اليوم مات علم من أعلام الدعاة
د. منير محمد الغضبان *
والدعاة بعضهم من يملأ الدنيا دوياً بقوله وخطبه ، أو بمقالاته وكتبه ، وهم لمأجورون إن شاء الله إن أحسنوا النية.
ونوع ثانٍ منهم يملأ قلوب أبنائه وإخوانه ثقة وتوجيهاً وتسديداً، وهو بعيد عن الظل ، لا يكاد يعرف اسمه إلا من تربَّى على يده ، وأفخر أني كنت ممن تربيت على يديه ، والذي علمني أصول العمل الإسلامي وضوابطه ، وكان يلجم عواطفنا بالحكمة ، ويربينا بالموعظة الحسنة.
ذلكم العلم الهادي هو الأستاذ محمد عيد البغا ، والذين يعرفون اسمه هذا قلّة جداً، أما هو فقد عُرف بين الدعاة بـ أبي سليم.
نشأ وتربى في جوِّ الميدان في دمشق بين الشيوخ الكبار ونهل منهم ، ولم يتجاوز في سلمه الوظيفي معلماً في المرحلة الابتدائية، ثم اختار بعدها الموقع العظيم لإدارة معمل الدعاة من خلال مكتبته الشهيرة التي يعرفها القاصي والداني من أجيالنا حين كنا شباباً ، مكتبة دار الفتح، حيث يجد الدعاة بغيتهم، والعلماء المخلصون مصادرهم وتراثهم، والأدباء ذخائرهم، والسياسيون مراجعهم، وكان في هذا الموقع خلية نحلٍ تتعامل مع كل فئة ممن ذكرنا بما يناسبهم.
صوته الهادئ المتواضع وسَمْته الحياء المبتسم ، يفرض عليك أن تتلقَّى نصائحه كما تتلقَّى حبات اللؤلؤ النضيد ، ورافق الدعوة الإسلامية ـ دعوة الإخوان المسلمين في سورية منذ نعومة أظفاره، ونعومة أظفارها شريكاً في قراراتها المصيرية ، وشريكاً في محنها وانتصاراتها ، ولعله يبرز عند المحنة أكثر من بروزه عند النصر . ويحسُّ أنه يحمل عبء الدعوة والدنيا على كتفيه ، ويحمل عبء الشباب المندفع الذي يريد أن يقاوم الباطل بسلاحه الأعزل ، فكان عليه أن يوزِّع المهمات والتوجيهات ، على كل هذه النماذج الشبابية ، فهو حبيب الشباب ، وحبيب الشيوخ ، كنا نهابه ، ونخشى خلافه، وكنا نحبه ، فمخزن الأسرار والأخبار عنده.
ولا أدري كيف أستطيع أن ألمَّ بكليمات في مقال ، بقائد وعلم سار عمره كله الذي ناف على التسعين عاماً ، لم يكل عن متابعة المسيرة الدعوية للأمة لحظة واحدة ، وكان صنوه الحبيب ، وقائده وشريكة في هذه المسيرة ، رائد الجيل الإسلامي في سورية الأستاذ عصام العطار المراقب العام الأسبق للإخوان المسلمين في سورية ، ونتقدم من هذا المنبر للأستاذ عصام القائد الشريك بوافر التعزية ولأبناء الأستاذ البغا ومحبيه بالتعزية في وفاته ، وهو بحمد الله حي في قلوب عشرات الألوف الذين يعرفونه دون مظاهرة جماهيرية ، إنما من خلال لحمة فردية .
وسأتناول ذكرى واحدة من ألوف الذكريات هزتني وربتني على يديه:
حضر إلى التل من دمشق مع كل إخوانه ومحبيه من قادة الجماعة ليشارك في حفلة عرس في منتصف الستينات ، وحيث كنا غارقين في عالم الدعوة من خلال المسرحيات والتمثليات، وكانت مسرحية العرس : بائعة اللبن ، وهي المرأة التي سمعها عمر رضي الله عنه ترد على أمها التي تدعوها إلى خلط اللبن بالماء:
يا أمه إن لم يرانا عمر أفلا يرانا رب عمر.
وكنا لأول مرة قد أشركنا شاباً في وضع الموسيقى التصويرية للمسرحية ، وتم تناول العشاء، وابتدأت المسرحية، وبعد أقل من ربع ساعة استدعاني قائلاً : حضرنا من دمشق لمشاركتكم فرحتكم. فإما أن توقفوا الموسيقى التصويرية، ونتابع حضور الحفل. وإما أن ننسحب من الحفل عائدين إلى دمشق.
وتألمنا كثيراً لكن لا مندوحة لنا من الطاعة ، وأتممنا المسرحية دون موسيقى تصويرية، وفي اليوم الثاني ونحن نتناول الغداء قال الأخ الدكتور أحمد فرحات له:
أنتم تدرسوننا كتاب منهج الفن الإسلامي للأستاذ محمد قطب يقول فيه : الموسيقى فنٌّ إسلامي أصيل، فقال : هذا على العموم لا على التفصيل.
فقال له الدكتور فرحات : وابن حزم يبيح كل أنواع الموسيقى.
فأجاب أستاذنا الحبيب : قال العلماء : من الحزم أن لا تأخذ برأي ابن حزم.
وعاش في دمشق في أجواء المحنة والصراع المحموم بين النظام السوري والحركة الإسلامية، وكان ضد المواجهة المسلَّحة للنظام ، وحاول ما استطاع الحيلولة دون التفلت والأعمال غير المسؤولة التي قد يقدم عليها الشباب ، ثم مضى إلى الأردن آملاً أن يصحِّح المسيرة كلها، لكن تيار المواجهة المسلحة كان أكبر منه.
وحاول أن يُرشِّد تيار المواجهة نفسه ، وقال لأكبر المتحمِّسين للمواجهة آنذاك:
أنت لا تصلح للقيادة، وأنت رجل متسرِّع ، ولا يصلح للقيادة إلا الرجل المكيث .
وعندما وجد نفسه عاجزاً عن ترشيد المسيرة اعتزلها وجلس في بيته مكتفياً بالدعاء والصلاح للعاملين.
وكان يرى في نظرته الاستراتيجية المستقبل المظلم لآثار هذه المواجهة، وكنا شباباً آنذاك نخالفه الرأي ، فيصبر علينا ، ويبلِّغنا رأيه ، ويتَّسع صدره العظيم لكل ترهاتنا.
لقد خلق داعية صموتاً ، ومصلحاً للقلوب من خلال القطرات الندية التي تبنت الإيمان والهدى والبصيرة في القلب ، حتى كان إخوانه يسمونه الجدار الإسمنتي ، لأنه لا يستجيب لأي داعية من دواعي الهيجان العاطفي ، وأكتفي بالقول عنه كما وصف الشاعر طوقان الفدائي:
صامت لو تكلما لفظ النار والدما
لا تلوموه قد رأى منهج الحق مظلما
وبلاداً أحبها ركنها قد تهدما
قل لمن عاب صَمْته خُلِقَ الحزم أبكما
هو بالباب واقف والرَّدى منه خائف
فاهدئي يا عواصف خجلاً من جرأته
رحم الله فقيدنا الغالي، وعوض الأمة أمثاله : وإننا يا حبيبنا أبا سليم نقول لك:
إنَّ العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، وإنا على فراقك يا أبا سليم لمحزونون، وما نقول إلا ما يرضي الرب.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
وستبقى ذكراك في قلوبنا ونصائحك نبراساً في عقولنا ، نسأل الله تعالى لك المغفرة والمثوبة والرحمة ، وأن يحشرك الله تعالى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
* باحث إسلامي سوري