وقال صاحبه في السجن(7):ربيع. د

فاطمة محمد أديب الصالح

وقال صاحبه في السجن

( من ذكريات رجل غُيِّب في سجن تدمر عشرين سنة)

(7)

ربيع. د

فاطمة محمد أديب الصالح

[email protected]

في الحلقة المعنونة" قطعة حلوى" من برنامج قناة الجزيرة الفضائية( أدب السجون) تقول إحدى السجينات السوريات السابقات وهي السيدة (حسيبة عبد الرحمن) الكاتبة والناشطة في مجال حقوق الإنسان، أن السجون تقتل الخيال والكفاءات وتحد الأحلام، وأن تلك المواهب الشابة التي دفنت في السجن كانت خسارة كبيرة للوطن..

كان ربيع من هؤلاء وكذا ألوف مؤلفة من أبناء سورية الذين زج بهم في السجون في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، ولطالما تحدث صاحب هذه الذكريات عن مواهب ربيع، وتمنى أن يعرف ماالذي يفعله بعد سنوات السجن، وكانا صاحبَي سجن ست سنوات متفرقات، يقول* :

من مواليد60/61 من عائلة مشهورة في حلب، ومن أغنيائها، لكنه اتجه نحو التدين وعمل مع الطليعة المقاتلة، كان في الجامعة (سنة أولى طب أسنان) لما اعتقل، مهذب وعلى خلق، لكنه طلق الدنيا، كان يحدثنا عن حوادث حلب والاعتقالات، اعتقل في أحداث سنة ثمانين، ولم أتبين تهمته.

كان يحدثني عن التعذيب الوحشي الذي رآه وعاشه في ثكنة هنانو في حلب، وهي ثكنة عسكرية حولوها إلى سجن، عبارة عن هنغارات، جلدوهم بالكابلات الرباعية التي جردت من أغلفتها وظهرت حبالها النحاسية، وكلَّ جلدة ينفر الدم، منعوهم من الصلاة والصيام، ثم نقل إلى السجن المركزي في حلب بعد فترة التحقيق الذي مات كثيرون خلاله بلا ذنب.وقد ينقل المريض إلى مستشفى هنانو، حدث هذا معه، فيها جناح خاص بالسجناء السياسيين، وفيها تعذيب أشد وكأنها دورة تأديبية، فكان المريض يؤخذ رغماً عنه حتى لا يصاب بأُكال(غرغرينا) إن كان جريحاً.

وصف لي وضعاً مأساوياً فيها: تجويع ضرب بأعقاب البنادق ورفس وجلد، يخرجون المريض لمسح الأرض وتنظيف دورات المياه.

ثم نقل إلى المركزي وهناك يخفّ التعذيب قليلاً، وتفتح الزيارات، ربما جاءته زيارة، ثم نقل إلى تدمر، حيث عاد إلى أشد التعذيب. وانقطعت الزيارات إلى عام95رغم ثراء أهله. ( سمعت أنه جاءته زيارة فيما بعد)

أخ طيب حفظ القرآن، يتميز بالذكاء ويتمتع بموهبة الخط، يعرف كل أنواع الخطوط ودرّسها في السجن، فنان في الرسم والديكور والكاركاتير، رسم لنا بعض المرات على لوح النايلون الذي ابتكره الشباب(2).

وعندما نقوم بمسرحية ما(2) كان يصنع الديكورات والإكسسوارات والماكياج من هباب الفحم وأغلفة كبسولات الأدوية الملونة، وكانت عنده نظرة في الملابس، فكان يجمع الشخصية من الشباب، مثل شخصية ذي نواس الحميري، كان موهوباً في ذلك.

درس معي أصول الفقه ومصطلح الحديث والسيرة وحاضر العالم الإسلامي( درّسته مع عصام.ح) راجعنا القرآن عدة مرات معاً.

عرض على لجنة95، وأفرج عنه، لبثنا معاً فترات طويلة متصلة ومتفرقة، وكانت بيننا مودة.

           

* بأسلوب صاحب التجربة ولغته قدر الإمكان.

(1) يصنع اللوح من أكياس الخبز النايلون، إذ ترصّ أربع طبقات أو خمس, ثم تقصّ بالشفرة على هيئة مربع, وتخاط من أحد الطرفين فتصبح كالدفتر، ثم تدهن الأسطح الداخلية بالصابون الرطب، ثم تدهن بالشحم أو قطع من الدهن الذي يجمع مما يطفو على سطح المرق( إذ يسرق أكثر اللحم قبل وصوله إلى المهجع) فتلتصق الصفحات بعضها ببعض، وتتم الكتابة على الصفحة الأولى, فإذا رفعت زالت الكتابة. ( ثمة نماذج كثيرة في الأسواق الآن وبخاصة للأطفال).

كما يمكن الاستغناء عن طبقات النايلون بقطعة بلاستك من صحن مكسور, تقص بخيطان من البوليستير المجدولة التي تصبح كالمنشار. أما القلم فهو قطعة خشب مبرودة أو ذيل فرشاة أسنان.

استخدمناها في تعلم الخط والحفظ، أحيانا يداهمنا تفتيش و صاحبها مسؤول عنها. كنت أحفظ بالتلقي, كانت عندي واحدة وتركتها في مهجع، إذ يخضع المنقول إلى تفتيش دقيق.

(2) كان علينا أن نحول الأحاديث إلى مشاهد حركية، وقد أشرفتُ على مسرحية محاكمة سيد( كنت أشرف على المسرحيات) قام صلاح دياب رحمه الله( أعدم سنة أربع وثمانين أو قبلها بقليل) بدور رجل أمن يقوم بالاعتقالات بصورة هزلية فيرفس الموقوف ويضربه ويسرق أشياءه الثمينة بخفة، استطاع أن يضحك كل الموجودين، وأعطينا فكرة عن المحاكمة الجائرة. استفدنا من قراءاتنا السابقة لكتيبات صغيرة تحدثت عن المحاكمة، تعاونا في صياغة المشاهد وصنعنا الديكورات من الثياب، وكان ربيع مبدعاً في ذلك.

نفذنا مسرحية غنائية عن مروان حديد( الذنب ذنب شعوبها) وكان محمد.ق صاحب الفكرة، سمعها من نشيد يتحدث عن تسلط الديكتاتوريات ونشر الإلحاد.

عندما انفرط المهجع(5، 6) كنا نهيئ مسرحية الغلام المؤمن فمثلناها في المهجع29، وشاهدها الشيخ هاشم المجذوب(كان لدى اعتقاله إمام جامع السنجقدار، وله فيه حلقات للدرس، وكان من تلاميذ الشيخ صالح العقاد رحمه الله، شديد التمسك بالمذهب الشافعي، اعتقل على خلفية اعتراف من أحد قادة الطليعة المقاتلة بأنه من تلاميذه، سمعت أنه التقى به في التحقيق العسكري وأن الرجل اعتذر من الشيخ ووضح له أنه ظن أنه حتى لو اعتقل فسيفرج عنه بسرعة، دام اعتقال الشيخ هاشم ما يزيد عن عشرين سنة، رغم التوسط له أكثر من مرة، لأنه لم يقبل أي مساومة على دينه ومبادئه، من ذلك رفضه الظهور على التلفاز لصالح النظام).

كان إعداد المسرحية الواحدة يستغرق حوالي الشهر، تدريبات وتجارب، وكان ربيع يساعدنا كثيرا.

يتم العرض عند إغلاق الباب الذي يستمر من الواحدة وحتى الثالثة أو الرابعة، عملنا سترة تحول دونهم ودون رؤيتنا من شراقة السقف، والمنصة صدر المهجع.

مرة كان بقي المشهد الأخير من محاكمة سيد فسمعنا صوت المفاتيح في الأبواب، وكان( عبد الرحمن.ص) يمثل دور جمال عبد الناصر، وكان يبدو شبيهاً به بالماكياج الذي صنعه له ربيع، وقام( عبد الله.ر) من أريحا بدور يوسف الدجوي قاضي محكمة سيد(صنع له ربيع نجوماً على كتفيه)، فصرنا نستعجلهم ليتموا المشهد بسرعة.

هذه المسرحيات نشطت المهجع وأعطت دفعاً، وصار الشباب يتبادلون الحديث حول سيد رحمه الله.

كانت أيام ضرب يومي، ضرب منهجي وإن كان غير وحشي نسبياً، لكن بمجرد دخولك المهجع تنسى.