إلى ابنتي الغالية
سلام عليك بُنيّتي، سلام من دار الابتلاء إلى دار الجزاء. لا تحسبي شواغل الدنيا تلهينا عنك أو تظفر منا بنسيان، فإنما هي ومضات ما تفتأ الروح آيِبة بعدها جائلة معك حيث أنت. قد تصرِفنا الصوارف عنك هنيهة، لكن القلب أبدا غير مصروف. وقد يشغلنا الجدل العقيم بعض وقت، لكننا سرعان ما نهرع إليك حين يهدأ المشاكسون، فإذا بالصفاء قد خلَص لنا ونحن بجوارك. ولا عجب! فإن للأرواح لُقيا غير ما ألِفت الأجساد، وما يحيط بملكوته غير هو. أتذكرين بنيّتي شَدْونا؟ والترانيم التي كنا نردّدها معا؟ أتذكرين مرح الشاطئ؟ والشغب البريء؟ وحنوّ الأم وحَدَبها؟ وذوْدَ الأخ عنك والخصام؟ وشوق الأخت ولهْو المساء؟ ودفاتر المدرسة والأقلام؟ وسريرك والمنضدة؟ ما يزال كل شيء كما كان، ولسنا نملك لك الآن غير حب لا يَنفَد، وشوق لا يزيده مرّ الأيام غير تعاظم واضطرام.
أتدرين بنيّتي؟ قد مكثت أياما ما أكاد أصدق أنه لا لقاء بعدُ في دنيانا هذه، وأنه لا قُبلة قبل النوم بعد اليوم. أعلَم غاليتي أنك ما كنتِ أول صبيّة تموت، فرُبّ أطفال قضوْا لعلّة أو دونها، وكم من طفل قُتل بغير ذنب ولا جريرة، ولكنْ ما أبعد البَون بين أن تعقِل القَصص وأن تكون أنت القصة! وما أهون الحرب على النَّظّارة! ألا فلْتعلمي أيتها العزيزة أنني حين سُلِّمتُ إذنَ الدفنِ ظننت الأمر هزلا، وهأنذا وقد وسّدتك تراب قبرك بيديّ هاتين يُخيّل إلي أنك تلِجين حُجرتي حينا، وقد أسمعُك تمازحين أختك وما أتبيّن أفي صحوٍ كان ذلك أم في منام. لكنني أذكر غير متشكك أني سمعتك تردّدين وهُم يمزقون ما عليك من ثياب "وماذا سألبس؟ ماذا سألبس؟". كنتِ حريصة على السّتر بنيّتي وأنت بين الحياة والموت، وكان الطبيب حينها يروم دفع ما قضى الله ألا يُدفع. فعسى أن تكون ثيابك فيها حريرا، ولعل الله قد كساكِ ثيابا خُضْرا من سندس وإستبرق. وما كنتُ بقادر أن أسقيَك شربة ماء غاليتي وأنت تلحّين عليّ بالماء، ولَعمري قد كان ذلك آخرَ ما طلب الوالدُ من هذه الدنيا وما استطعت له شيئا، فلعل الله قد سقاكما شربة ماء لا ظمأ بعدها أبدا.
أيْ بنيّتي، كبُرْتِ أيامَك الأخيرة على عَجل، وكأنك وددتِ استعجال ما تبقّى لك من عُمر، فكان أنْ أوجزتِ قابلاتِ الأيام. كنتُ أراك تُعدّين لي الشاي وأنت جذلانة مبتهجة. ولقد ألْفيتُك ترعَين سكينة البيت خشية أن يتّقد صداع رأسي. وأختك الصغرى، أمَا كنت لها أمّا ثانية؟! أينعتِ بنيّتي على حين غرّة، فأجْنى شعورك وانبلجت كياستك. فهذا دفتر أسرارك ينطق بحكمة ذوي الألباب. وإن أَعجبْ فعجبي أن يكون للأطفال أسرار؟ ولولا رحيلك ما كنت لأطّلع على دفترك إلا بإذنك. كيف وفيه أمنيتُك ألا يراه أحد! وأنك إنما تحكين لدفترك وحسب! تفعلين ذلك سترا لصديقة المدرسة كما أفصح قلمك. وإنّا لَنستبشر بما رقمتْ أناملك في دفترك الأثير، وكانت هذه الكلمات آخرَ سرّك: "أما أنا فماضية في الطريق المستقيم". أما رسالتك الأخيرة في ذكرى مولد أمّك فحفلت بالحب والبوح، بل أنبأت بوداع وشيك. "لن أنساك يا أمي ما دمت حية أو ميتة... وأرجو أن لا تنسيني يا أمي"، هذا بعض ما أمسك يراعك من نبض قلبك، وحين قرأتْ أمك رسالتك بكت، وكنتِ حينئذ في أتم العافية، بل أكملَ بُنيّةٍ إشراقا وتهلّلا.
قد كان ذلك كله وأنت ابنة عشْر، قد كان قبل أن يدهمنا موت الحَجْر الذي وأدَ روحك المرحة، وأفنى بهجتكِ والمرام. قد كان ذلك قبل أن يَفْجأنا الحِمام وأنت في غمرة التدفّق والحماسة. فكيف لا أحزن لفراقك بنيّتي؟ أمّا مَن جهل الوشيجة التي بيننا فيشير عليّ بالطبيب حيث يغدو البوح بلسمَ الكمد. وما يفعل الطبيب؟ إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله، ولست بالذي يشكو إلى غير مُصمِّت، ولا بالمشتكي إلى من لا حلّ له ولا عقد. وليس ثمة غير الصبر الجميل وكفى.
أيْ غاليتي، قد كنتُ أحدّث نفسي عما عسى يصنع أبنائي بعد موتي، وما جال بالخَلَد ما عسى أصنع بعد موت الولد. لكنّ قدَر الله ماض، وحكمته في خلقه سارية. أمَا وقد كان الذي كان فليس لي غير طلب الصفح عن كل فعل ساءك، وعن كل كلمة جارحة لم تُلجمها رويّة. ليس لي غير التماس العفو عن كل إهمال أو غفلة. أبصرَتْكِ العيون تأْلَمين وذهلت البصائر عما لزم. شكوتِ في صمت وقلنا كآبة الحبيس. وإن الله إذا أراد شيئا هيّأ له أسبابه. وعسى أن يشفع لأبيك نُبل القصد وحُسن الطويّة.
أيتها الغالية، هو ذا كتابي إليك، أما كتابك إلينا فذكّرنا أن الدنيا أضيق من أن تَسَع أوزار الناس وسفاسف البُلْه، وأقصر مما يظن الغافلون، وأن الموت قد يلج من حيث لا يظن الظانون، وأنه أقرب إلينا من حبل الوريد. ولقد ذكّرنا كتابك أن المحبة أصل والعفو أوْلى، وأن الحياة تسفُل بالخصام والشنآن.
أيتها الغالية، أيا قرة العين، قد بلَغني كتابك، وإني لَأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، وسلام عليك من دار الفناء إلى دار البقاء. سلام عليك أيتها الروح الطيبة.
وسوم: العدد 883