه ، وأنه بالنسبة لهم ميدان معركة مركزي، استمرارهم مرهن بغياب الوعي .. يقول (ديمقراطية ص 20):
اوعاك تضحك .. اوعاك تبكي
اوعاك تحزن .. اوعاك تفرح
اوعى تفكر.. اوعاك تسرح
اوعاك تيأس أو تتفائل / ولا تتعجب ولا تتسائل
اوعى تموت م الكبت اوعاك
اوعاك توعى/ عارف لو حسّينا بإنك مره هتوعى
مش راح تلحق إنك توعى/ فاوعاك توعى
الشاعر هنا أمين.. لم يخن أمانة الكلمة ، حين جسد فى شعره .. عبر تقانة المفارقة ، كيف يحرص مدعو الديمقراطية على تجهيل الجمهور، ليسلم قياده لهم، والمبدع هنا يستثمر موهبته فى بناء الوعي.. عبر لغة ظاهرها يدل على ما يقصد إليه المبدع.. وإن بدا عكسيًّا مفارقيًّا!
وقد يكون التكرار عبر تكرير التركيب ، بتوازن البنى الصرفية.. والنحوية، فيستقيمُ الإيقاع، وتتجلى الدلالة، ويتدفق السرد، يونحو ويوقِظُ المتلقي من غفلته.. يقول على لسان المدعين السابقين، بنصه (هنا الـ .. ص22) كاشفًا عن قصدهم إلى عملية نهب وسلب كبرى تطال الجماهير فى أبدانهم وعقولهم:
.. نجوُّع كروشهم
نعطش جيوبهم
ننشف فى ريقهم
ونلغي عقولهم.
الميدان إذن عند الآخر تجاه الذات المنتمية .. المبدعة .. المحرضة، والثورية هو: تجهيل الذات ، أو اقصاؤها أو إبادتها.. عبر عملية نهب وسلب عظمى.
ويستخدم "ناصر صلاح" بديوانه تقانة التكرار بذكاء وإبداع، خاصة حينما يكون الصغير العنصر المتكرر جامدًا فى (ابعتوا لي الجزمة ديه ص 18)، إذ يعقد مقابلة بين حذاء "الزيدي" ومن قذف به عبر الضمير، فيقول:
هيَّ ركبت فوق كتافك من غضبها
هى قطمت ظهر أهلك
هى ما رضتش تمسَّك/ هى أطهر
هى خايفة من نجاستك
عبر مقابلة مخزية بين الطرفين (المقذوف بها، المقذوف به) يتكرر الضمير هى للطرف الأول معه الضمير "ها" فى (غضبها)، والضمير "كاف الخطاب" للثاني.. وفى حين يبدو (هى) مستقلاً منفصلاً فاتحًا مبادئًا، يدعمه الحرف (التاء) فى (ركبت) والضمير المتصل (ها) فى (غضبها) لا يأتي (الكاف) إلا مجرورًا ، مكسورًا فى سياقات سلبية دومًا.
2/2 تقانة المفارقة هى الأخرى فاعلة فى شعر القضية بديوان (بقلع الضرس) للشاعر "ناصر صلاح" ويعزز من جماليات "المفارقة" بالديوان انبناؤه انبناؤه على ثنائية ضدية تتمثل فى الذات (المنتمية) والآخر (المعتدي)، وقد بدا واضحًا تجسيد الديوان لهذه الثنائية بانتمائه لشخوص الذات المنتمية كالشيخ "يسين، الشيخ حسن" (ص25) فى مقابل ذوات الآخر (بوش ص19، شارون ص 24، أوباما ص 29).
ومن الحق فإن المفارقة تبدو تقانة مركزية من عتبة الديوان الرئيسة، فمن العنوان تبدو مفارقيه الجد والهزل، يمثل الأول العنوان الفرعي بإطار الصورة، العبارة الثورية المركزية الشهيرة : الشعب يريد.. فى حين يمثل الثاني ، عبارة ما تتجلى عنه إرادة الشعر، ممثلة فى الكرسي.. وحتى اللحظة فالسياق جاد.. لكن مع (تيفال) فالأمر أشبه بالهزلي لكن طرفي المقارفة يؤولان إلأى إلى تجسيد أمل الجماهير.. والتلميح إلى قسوة الولاة وأنانيتهم لم تطمع الجماهير فى الكرسي .. هى فحسب تريد تداوله.
تتجلى المفارقة أيضًا من عنوانات النصوص الداخلية، فالنصان (بداية الكلام ص 9) بمفتتح الديوان، (خلاصة الكلام ص 90) السابق على عتبة الختام بمرحلة واحدة، يتفارقان من عنوانيهما!
وتتعدد تجليات المفارقة بالديوان على نحو لافت، فقد تتجلى بين عتبة النص ودلالته كما فى (ديمقراطية ص 20) والتى لا تجسد دلالته إلا الاستبداد ، وكما فى (كارت معايدة ص 27) والذى ينتهي إلى الترحم على الأعياد بمثل ما بدأ بالتعجب من معايدة (أحمد) .. يحاوره "ناصر صلاح" بالنهاية على هذا النحو:
* حيلك حاسب/ ايه يا أستاذنا / مالك يائس
- اسمع يا أحمد / ادبح يا بني ووزع لحمه
واقرا الفاتحه/ واطلب للأعياد الرحمه
اطلب للأعياد الرحمه.
هو كانت تعزية إذن لا كارت معايدة!
وقد تتجلى المفارقة عبر المقابلة اللغوية أو السياقية، وعبر تقابل تقانتي الوصل والفصل كاشفة عن جلال الفعل وعظمة الحدث، كما فى قوله (ص 18):
جزمة العفريت دي خلّت / ناس كتير م الغفله فاقت
المهم ان انكسر أنفك غرورك
المهم لسه فينا برضه راجل
لا .. وفعله دّوّه يولد ألف راجل
المهم إن انت فاكر
لما وطيت انفلتّ .. من سهامها
بُص تاني الصوره واضحه
هى ركبت فوق كتافك من غضبها
إن حدث (قذف الحذاء اليزيدي) بالعراق نتج عنه تنبه كثيرين من غفلتهم.. بشأن القُوى والإرادة ، وعنه انكسرت أنف.. لم يجل بخيال (هؤلاء الكثيرين) أن تنكسر بخيالهم.. وفتح عنه تكاثر الرجال. والمفارقية هنا تتجلى عن أكثر من مستوى، عبر جرأة الحدث وفجائيته وآثاره الجُليّّ .. وهو حدث فى مجمله لم يكلف صاحبه سوى جرأة الإقدام على خلع الأقدام والقذف بمخلوعها لأمام.. وبضع سنين بالسجن.
أما مفارقية أدوات الفصل والوصل بالمقطع، فتبدو من إسقاط رابط العطف بين المنكسرين (أنفك، غرورك) وصالاً لهما وهى إسقاط يسارع من دفق الانكسار وتمثيله .. وتجسيده ، بمقابل الفصل.
بين (لا، فعله دوَّ) بالنقطتين الأفقيتين ، لإتاحة الفرصة لتمثل الآتي بما هو أحد آثار الحدث المتخيلة .. الفعلية، الناتجة عنه، بحيث بدا النافي، مسعفًا على تصاعد وتيرة الفرح، والسعادة بإنجاز لما يتخيله أحد.
وقد تجلى المفارقة كاشفة عن بون هائل بين مقدرات ضخمة وواقع بائس يعم الغالبية ، كما تكشف عن تحول خطير للأسوأ يتصل (خيالاً) بتخنث عجيب يبغيه المفسدون .. يقول "ناصر صلاح" فى (خرده ص 40):
وطن خرده / وقلبه مريض
ورغم انه طويل وعريض
لكن هايف/ ومن زن الناموس خايف
فطمَّع فيه كلاب ودياب
وجه المعيوب علينا وعاب
ويتنسون ... ويتـ...
وبكره حريمه راح تطلب / من المساواه رجاله تحيض
وهيوافقوا
ما دام القرد ع النسناسه كان لايف
فلا تعجب .. إذا راح الوطن فى حضيض
ولا تحلم ... فى يوم يتهز
تتعدد نطاق المفارقة بالنص، (طويل وعريض (مع) هايف) وكذلك (زمن الناموس (مع) خايف) و (المعيوب (مع) عايب) و (رجاله (مع) تحيض) إنها مقارقات تدعو إلى العجب والدهشة الممزوجة بالحسرة على مآل الوطن. وتجسد المفارقة كذلك بما هى تقانة فنية أثيرة لدى "ناصر صلاح"(6) مآلات الوطني والخوَّان بالآخرة العبارة صحيحة ، فيقول واعظًا ومستشفيًا بالشعر، مبتدئًا بالحديث عن الخونة ومنتهيًا إلى الوطنيين الأطهار (طابور الموت ص 51):
دا كانوا فى نهار الزيف / نخيل كداب
ونهر الكبر يرويهم/ فيطرح فُرقة ما بينهم وبين الناس
يخليهم كما الأعداء
ويجمع كل أفعالهم .. تحالفهم مع الوسواس
هيبقوم تحت فى جهنم
وكل اللى عليه داسوا
هيصبح فوق بيتنعَّم.
ومع الموت وحده تتلاشى الفروق وتتساوى الشخوص، ومهما طال قطار الخصخصة من ظواهر الحياة ومؤسسات الأوطان، فسيبقى الموت عامًّا للجميع، يقول بالنص ذاته:
طابور الموت واقف بنظام
لا فى بطاقة ولا جوازات
ولا تأشيره أو وسطات
ولا تمييز ما بين فقرا ووسط وذوات
ولا فى كبير ولا صغَّير / ولا فى طويل ولا قصير
ومهما الدنيا تتخصخص / فيفضل عام
إن كثافة الأمور التى تدعو إلى العجب بالواقع هى المسئولة ربما عن كثافة تردد تقانة المفارقة بديوان (بقلع الضرس) للمبدع "ناصر صلاح" وهناك نصان خلصا لهذه الحقيقة.. عجائبية الأحداث فى دنيا الناس ، هما : ( عجب ص 59، من أسرار الصناديق ص 61) الذى يقول فيه معتمدًا على تقانة (المفارقة) أيضًا:
أنا الصندوق / أنا الشفاف
وأنا الفاضي / وقالوا ان فيَّ آلاف
وأن الشاهد / وبرضه شهيد
ولكني بسبع ترواح
أنا (عجب) فينبني بكامله على تقانة (المفارقة) الفاضحة، وفيه إشارة لحدثٍ كان فى 27 رمضان 1420هـ:
أمور ولاتك عجب/ يا مصر يا طاهره
صاموا وقاموا الليل / جنب الهرم سهره
رقص وفجور وخمور/ فى ليله م العشره
إللى الإله فيها / بيتوب على عباده
صرخنا قلنا ازاي / رمضان ونفحاته
قالوا حافظنا عليه / نفذنا عاداته
وزَّعنا وقت السحور / كل واحد تمره
والمزَّه طاظه يا ظاظا / قوم كسّر الفاظه
ما احلى الصيام لو كان / فى ع السحور خمره!
***
2/3 يجيد "ناصر صلاح" بشدة ما يمكن أن أسميه اللعب الحاذق بالكلمات! ومن النقاد من يجعل الشعر ليس إلا لعبًا بالألفاظ، ويقصد مهارة الشاعر فى حول تجاربه والكشف عن خبيئة ذاته لا يكون إلا عبر قدرته المميزة فى تشكيك تشكيل لغته لفتة من ألفاظه بدقة ووعي وإبداع.. نص (كوسة ص 36) نموذج لهذه القدرة ، يبدؤه بقوله:
كلمة كوسه/ لو سبقنا الواو ع الكاف
تصبح إيه ؟/ تصبح وكسه
طبعًا ديه نتيجة الكوسه.
ويقول بالنهاية (7):
طيب أقول لك/ لو سبقت السين ع الكاف
تصبح إيه ؟/ تصبح سكوه .. سكوة إيه ؟!!
لا ما تنفعش/ شيل الواو / تصبح إيه؟
تصبح سِكه / أيوه دى سِكه
لاء دي سّكه / سِكة إيه!!؟
إنت بتحلم ؟!!/ عمر السّكه ما كان له سِكه.
قد يبدو المسلك الإبداعي عند .. بعضِ.. تكلف يخالف عفوية التجربة الإبداعية المفترضة .. وعندي أنا لا .. فلا يلمح شيء من تكلف، بل ذكاء إبداعي معجون بمرارة واقع يحياها المبدع صبح مساء، وفوق أن الحياة فى كثير من مظاهرها تعتمد إجراء التقديم والإرجاء، وأإن وإن العربية بذاتها بما هى لغة شاعرة ، تتغاير دلالات دوالها بتغاير تراتب أصواتها ، فإن ناصر صلاح قد وازى بين تلاعبه ببنية الكلمة (كوسه) المركزية نصًّا وواقعًا وبين قضيته، المركزية بالنص ، وهى قضية الفساد وتجلياته، والحرمان ومظاهره.. بحيث بدا النص وكأنه اكتشاف لا تكلف.
ومن البين امتلاك "ناصر صلاح" لمسات ذاتية إبداعية تسعفه على هذا الإبداع فلديه عقل ناقد، وروح ظريفة، ونفس متأملة، وإبداع موات ومعاناة مقيمة تدفعه جميعها إلى إطالة الصمت وعدم النطق إلا بحق، مما تأبى بمسلكه عن التكلف، ومن ذلك تجسيده لتماهي الجماهير مع دلالتها وفناء شخصيات الأول بحكامهم، فى قوله ( ص24):
بنشوف بشوفهم/ ونقول بقولهم
بنشوف بقولهم/ ونقول بشوفهم
كأنه عكس اللفظ أو رد الجملة عند بلاغيي العرب القدماء، وموافقة الإبداع لواقع الناس يحول دون اتهام المبدع بالتكلف، فلم ينطق إبداعه إلا بما علم ورأى! إن اللعب بالألفاظ هنا يكشف وبجدية ملفتة عن حالة استلاب للوعي كاملة، يتعيش بها الولاة.
إن التلاعب بالألفاظ إيجابي فى كل مواضعه، بل وجمالي كذلك، يحكى عن حالة من حالات التوريث السابقة على ثورة 25 يناير، فى استثمار بارع لخصوصية الشعر العامي الشفاهية ، فيقول (مبايعة ص 14):
خّد علينا وخال علينا .. فاعذروه
نفسه يرأس فترة ساته .. رقصوه
والله ضفره ما هتجيبوه
دا السلام والحرب هوّه .. تنكروه ؟!
عمركم ما تعوضوه
عاوز ابنه ييجي بعده .. بّعِدوه
ما الولد طالع لأبوه.
إن التجانس . التفارقي بين (يرأس، رقصوه) وبين (بعده، بعدوه) فى ضوء شفاهية النص العامي بارز مقاوم.. رافض . ومن ثم فالمسلك الفني، وإن بدا لعبًا فهو عين الجد والجدية.
من ذلك قوله (ص62):
أنا الصندوق / أنا الفاضي / وأنا القاضي فى ساعة الجد
باكون السيف لنور العدل/ وأكون النور لسيف العدل
باكون الجد.
وفضلاً عن مفارقية التجانس (الفاضي، القاضي) اللافتة الدالة .. المؤلمة!! فإن جدلية تقديم وتأخير الدالين (سيف، نور) على المضاف (العدل) بالسطرين الأخيرين يعمل على إبراز أهمية الصندوق (الانتخابي) فهو النور والنار، القوة والحكمة معًا.
والنموذج التالي كافٍ للدلالة على إبداعية الإجراء الأسلوبي ، حين غاير من الجار البسيط فقط، فعرض عبر تنوع الجار لكل محتمل، ولمشاهد تتباين لكنها تتوافق لتجسيد مدى الإهمال الجسيم .. المميت، وهوان الذات على ولاتها .. يقول (ص65):
وموت أولادنا فى الصندوق / وموت أولادنا م الصندوق.
وموت أولادنا ع الصندوق / وموت أولادنا بالصندوق
ما بيهموش/ لإن إحنا فى نظره هموش
ولا بنسووش
إن تغاير الجار من (فى) إلى (م) إلى (عّ) إلى (الباء) ليس إلا لتعديد مظاهر الإهمال والقهر واللامبالاة فى واقع الذات.
فالجار الأول يجسد صندوق الموت (التابوت)
والثاني يجسد تسبب الصندوق فى الموت ربما فى إشارة إلى ضيق المسكن والرزق
والثالث يشير إلى ضحايا الانتخابات ربما!
واحتمالية الإشارة إلى ضياع مستقبل الأجيال التالية بتزوير نتيجة الصندوق واردة.
والنتيجة، (ولا بنسووش)!
***
2/4: يتقن " صلاح ناصر " توظيف الموروث الشعبي بذكاء، يستخدم كلام العامة لتجسيد فكرته فى تعابير سلسلة سلسة مطواعة، كاشفًا عن لا يملكون أمارات كاشفًا عمَّن لا يملكون من أمارات الإبداع شيئًا، فهم منتفخون على فراغ كالبالون (ص33) يقول:
وأمَّا صاحبنا / رغم الخيبه .. نافش ريشه
حبه ينونو/ مره يهوهو
ولا بنحس إلا بخرابيشه
كشكش يالله / بس على الله
إن التعبير الشعبي بهذا الشعر يمثل أقوى جسور التلاقي على مسار الدلالة بين المبدع والمتلقي وعندها يتعاظم التفاعل وتتجلى الفكرة، لصالح القضية.
وقد يتصرف (ناصر صلاح) ببنية الموروث الشعبي، وحين يحتفظ للتصرف بنهاية النص/ المقطع، يبدو إجراؤه مدهشًا ودالاً على إبداعية لا اتباع، يقول (اطلع يا نهار 57):
وهتزعق مهما هتزعق
هتلاقي قانون محول وسيف وقيود
والسجن ابواب مفتوحه لجوه
وابواب مقفوله لبره
ومين هيعود/ الداخل جوه السجن يا ناس مفقود
والخارج بره السجن / دا سقط ومش مولود
ليس (الخارج مولودًا) كما بالموروث، وإنما هو مجرد سقط: ميت غير مكتمل.. معاناة وآلام ولا مولود.. إنها خيبة الأمل المضاعفة ..إذن.
يبدو تصرف الشاعر مفارقيًا فى بعض الأحيان، حين يتحول بالتعبير المشهور وبفعل بشاعة الواقع إلى تغيير مركزي يطال دلالة التعبير، فيحولها إلى العكس، مشهور فى ثقافة العامة أن من بنى مصر كان فى الأصل حلواني ، يتغنون بها.. ربما فى إشارة إلى جمالها وبهائها وحسنها وهى كذلك.. لكنها أحيانًا ما يتعكر صفوها .. يقول (سجان ص16):
اللى بنى مصر / كان فى الأصل .. واد سجان
حوطها بالهم / لجمها بحبل الخوف
وادَّى اللجام للجان
وبالمقطع ما يشير إلى قدرة الشاعر على تشكيل الصورة بالسطرين (3 ، 4) ومنها قوله عن الصندوق (ص63):
ولو يملوني يبقى بخير ويبقى بحق
وجوفي لو دخل له حرام
باحس باني هتآيه
وأنا المفروض أكون آيه/ أنا الصندوق.
***
2/5: يجيد "ناصر صلاح" تنغيم نهاياته، فمقاطع نصوصه ، صاخبة الإيقاع بنهاياتها، أشبه فى بعض الأحيان بمقارع الطبول كما فى (ص17):
جزمه ماركة إف بخ
مش مهم جات فى وشّك ولا لأ
المهم جات فى قلبك/ طخّ طخَ
ومن جميل نماذجه الممتدة ، ما جاء من نهايات أشبه بالطرقات المنبهة لبؤس الواقع ، ذلك حين يقول (ص 39):
وطن خرده / وكل الغرب فيه مغشوش
وهو فشوش/ ومش محتاج لبوش وجيوش
ولا محتاج لمجلس أمن م الطرابيش
ولا لفردة عضلاته على المربوط
على شان يرعب السايب / وطن خايب
كفايه عليه حيتان وقروش
وصياد ساب ولاده ف جوع / وربَّى كروش
دا ما عادش الوطني إللى.. / كانت فيه صيحة القعقاع ...
تهز عروش / وطن مرعوش.
لشعر العامية عند مبدعي القضية أمثال "ناصر صلاح" رسالة وجمال، تسهم فى تشكيل الوعي ومقاومة الزيف، يسعفهم عليها إيمان عميق بالوطن وبأهمية الإبداع البناء المقاوم، فطوبى له .. ولهم.
الهوامش
صدر الديوان فى يناير 2012 ضمن إصدارات سلسلة (آفاق أدبية) "سلسلة إبداعية غير دورية" يشرف عليها الشاعران: وحيد الدهشان ، ناصر صلاح. هكذا بالنص (35) ولعلها (سجون). هكذا (نخع) الدال على الكذب والمبالغة والتضليل .. والزيف .. ولعله لم يرد (عنخ)!! يراجع فى السردية أيضًا (67 قدر مكتوب).
وفى المطارحات الشعرية (53 "إصحي ردًّا على قصيدة أمين الديب" عاوزين حلاوة سلامتك").
يقصد أحمد يسين، وحسن نصر الله. الذى يحمل اسمه فى ذاته مفارقية عجيبة، إذ يحيل (معتدلاً مستقيمًا) على (الناصر صلاح الدين)، ويحيل فى الوقت ذاته (مقلوبًا) على (صلاح نصر)! يقدم بمنتصف النص حرف السين على الواو ، لتصبح "كسوة" ثم يقول (36) كسوة إيه !!؟ / طول العمر عرايا يا صاحبي. يادي الحوسة / شوف لنا غيرها.
وسوم: العدد 750