ماهر عبد الله

ماهر عبد الله

في رثاء مقدم برنامج الشريعة والحياة

في رثاء الأخ الزميل ماهر عبدالله مقدم برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة

والذي توفي مساء يوم السبت 11/9/2004م إثر حادث مروري أليم..

كلمات أطلقها القلب وصاغتها الدموع..اللهم ارحمه واغفر له وأسكنه في عليين...

ياراثي الشهداء الحق بمن

أحببتهم ووعدتهم بلقاء

يا مظهراً للناس عظمة ديننا

ومبدداً فكراً من الأهواء

يا رافعاً بالعلم شرعة ديننا

ومُقاتلاً بالحب في استحياء

يا بلسماً للقلب من كل العني

ومداوياً بالرفق كل عناء

يا حاملاً بالقلب كل جراحنا

وجراح امتنا من الوعثاء

يا داعيا لله بالحسني ومن

عرف القلوب بحكمة وذكاء

يا صورة للقدس في أحزانها

يا قلب "يعبد" يادعاء "حراء"

يا خارجاً من أحراش "يعبد" حاكياً

عن سيرة الشهداء والعظماء

فجعت بك الدنيا رفيقاً دائماً

عبر الأثير يظلنا بلقاء

ياكاشفاً للناس أسرار الهدي

ياحاملاً للراية الخضراء

يا صنو "يوسف" في البرامج سائلاً

من "ليوسف" سائلاً بلقاء

ياباحثاً ياعالماً يا شاعراً

أضنيت قلبي ياأخي بعناء

ياراحلاً عن هذه الدنيا اصعد واقترب

فالنور منك يمدنا بضياء

ياساكناً قلبي الممزق هب لنا

من فيضك العلوي كل رجاء

ستظل حباً في سماء قلوبنا

أدميت قلبي يا"آخر الأحياء"

عقبة عبدالعزيز سوريا

              

رحيل ماهر عبد الله مبكرا: صاحب اللحية الخفيفة خفيف الظل.. الإخواني الحداثي!

2004/09/18

 هويدا طه

عرفه المشاهد العربي من خلال برنامج الشريعة والحياة الذي كان يعده ويقدمه علي شاشة قناة الجزيرة، واعتادوا علي مشاهدته محاورا الشيخ يوسف القرضاوي في أغلب حلقات ذلك البرنامج الأسبوعي، ومحاورا عددا من الشخصيات الأخري في حلقات عديدة أخري، استطاع أن يفلت فيها من أسر الشيخ المخضرم، الذي أمسك بتلابيب ذلك البرنامج الشهير، منذ بدأت قناة الجزيرة بثها للمواطن العربي في أرجاء المعمورة، ثم عرفوه من خلال مشاركته الشهيرة في تغطية حرب العراق، والتي كان فيها معلقا علي الهواء مباشرة ـ ومن قلب موقع الحدث ـ علي السقوط الشهير لتمثال صدام حسين، لذلك لم يكن مستغربا أن يفاجئ المشاهد العادي ويفجع إثر إعلان رحيله المبكر بسبب حادث مروري مؤلم، لكن دهشة وألم المشاهدين تختلف عن تلك التي أحسها وعاشها أصدقاؤه، ماهر عبد الله بالنسبة للمشاهدين كان شخصية عامة محبوبة، قريبة منهم بسبب ما يتطرق إليه في برنامجه من قضايا تهمهم ـ وإلي حد كبير ـ تكلم وحاور فيها نيابة عنهم وبما يدور في صدورهم ـ كأبناء أمة تائهة ـ بين قديم لا ينفع وحديث يتطلعون إليه، وعواطف دينية تشوه المتبقي منها بفعل حركة التاريخ، وحقائق علمية محيرة تتناقض مع كلام المشايخ المتهالك، وكان ماهر عبد الله يقف بذكاء في المنطقة الوسطي بين القديم المتهالك والحديث المبهر، وبحكم ثقافته الواسعة وتجربته الثرية ـ رغم قصرها الزمني ـ في التعرف العميق علي الغرب وفكره، إضافة إلي تجربته الخاصة كلاجئ فلسطيني ذي نشأة إسلامية محافظة، استطاع أن يدرك مأزق أمته فحاول ـ ونجح ـ في تسييس برنامجه، وتحويله من مجرد برنامج ديني ـ يتوقع له أن يكون مماثلا لعشرات البرامج العربية المتهالكة، التي لا تتعدي كونها مجرد منبر لفتاوي المشايخ حول المحرمات والممنوعات ـ إلي برنامج حي غني بالنقاش حول قضايا معاصرة، تبعا لذلك فإنه من المؤكد أن المشاهدين تألموا لرحيله ـ خاصة أنه رحيل مبكر فلم يتعد عمره الخامسة والأربعين عاما لحظة الحادث الذي أنهي عمره القصير، لكن أمرا مختلفا تماما ذلك الذي عاشه أصدقاؤه ـ وأنا منهم ـ لحظة تلقي ذلك النبأ الكريه، ورغم اعتقادي بأن الكاتب لا ينبغي أن يكتب عن ذاته في مساحة متاحة له في جريدة منتشرة، لأن الأولي أن تتاح الفرصة فيها للكتابة في الشأن ـ أو الهم ـ العام، فإن علاقتي الفريدة بالصديق الراحل تجعلني اليوم أخل بهذا الاعتقاد، الصديق الذي كنت أدعوه مازحة الإخواني الحداثي ، بدأ تعارفنا منذ سنوات عندما جمعنا نقاش حول دور الدين في حياتنا، وكان أن قلت"إن الله فكرة جميلة وضرورية للإنسان، لكن الأنبياء خربوها وزرعوا الذعر منه في نفوس ونخاع البشر"، بدأت نقاشاتنا من يومها، وحال رحيله دون استكمالها! كان أصدقاء مشتركون بيننا يقولون علي سبيل المزاح إن تلك الصداقة غريبة، فكيف يتعايش هذان الشخصان وينشأ بينهما مثل هذا الود، امرأة علمانية تري أن أمة العرب تستمد شرعية وجودها الواهية من كومة من (الهراء التاريخي)، ورجل إسلامي المشروع والهوي! وكنت أقول إنه إخواني صحيح، لكن إخواني حداثي! يرتدي بذلة أنيقة وربطة عنق، ويسلم علي النسوان دون إن يجذب يده قائلا إنه (متوضي)، يحكي النكات ويستمع إلي الأغاني الحديثة، ويقدر الجمال.. لكن بالحلال! ، وعندما عرف بأن ابني سيتوجه إلي فرنسا للدراسة، قال لي ضاحكا متعمدا استخدام اللهجة المصرية الجماعة بتوعنا هناك حيستلموه.. يأخونوه ويظبطوه.. ويرجعوله عقله إللي غسلتيه بأفكارك العلمانية البائسة ، وبنفس السياق ضحكت وقلت له لو مبعدتوش عن ابني بطرحكم الهراء ده.. حاتحول إلي شراسة القطط في الدفاع عن عيالها ! تداعت إلي رأسي عشرات المواقف والنكات والنقاشات والحكايات المتبادلة بيننا عن عراكه مع الحياة وعراكي معها، قصة رحيله طفلا من فلسطين مع أسرة لاجئة وتمحور حياته كلها حول تلك اللحظة، وقصة نشأتي في حي فقير، قلت له ذات مرة أنه حي من أحياء مصرية عديدة تبدو وكأنها (مخيمات اللاجئين المصريين) وتسميها بلادي ـ خداعا ـ الأحياء الشعبية، لكن الحقيقة أنها مخيمات.. بها كل البؤس الذي تعرفه أنت عن ظهر قلب، بصفتك فلسطيني أصبح المخيم جزء من ثقافته، وأصبحت كلمة مخيم بالنسبة له مصطلح دال علي البؤس والتهميش ونسيان أولي الأمر لسكانه، وكان اليوم الأخير الذي رأيته فيه هو يوم المؤتمر القومي العربي، حيث قلت له مازحة ياأخي ده مؤتمر القوميين والناصريين وأشباههم، بغض النظر عن كونه حلقة في سلسلة المؤتمرات الفاشلة بتاعة الفنادق الفاخرة.. برضه ألاقيك فيه؟ مش ناقص إلا ألاقيك في مؤتمر يعملوه ناس من الاشتراكيين الثوريين! وكان أن ضحك وقال لي آخر ما سمعته منه إخرسي.. مآلك في الآخر تيجي عندنا! ، لحظة وصول نبأ رحيله صباح يوم لم يعد ماهر هناك بعده، لم أشعر بالألم في بادئ الأمر، شعرت بالغضب، لماذا يتعامل القدر بهذه الخسة وذلك الغدر، لماذا بالذات إنسان لم يعط بعد كل ما عنده، ولم يأخذ من الحياة بعد كل ما له؟ هذا العبث معنا.. عراك مجهد منهك مع الحياة والظلم والكبت والفقر والخوف.. ثم رحيل غادر، نعم يموت العشرات كل يوم حولك، لكنك تعرف كم هو كريه الموت عندما يموت من كان يشرب معك الشاي مساء الأمس، عندما يموت من كنت تناقشه بالأمس وتختلف معه في كل ما يطرح، ثم يتحول الحديث إلي حكايات عن الأبناء ومشاكل مراهقتهم، وتتبادل معه النصائح كيف تعاملهم، عندما يموت من يلوح لك بيده في لقاءكما اليومي قائلا كلمة ـ اعتدت سماعها كل يوم ـ أشوفك بكره ، بالعقل الصرف تري الحدث عاديا، كلنا سنموت.. بعضنا في سيارة أو في طائرة أو علي فراشه، بعضنا في منتصف العمر وبعضنا في أرذله، فما الغريب إذن أن يموت صديق اليوم وأموت أنا غدا، لكن هذا العقل لم يصمد كثيرا أمام تلك الرغبة في البكاء، نظرة سريعة مررت بها علي الأصدقاء الآخرين.. فإذا ببعضهم مثلي .. يطلقون ضحكات عالية تخفي ورائها.. بكاء سريا، علي الصديق الإخواني الحداثي، الذي رحل دون أن نستكمل نقاشاتنا العنيفة حول تعدد الزوجات والحور العين واستئذان المرأة من زوجها، والحرية والديموقراطية، والأمة الفاشلة في فهم الحداثة كما في فهم القديم، رحل هو اليوم.. لكن المدهش حقا.. هو أننا نحن أيضا.. سوف نرحل.. يوما ما!

              

             

صحيفة القدس العربي 18/9/2004

ماهر عبد الله ... المسافر أبدا يستقر أخيرا

 بقلم: لطفي بن رمضان- لندن

تونس نيوز

ليس يهز الوجدان ويطلق عنان الحزن مثل خبر موت الأحبة ناهيك أن خالق الموت والحياة قد أفرده بوصف المصيبة "فأصابتكم مصيبة الموت". ولكن لخبر الموت في المنفى طعم أشد علقمية. تحس مرارته في حلقك كلما ذكرت أخيك أو صديقك أو قريبك الذي فارقك وقد حالت المسافات بينك وبين أن تصاحبه في لحظاته الأخيرة أو أن تلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة. شعور مختلط ليس هو الحزن الاعتيادي بل أقرب ما يكون إلى مزيج من فراغ رهيب ومرارة شديدة تحاول أ ن تبكي كما يفعل الناس فتخونك العبرات. الموت في المنفى بارد كسقيع الشتاء اللندني.

 "السفر قطعة من العذاب" كما قال الصادق المصدوق فما بالك إذا كان السفر منفى. قالوا " لأن فيه مفارقة الأحباب" فما بالك إذا كان الفراق بالموت.

 عند سماع نبأ وفاة أخي وصديقي ماهر عبد الله في نشرات الصباح يوم الاحد الماضي مر شريط الذكريات بسرعة مختلطا بشيء من الاستغراب من هذا المسافر أبدا: طفولة قصيرة في حواري جنين ثم مراهقة في عمان ثم قسّم سني شبابه بين برمنغهام ومانشستر ولندن ثم سفر إلى البوسنة في أوج الهجمة الصربية ثم عودة إلى لندن ثم رحيل إلى الدوحة ومنها إلى الرفيق الأعلى.

كانت حياته أشبه ما تكون بسفر فيه محطات سريعة في كل محطة يترك أثرا لا يمحى:

- ماهر المناضل الفلسطيني (وفلسطيني هي صفة وهوية للنضال في عصرنا كأن تقول مناضل سياسي أو مناضل حقوقي أو مناضل ضد العنصرية. "فلسطيني" هي الصفة الجامعة المانعة للمناضل بحق. لا يحقر من المعروف شيئا في سبيل قضيته تراه يجمع الملابس القديمة لترسل إلى زهرات فلسطين وتراه يجمع الأموال لصندوق الإغاثة كما يشارك في اعتصام أو في حوار تلفزي أوفي كتابة مقال أو في الاتصال بشخصية.

- كل الطرق لديه تؤدي إلى فلسطين: يتحدث عن فظاعة العسكر في الجزائر والانقلاب على الديمقراطية فتظنه جزائريا، وهو يصب جام غضبه على الديكتاتورية في تونس ويتألم لمحنة الاسلام في أرض الزيتونة ولمساجينها تظنه ابنا بارا للخضراء وهو ينقد ويحلل الأوضاع في مصر تظنه ينحدر من قلب الكنانة ...  

- ماهر الداعية الإسلامي الذي اكتشف مبكرا أن الغرب لا يتسع للأساليب التقليدية في الدعوة بل هو يشتمل على آليات ومداخل لا يستقيم أمر المسلمين فيه إلا إذا استوعبوها وأحسنوا توظيفها فكان من الوجوه الإسلامية الأولى التي ظهرت على شاشة النيوز نايت (نشرة البي البي سي المسائية ذات الصيت العالمي) ينافح عن قضيتيه التوأمين: الإسلام وفلسطين بلسان أنجليزي ، كما لسانه العربي فصيح وبليغ.

- ماهر الحركي الذي لا يفرغ حتى ينصب لا يعرف الكلل ولا الملل. من الرواد الذين أرسوا دعائم العمل الإسلامي في بريطانيا والرابطتين الإسلامية والفلسطينية. له قدرة عجيبة على وصل الليل بالنهار لا يكل من عمل حتى يتمه على أحسن وجه.

- ماهر الصحفي الملتزم بقضايا الأمة: فلسطين، البوسنة، العراق، السودان، لا يبخل بقلمه يلقي الكلمة لا يهمه هل في صحيفة دولية أم في نشرة داخلية بسيطة. قلمه جواد لا يعرف الكلل ولا الكسل.

- صوته الهاديء الطافح مرارة وسخرية من الذين عجزوا عن إسقاط الديكتاتور ثم عجزوا عن اسقاط تمثاله فاستعانوا في المرتين بدبابات الأغراب وهو ينقل الفاجعة بسقوط بغداد يوم 9 أبريل 2003 على مدى ثلاث ساعات كاملة لا زال يرن في الآذان.

عندما لقيته بعدها في أحد فنادق لندن سألته كيف تمالك نفسه هو الممتلئ بأمجاد الأمة وهو يرى بغداد تسقط؟ قال أن الناس في الخارج كانوا يرون في سقوط التمثال نهاية المعركة وكان يرى فيه بدايتها بعد إن انزاح الكابوس عن الشعب العراقي وقد صدقته الأيام.

هو مزيج من كل ذلك مضاف إليه نكهة خاصة لا تجدها إلا لدى ماهر. لا يؤرقه شيء مثل المفارقة الكبرى بين المثال الذي يحمله والواقع الذي يعيشه لا يسأم من محاولة إعادة الواقع إلى المثال فتراه دائم النقد إلى حد السخرية. إذا سمعته ينتقد تظن أنه مغادر ولكن إذا نظرت إلى الصف من ناحيته لا تراه إلا مرصوصا مستقيما.

ماهر لا تستوعبه القوالب الجاهزة للمناضل الإسلامي الكلاسيكي.  هو شديد العقلانية ذو أفق موسوعي: في العقيدة له باع، في الفقه وأصوله له ما يقول، في السياسة مبدع، في الأدب شاعر... يحدثك في الفن، في التاريخ، في الأدب، في الميكانيكا جديث العارف. يقطع كتابة مقال ليصلح آلة الكترونية يجمع بين كتابة الشعر والتحليل السياسي والمقالة الفكرية ودراسة الهندسة الميكانيكية.

عرفت ماهرا في أيام المنفى اللندني العجاف عندما كان يبكّر بسيارته القديمة صباح الأحاد لنجول على أسواق الاثاث القديمة لعل فيها ما يحتاجه البيت وعرفته وقد انفتحت له أبواب المجد فأصبح صحفيا لامعا في أشهر القنوات العربية وعاد ينزل عندما يزور مدينة الضباب في أشهر الفنادق واستبدل سيارته العجوز بالمرسيدس. لم يتغير الرجل. هو ذاك الحامل هموم الأمة المتواضع الكاره للتملق والزيف والكاره أكثر لمن يتقنهما.

بعض الناس تغيره وظيفة صغيرة وبعضهم ينتفخ لمجرد مقال تنشره له صحيفة مغموره ماهر نجح في الحفاظ على حجمه ووفائه لماضيه ولأصدقائه ولمراتع صباه وللخيمة التي أظلته صغيرا بكلمة: أصيل.

ماهر واحد من تلك الشهب شديدة الإضاءة ولكنها تمر في لمح البصر في سماء الامة.

لم يصدق كل من سمع الخبر للوهلة الأولى أن ذلك المسافر أبدا قد استقر أخيرا في أكناف حبيبته الأولى: فلسطين.

 كان الألم يعتصر قلبه كلما اختطفت يد الغدر واحدا من أحبابه هو اليوم يلقاهم جميعا إن شاء الله "إخوانا على سرر متقابلين". 

رحل ماهر عن دنيانا في زمن يحسد فيه الأحياء الموتى وقد قال في مثله ابن الأثير ليت أمي لم تلدني لأشهد هذا اليوم.

ماهر يزفه أشبال المخيمات الفلسطينية وزهرات جنين. وتبكيه عمان ومنافي بريطانيا الباردة وتحزن عليه مساجد سراييفو. ويفتقده أخوانه وأحبابه.

أخلص التعازي والدعاء بالصبر فهم مثلنا أحوج ما يكونون إلى الصبر لأم أسامة ولأسامة ورباب وضحى.

ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما (النساء 100) رجاؤنا في الله أن يشمل أخانا وحبيبنا ماهر بهذه المكرمة.

 

             

ماهر عبد الله

محمد كريشان

الصدمة كانت قوية جدا وأقوي مما يحتمل، لم يصدق أحد منا في البداية أن ذلك قد حدث فعلا: ماهر عبد الله الذي لم يكن يكل أو يمل من الجلوس مع الزميلات والزملاء في كل وقت مبكر كان أو متأخر ليتحدث في كل شيء ويناقش كل شيء، يغادرنا فجأة دون وداع أو تنظير كما يريد دائما أن يقدم أفعاله أو يبررها.

 لا راد لقضاء الله سبحانه وتعالي، ولكن لم يكن من السهل أبدا علي كل من عرف ماهر أن يراه هكذا يرحل دون مقدمات فقد كان الرجل أقرب إلي الموت في ذهننا وهو يغطي الحرب في العراق وبغداد تنام وتستيقظ علي جحيم القنابل، وقد كان فعلا كذلك ومكتب الجزيرة يقصف مرتين وفيه يستشهد الزميل طارق أيوب، بل إن ماهر نفسه كان يقول للجميع إن الشظايا التي اخترقت جسد طارق كان مقدرا لها أن تصيبه هو لولا إصرار طارق أن يحل محله ويبادر إلي الصعود إلي سطح البناية لتغطية وقائع القصف الجاري يوم الثامن من (نيسان) أبريل علي العاصمة العراقية، وكأنه أراد طوعا الانسحاب من رؤية الدبابات الأمريكية وهي تدخل عاصمة الرشيد غازية بدعوي تحريرها وهو المشهد الذي نقله ماهر بمزيج رائع من المهنية والدرامية إلي ملايين الناس في ثلاث ساعات التهم خلالها أربع علب من السجائر.

كان رحمه الله مدمنا علي التدخين والسهر ومدمنا علي جلسات النقاش التي لم يكن مهما بالنسبة إليه أن تكون بعد منتصف الليل أو مع بزوغ شمس يوم جديد، وكثيرا ما كنا نتساءل متي ينام هذا الرجل الذي أجاد فن العلاقات العامة بشكل لا مثيل له، فقد كان مستعدا دائما لملاحقة كل من يحل ركبه في الدوحة من الزملاء والمفكرين والسياسيين، يسهر مع هذا ويفطر مع ذاك ويستضيف هذا علي الغداء والآخر علي العشاء، وكان يستمتع بأن يكون معه في كل مرة أكثر من زميل علي شرف هذا الضيف.

ورغم تسكعه الدائم ليلا ونهارا بحثا عن جلسات الحوار المهنية والسياسية والشخصية التي غالبا ما يمتزج فيها الجد بالهزل، كان ماهر قارئا نهما لا تدري متي يجد الوقت ليلتهم آخر المقالات الصادرة يوميا في الصحف العربية والبريطانية والأمريكية والعبرية كذلك، كما أن مكتبته الشخصية تزخر بمئات العناوين التي يحرص دائما علي اقتناء أهمها وأحدثها. ولهذا كان الراحل أقرب إلي الصحافي المستمتع بالنقاشات الفكرية والايديولوجية منه إلي الصحافي بمعناه التقني الجاف ولهذا أبدع في كتاباته باللغتين العربية والأنكليزية ـ وبعضه لم ير النور بعد من بينها كتاب عن تغطية الحرب في العراق ـ ربما أكثر مما كان مبدعا في التلفزيون الذي لم ينصفه بالكامل حين لم تتجاوب معه الكاميرا بمثل السخاء الذي تجاوب به القلم الذي ربطته به قصة عشق أعمق.

ومع أن التزامه الديني والسياسي لم يكن خافيا إلا أنه امتلك من سعة الأفق والايمان بالتعددية ما يجعله قادرا علي التعامل مع الجميع بأريحية كبيرة زادها ثقة ثراء الزاد وسعة الاطلاع مما جعله صديق الجميع من زملائه في قطر وخارجها مهما تعددت مشاربهم وحتي نزواتهم أحيانا مما، للأسف والحزن الشديدين، يجعل من رحيله المبكر بلا استئذان خسارة كبري ليس فقط للمحطة التي يعمل بها والحقل الإعلامي الذي اختاره وإنما أيضا للعائلة الفكرية التي انتمي إليها والتي هي الآن أكثر من أي وقت مضي في حاجة ماسة لأمثاله من العقلاء.

 (المصدر: صحيفة القدس العربي الصادرة يوم 15 سبتمبر 2004)