مات ممدوح عدوان !!

مات ممدوح عدوان !!

حكم البابا

    لم يخطر في بالي ولا في يوم من الأيام أن أكون أول من سيسمع خبر موت ممدوح عدوان من الطبيب الذي أعلن وفاته ، ولم أتخيل أني سأكتب بيدي نعوة ممدوح عدوان التي ستلصق في الشوارع ، ولم أفكر بأن ممدوح عدوان سيموت ، فحتى في أيام مرضه كنت أعتقد في داخلي أنه في يوم ما سينتصر ممدوح عدوان على المرض كما في كل معركة دخلها ، ولم أكن أظن أني سأكون آخر من يقبّل الجسد المسجى لممدوح عدوان في غرفة إسعاف في مشفى دمشقي ، ولكن مالم يخطر لي أو أتخيله أو أفكر به أو أظنه حدث كلّه دفعةً واحدة بمصادفة من أسوأ مصادفات حياتي ، وللصدفة السيئة عشت كل هذه المستحيلات دفعة واحدة ، وخلال مدة بدت لحظات خاطفة وهي كذلك بالفعل.

   ومع أن كل ذلك حدث لا أستطيع أن أصدق أني لن أتصل بممدوح عدوان غداً أو بعده لأخبره أني قادم لزيارته ، وأستفتيه في أي نوع من الكليسترول (كما كنّا نشفر مسميات الطعام الدسم) يشتهي لأحضره معي ، كما فعلت يوم الوفاة ، وكانت الروح لاتزال عالقة في جسده ، فممدوح عدوان يمثل بالنسبة لي أكثر مما أظن ، ولايزال صوته الناري في أذني على الشريط المسجل في اجتماع أعضاء الجبهة الوطنية التقدمية الشهير في نهاية السبعينيات مع الكتاب والصحفيين ، وهو أول معرفتي به من غير لقاء ، والتقيته لأول مرّه في عام 1979 فلم تتغيّر صورة الكاتب المقاتل العنيد ، وله فضل عليّ وعلى إدارة حياتي فيما بعد ، وبيقين يصل إلى حد التأكيد أقول أن حياتي كانت ستبدو أقل شراسة مما هي عليه الآن ، وعنادي كان سيصبح أكثر ليناً لو لم ألتق به أول مرّه في اللاتيرنا ، وثمة قاعدة في الكتابة والحياة علمني إياها ممدوح عدوان وأنا لاأزال أسير عليها ، وقد ذكرته بذلك قبل أيام قليلة من وفاته ، قال لي وهو يرسم دائرة بيده ، هذا هو الهامش المعطى لنا ككتاب ، عليك ككاتب أن لاتقف في منتصف الدائرة ، لأن هناك من سيضيقها عليك فيما لو فعلت ذلك ، مهمتنا ككتّاب أن نقف عند جدارها ونحاول توسيعها ، وممدوح عدوان واحد من قلّة من الذين وسّعوا هامش الحرية في سورية ، وفي زمن كان فيه الهامش أضيق من شفرة السكين ، مرة بالشعر ، ومرة بالمقالة ، ومرّة بالندوة ، وكان يتلقى شتى الاتهامات مرّة ممن يملكون الهامش ، فتهمهم جاهزه ، وعقابهم حاضر ، فمنع من الكتابة ، ومنع من السفر ، وسحب جواز سفره ، ونقل من جريدة الثورة كصحفي لمترجم في وزارة الاعلام ، وفرزت سيارة مخابرات لمتابعته ، ولكن ممدوح عدوان لم يستسلم ، وفي حين كان يكبر كل يوم كان أعداؤه يصغرون يوماً بعد يوم . وكان يتلقى من وجه العملة الآخر تهماً مناقضة تماماً للأولى ، فيتهمونه بالعمالة للمخابرات ، وكان دليلهم الوحيد أنه شجاع وصاحب لسان طويل ، ويقولون لك كيف بإمكانه أن يحكي لو لم يكن كذلك !

    كانت مشكلة ممدوح عدوان أنه رجل مختلف بين أشباه ، وتعب طويلاً ليقنع الجميع بنفسه وبكتابته ، وعندما فرضت موهبته وشغله ومثابرته نفسهم دخل في صراع غير متكافئ مع عدو من من نفس فصيلة أعدائه السابقين إنما هذه المره هوجم من الداخل لا من الخارج ، جاء مرض السرطان ليواجه ممدوح عدوان ، ودخلا في مكاسرة بالأيدي ، وكنت أراقبه من زيارة لزيارة ، تارة يثبّت المرض ويلوي له ذراعه ، وتارة يأخذ السرطان ثأره منه ، قال لي زياد ابنه قبل أيام إن أباه كان يقول له في بداية المرض ، سأعيش ، لكنه في الفترة الأخيرة بدأ يتحدث عن الموت ، وسمعت من إلهام رفيقة عمره كم كان يشعر بالأسى لأن أحداً لم يطلب منه في أيام مرضه أن يكتب زاوية أسبوعية لصحيفة أو مجلة ، وكبرياؤه يمنعه من أن يطلب ذلك من أحد ، ولربما مات ممدوح عدوان بمرض الإهمال لابمرض السرطان.

    منذ يومين شاهدت صورة قديمة لممدوح عدوان كان فيها في عنفوانه ، ساموراي في الكتابة ، هي التي انطبعت في ذاكرتي في كل لحظة أتخيله أو أتذكره فيها ، ولم تمحها صورة الجسد المتهاوي الذي يستند على ابنه زياد وهو يصعد منصة حفل الافتتاح في مهرجان دمشق المسرحي الأخير ، ولكن اليوم ماالذي أستطيع قوله وأنا أنظر إليه للمرّه الأخيرة مسجى في غرفة اسعاف ، وأتذكر تاريخاً من حبي له كمعلم وكصديق ، وأحقد على من حاربوه طوال حياته ، وسمموا له عيشته ، وأفكر كيف كان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك برجل أعطى سورية أكثر مما أخذ منها ، بينما هم الذين أخذوا منها ولم يعطوها إلاّ الخراب والفساد ، من وزراء الإعلام الذين سدّوا بوجهه الطرق ، وبعضهم بقي طوال ثلاثة عشر عاماً هي كل فترة وزارته يطارده ويطارد غيره من المثقفين الشرفاء ، إلى كومة المخبرين الذين كتبوا فيه التقارير وباعوه بثمن بخس ، إلى المعارضين الذي لوثوا رداءه النظيف ، إلى شقيق كل هؤلاء وابن فصيلتهم مرض السرطان .

    واليوم نحن أمام حقيقة أكيدة هي أن ممدوح عدوان مات ، ولاينفع رثاء ولاندب ، ويعزي كلام عن أدبه الخالد يقوله في حفلات التأبين من ساهموا بموته ، لكن ربما مايعزّي فعلاً أن نتخيل ممدوح عدوان جالساً مع اكسسوارته الدائمة (....) جالساً في مكان ما في الأعلى وهو ينظر إلينا نندبه وهو يتسلّى بمشهدنا الليلة ، وكل من عرف ممدوح عدوان سيراوده مثل هذا الخاطر ، لأن من عرفه لا يصدق حقيقة موته وهي حقيقة بالفعل ، فمن الصعب أن نفكر بأن ممدوح عدوان قادر على الموت بهذه السهولة ، وسيمضي وقت طويل لنتأكد بأنه تركنا وفعلها ومات !