وقال صاحبه في السجن (8)

فاطمة محمد أديب الصالح

وقال صاحبه في السجن

( من ذكريات رجل غُيِّّب في سجن تدمر عشرين سنة)

(8)

مروان

فاطمة محمد أديب الصالح

[email protected]

بمرور الزمن على هذه الأخبار التي عاشها رجال من لحم ودم وكرامة..ومهما تم رصدها بصورة أو بأخرى، ومهما مورس بشأنها من تحليل وتفسير، فإنها ستتحول إلى أساطير جميلة، تبعث في نفوس الأجيال الحب والحماس والاعتزاز، بقدر ما تبعث من الدهشة والحزن، بل إن تحولها قد بدأ فعلاً فيما نقرؤه أو نشاهده من أعمال فنية تستعير إطاراً من هنا وتفصيلاً من هناك، بصورة تسمح بقول جزء من الحقيقة لا يسبب لصاحبه حرجاً أو اتهاماً..

هنا رجل استخرجت المحنة  أحسن ما فيه، يعتبر صاحبه في السجن سنة وبضعة أشهر، أن فترة رئاسته للمهجع كانت فترة تآخ وقوة خففت عن المؤمنين وكفّت ألسنة المرجفين، يقول*:

أصله من محافظة القنيطرة جنوب غرب دمشق، في نكبة حزيران سنة سبع وستين كان في حوالي الحادية عشرة من عمره، قريته كانت على الخطوط الأمامية، فالتفّ اليهود حولها، وأصبحت القرية وراءهم فهي بحكم الساقطة.

نقل إخوته ليلاً واحداً واحداً على ظهره إلى المنطقة غير المحتلة، وتسلل الأهل ليلاً ووصلوا دمشق سيراً على الأقدام، ونزلوا في أبنية على الهيكل خصصت للنازحين أمثالهم في حي المزة.

عاشوا عيشة صعبة، وكان يعمل لإعالة إخوته، عمل ودرس ونال البكالوريا، دعمه الإخوة أثناءها، ولا أعرف متى عرف تنظيم الإخوان المسلمين.

دخل قسم اللغة العربية في كلية الآداب، كانت له ابنة عم استشهد أبوها في تلك النكبة(سبع وستين) خطبوها له فوجهها ورعاها، كما كان يعتني بتربية إخوته، وكل العائلة مستقيمة، ويبدو أن أباه كان مقعداً ومسناً، إخوته يقرّون بفضله عليهم، وظل يعمل ويدرس، كادح.

تركت خطيبته مدرسة أبناء الشهداء هي وأختها بعد حادثة نزع الحجاب(1)، وكانتا من المتفوقات، حتى إن الإدارة راجعتهما في ذلك، وتمنت بقاءهما في المدرسة.

بعد الزواج بأسبوعين اعتقل، فتابعت زوجته دراستها ودرست اللغة الإنجليزية وعملت في جدة.

كان رئيس مهجعنا فترة طويلة(المهجع5، 6) بين سنتي اثنتين وثمانين وثلاث وثمانين.

أول زيارة ظفر بها كانت سنة خمس وتسعين، أخبرني بذلك لما اجتمعت به في اللجنة(2) كما أخبرني أن زوجته لازالت تنتظره.

أكمل إخوته دراستهم في الجامعات.

قيادي ذو حنكة يقدر الناس قدرهم، حتى السفيه يعطيه على قدره، تحمل كثيراً من الضرب، عيّشنا في جو أسري، شجع الناس(3) على حفظ القرآن والقيام،  أقيمت دروس وندوات ومسرحيات(4) عملنا مسرحيات مثل: محاكمة سيد قطب رحمه الله والغلام المؤمن وغيرهما.

كان مروان يجمع بعض الشباب الواعي للحديث عن أوضاع المرضى والمغمومين والمحزونين، إذ يجب أن ننشطهم ونخفف عنهم.

وعمل لجنة لمتابعة تحفيظ القرآن( استلمها مضر الدوغلي وحسين رستم من جامع زيد) (5) وأخرى للدروس: تفسير وسيرة( مرة أعطيت عدة حلقات عن حاضر العالم الإسلامي، رسمت خريطة بالصابون على العازل وهو بطانية رقيقة نجلس عليها أو نمد فوقها شيئاً لمن وجد، معلوماتي من الكتب والإذاعات ومن قراءاتي أثناء الجامعة).

عندما انفرط المهجع كان فيه ثمانون حافظاً.

نعود إلى مروان:عندما يطلب من الشرطة إخراج المرضى للتنفس والتهوية، كان يضرب أحياناً، لكنه لا يتراجع، رغم أن بعض المهاجع لم يكن يجرؤ على هذا الطلب.

يحاول إمداد المقطوعين من الزيارات، شكل لجنة لدراسة ملابس الناس، من له حاجة يسجلها ولها أولوية، ومن عنده زيادة يعطي.

كون لجنة ثقافية لإعداد المسرحيات، ندوات صحية وثقافية، مثلاً عن الأمراض الشائعة في السجن، قدمها د. صالح خوجة، لجنة متابعة الحلقات والدروس، وكنا أول السجنة مندفعين ومعنوياتنا عالية ونرحب بالموت.

ولما مزقونا وضعوني في المهجع(29) ووضعوا مروان في المهجع(32) وسمعت أنه هناك أيضاً كان رئيس المهجع.

كنت أسمّع له القرآن، ندرس بعد صلاة الفجر قبل دخول المجرمين( يدخلون الطعام، أو يعلنون عن محكمة أو قائمة إعدام: من تسمعْ اسمه جهّزه. إذا كان حوكم فهو إلى الإعدام).

اجتمعت به مجدداً عند عرضنا على لجنة 95، وأفرج عنه في العام نفسه.

زارني مهنئاً بعد خروجي من السجن، وقد رزق بثلاثة أولاد بحمد الله(6).

              

الهوامش :

* مع الحفاظ على لغته وأسلوبه قدر المستطاع.

(1)   هي الحادثة المشهورة التي أمر رفعت أسد شقيق الرئيس آنذاك فرقة من المظليات بالنزول إلى شوارع دمشق ونزع الحجاب بالقوة عن رؤوس النساء مهما تكن أعمارهن، كان ذلك في شهر تشرين الأول من سنة إحدى وثمانين. في اليوم التالي صدر قرار رئاسي بحظر الحجاب تماماً في مدارس البنات، واستمر الحظر حتى أواخر سنة ألفين.

(2)   كانت تلك اللجنة يومها تتكون من الضباط حسن خليل وهشام ختيار ورئيس السجن غازي الجهني،  استعرضوا عدداً كبيراً من السجناء لمعرفة مدى أهليتهم(..) للخروج من السجن.

(3)   يبدو لي استخدام هذا المصطلح: (الناس)  للدلالة على السجناء، نوعاً من التجاهل أحياناً لواقع السجن، وكأنه تحول إلى حياة حقيقية لها خصائصها ومشكلاتها وحتى نشاطاتها، حياة موازية للحياة خارج السجن لا مناص من التعامل معها والتكيف مع غرابتها وقسوتها، وتحقيق بعض الانتصارات عليها أحياناً.

(4)   انظر الحلقة السابقة/7( ربيع.د)

(5)   جامع زيد بن ثابت في دمشق، وكان أشهر الشيوخ والموجهين فيه في تلك الحقبة الشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله.

(6)   وكانت زوجته، التي لا تقل عنه إبهاراً، برفقته، حكت لي طرفاً من قصتها التي رأيت فيها نموذجاً آخر من الإيمان والصبر والبطولة، ومما أذكره من حكايتها، بعد أربع سنوات: أنها بقيت مع زوجة عمها( حماتها) في غياب زوجها إلى أن تزوج الأخ الأصغر لمروان فشعرت بالحرج وفضلت الابتعاد، تجددت أحزان الأم وقالت كأن مروان اعتقل مرة أخرى.. حصلت الزوجة الصغيرة على عقد عمل في جدة، وهناك أشاعت أنها مخطوبة، مع مرور السنوات كانت تضطر لاختلاق الأعذار لطول هذه الخطبة، ولاشك أنها كانت فتاة مرغوبة لأسباب كثيرة، عملت مترجمة في مستشفى وأقامت في سكن داخلي، وصار لها زملاء وزميلات لا يعرف أي منهم شيئاً عن حقيقة وضعها.

         يوم الإفراج عن زوجها اتصل بها هو أو غيره، فلم تستطع تمالك نفسها.. وعرف الجميع القصة.

   مما لا أنساه من عباراتها في ختام حديثها عن تجربتها في الانتظار وعن تصميمها على انتظار زوجها واعتزازها به: " ليتني كنت شعرة في رأس مروان".