رائد الفضاء الوطني السوري اللواء محمد الفارس.. في ذمة الله البطل الشهم الوفي لعقيدته ولأمته ولشعبه
في وداع الراحلين
إلى جنات الخلد أبا قتيبة ورحم الله ظهرا أنجب، وبطنا حمل، وأسرة احتضنت،…
وإنا لله وإنا إليه راجعون…
وأكتب في وداع الاخ الكبير "أبو قتيبة" الأنموذج الوطني الفذ، الذي كان يعلم ما يريد، في كل مسيرة حياته، وكان ثائرا حرا وفيا أبدا، وكثير من أبطال هذه الثورة المباركة، كانوا ثوارا بالقوة قبل أن تتحول الثورة إلى حقيقة واقعة، يعيشون الثورة في قلوبهم وعقولهم وسلوكهم، وقد يكون عيشهم للثورة أبلغ مما عاش مؤمن آل فرعون…
وتعودت أن أخص بعنوان "في وداع الراحلين" نخبة من الأحباب، عايشتهم، وسرت معهم حينا من الدهر، ولكنني اليوم أودع تحت هذا العنوان أخا قريبا حبيبا وفيا أبيا ولم ألتقه قط، ولم نشرب معا يوما كأس شاي…!!
ومع ذلك فقد ترك في نفسي الأثر الذي تركه إخوة الدرب الصعب، والسنوات الطوال..
وبدأت الحكاية منذ ٢٠١٢، والثورة في تألقها وفي أوجها، وهي أشد ما تكون أوارا أو عُراما كما يقولون..
حين رن جرس هاتفي، ذات ضحى، وانطلق المتحدث يتحدث: أنا محمد الفارس هل عرفتني؟؟!!
ودائما أتملص من الجواب على هذا السؤال بالتعلل بضعف الذاكرة، وتقدم العمر، ولكن سيادة اللواء البطل الرائد، لم يترك لي فرصة، فاستمر أنا ابن حارتك، وإن كنت لا تعرفني فأنت ولا شك تعرف والدي، واندفع يصف لي والده، ومقامه في الحي، ومكانته فيه، وعمله به، واسمه الذي ينادي الناس عليه به؛ حتى كأني أراه رأي عين..
لم يصف لي بعيدا، وإنما كانت صورة الرجل المحبب الممشوق الطويل الكسيب وما زالت تملأ القلب والعين، وما زلت أثبته تماما كما وصفه، بل له في نفسي من الأثر أكثر مما فعل..
وبعد حديث قصير استمر لدقائق، وعرفني على موقعه، ومكانته، وإنجازه، قال لي: أعلم أنني تقحمت عليك الهاتف، سأتركك الآن ولي معك عود لأحكي لك الحكاية من البداية!!
ثم بعد أيام كان بيننا معا حديث وحديث وحديث، وقولوا معي رحم الله تعالى الرجل الشهم الجميل محمد الفارس، وأعلى نزله في الجنة وأحسن عزاء أسرته وأحبابه والسوريين..
في ثلاثة اتصالات هاتفية مطولة، حدثني سيادة اللواء، وهكذا أحب أن أصفه؛ حكاية انتسابه إلى الكلية الجوية، عن الرؤية والدوافع والأهداف..
ذكرني يوم خرجت من قيادة الموقع في حلب، بعد أن حصلت على الثانوية العامة، أحمل بيدي الاستمارات الفارغة، لأملأها وأحاول، وكيف سلمني إياها العسكري الذي يجلس في كشك قرب الباب، وهو ينظر إلى لحيتي الخفيفة، ويبتسم، أقول الآن لعله كان ينظر إلى سذاجتي..!!
كان اللواء محمد الفارس رحمه الله تعالى، يحدثني عن دوافعه، وكأنه يقرؤني يوم ذاك..
لذلك أقول ما زالت كلماته مختلطة بالشغاف، ربما الفرق بيننا هو أنه نجح، بينما أنا سقطت عند أول هزة غربال..
ثم حدثني رحمه الله تعالى فأفاض عن تجربته في العيش في الوسط الموبوء، وكأنه الثور الأبيض، أو البطة العرجاء. معاناة كل مواطن سوري حر شريف أدرك وما يزال يدرك أبعادها، أن نكون في وطننا ونحن أبناؤه، دون الغرباء.
أن تشعر في وطنك أنك دون خلق الله جميعا، المنبوذ الأخير…
في أي دولة من دول العالم يستبعد ويضطهد ويغبن أبناء السواء…؟؟ فقط لأنهم من أبناء السواء. وكان اسم "القنينة" أصعب حصة من حصص الامتحان، ولاسيما حين تقول "وغير جبس" ما منقول.
ويا سوء حظك ويا تعتيرك أن تكون من مدن الحواميم "حُم الأمر وحق النصر بإذن الله"
حدثني الراحل الحبيب طويلا عن الرؤية وعن بعد النظر، وعن المعاناة وعن الصبر الايجابي الواعي بعيد الغور والمدى..
أظنني الآن قد اختصرت لكم كل الذي حدثني عنه فأجاد وأختصر، الكثير مما عشتم، ومما أملتم، ومما تفيضون فيه!!
في مكالمة أخرى حدثني سيادة اللواء محمد الفارس أبو قتيبة رحمه الله تعالى..
عن ملحمة اختياره طيارا مؤهلا ليمثل السوريين، في أن يكون لهم أو منهم رجل أو إنسان يلقب برائد الفضاء..
حدثني بالتفصيل عن العقبات التي وضعت في طريقه عند الاختيار، والمحاولات التي بذلت لتقديم غيره عليه، وأن حافظ الأسد نفسه هو الذي كان يسعى لهذا التقديم ، وغيره هنا ليس لفظا غارقا في التنكير، بل كلكم تعرفون من كان في ذهن حافظ الأسد يجب أن يكون، يقول لي: ولكن ورغم كل الضغوط، والمحاولات المتكررة للعرقلة أو الانقلاب، إلا أن نتائج اختبارات اللياقة البدنية والنفسية المتعددة، التي كانت تشرف عليها لجنة محايدة أبت، وابتلعها حافظ الأسد على كره وهو لا يكاد يسيغها…
ثم حدثتي عن ما بعد الرحلة، وعن نجاح رائد الفضاء السوري بالدور الوطني الذي أسند إليه..
وحدثني وكله ألم عن حفلة التكريم الشكلي، وعن مأساة الإقصاء والإزواء والتنحية التي مورست بحقه فيما بعد..
لقد عاش محمد الفارس الذي نودعه اليوم، المأساة نفسها التي عاشها كل سوري حر أبي…
وكان دائما منحازا بوعيه وبموقفه إلى جانب عقيدته ووطنه وشعبه وأمته، مدركا لأبعاد التحديات..
أخي أبا قتيبة أيها الشهم الوطني الجميل..
أحببت أن أكون وفيا لك، للساعات التي قضيتها بقربي على الهاتف تحدثني، فتشجيني وتبكيني..
أن أكون وفيا بعض الوفاء لك، ولإخوانك من الأبطال السوريين الذين ما داهنوا ولا دهنوا..
وأعلم أنني لا أستطيع من الوفاء إلا اعترافا…
أيها الشباب السوري الحر الثائر …
اعلموا أنه كان في أجدادكم وفي آبائكم من السوريين رجال، لم يستسلموا لإرادة المستبدين الفاسدين المفسدين..
اللهم اغفر لأخينا الراحل الحبيب محمد الفارس، اللهم زده إحسانا وعفوا وغفرانا، اللهم إنه قد وفد عليك فاجعل قراه منك الجنة..
وغفر الله لأخ قرأ مقالي فدعا لأخي أبي قتيبة فهو اليوم أولى بدعائنا وثنائنا..
اللهم أحسن عزاء أسرته ومحبيه وكل الأحرار السوريين..
وإنا لله وإنا إليه راجعون
وسوم: العدد 1077