الشيخ محمود عمر المشوِّح "أبو طريف"
سورية فقدت علما من علمائها
الشيخ محمود عمر المشوِّح "أبو طريف"
بقلم: فاروق مشوح
في الذكرى الرابعة لوفاة العالم الخطيب المفكر الشيخ محمود مشوح
رحمه الله رحمة واسعة.. نقدم مـا وصل إلينا عن هذا العالـم الجليـل
"الذي ظلم حيا ،وظلم ميِّتا"
وعودا على بدء ،نقول في ذكراه الرابعة _ عليه من الله الرحمة والرضوان _..
ولقد عُرفتَ وما عُرفتَ حقيقةً ولقد جُهلتَ وما جُهلتَ خمولاً
هذا هو الشأن في عالمنا الجليل "أبي طريف" رحمه الله تعالى ،ولئن صدق هذا القول في أحد من أهل العلم ؛فهو أصدق ما يكون في الرجل الكبير ،والخطيب المِصْقع ،والمفكر النابه ،والإنسان الفذ ؛المعروف في منطقة شمال شرق سورية ،وأنحائها القريبة والبعيدة ،وما يتصل بها من شرق البلاد وغربها ؛ممن يسمع بأهل العلم والنباهة والذكاء ،أو يتابع أخبارهم … وعلى مدى نصف القرن الميلادي المنصرم … ذكرت ذلك _ وأنا أقف على موعد ذكرى وفاته الرابعة_ برَّد الله مضجعه وأنزله منازل الأبرار _..والفضل بعد الله تعالى _لأخي الوفي _أبي أسامة عبد الله الطنطاوي … الذي ذكرني الطعن وكنت ناسيا _كما يقولون _وأنا أقول _بحق _إنني ما كنت ناسيا ،ولم يغب شخص "أبي طريف" عن خاطري ،ولن يغيب ،.. وكيف أنسى ذلك الرجل الذي أعيش معه وأنا أفكر ،وأخالطه وأنا أتأمل ،وأتمثل سلوكياته ؛وأنا أتحرك في معظم تصرفاتي ،ومختلف أحوالي .. إنني أشعر _ومنذ زمن بعيد ،وحتى أيامي هذه _أنه رفيق درب لم يتخل عن رفيقه ،ولم يختلف مع صاحبه ،ولم يبخل بمعروف على من أحب ومن لم يحب .. فشأنه عطاء ،وديدنه وفاء ،وحياته كلها صدق وانتماء .. فهو جزء أصيل من مسيرتي ؛بل أنا ذلك الجزء الذي عبَّ من ذلك المعين ولم يرتوِ ،ونهل من ذلك النبع ولم يبلغ الغاية ،وعانق تلك القامة السامقة ولم يدركها ..لكنه ظل يتطلع إليها بشوق ،ويرمقها بشغف وحنين .. إنها الذكرى التي تبعث الحضور ،والغياب الماثل الذي يرتسم شهودا يملأ النفس ،وتكاد تتقراه اليدان .. وتلكم هو الفراغ الذي تركه "أبو طريف" في العقل والنفس والوجدان ..لقد استولت شخصيته البارزة على قلبي وعقلي ولساني ،وانبجس علمه وحديثه نبع تفجر في جوانحي إعجابا وحبا ومهابة ..أعود إليها كلما قرأت كتابا ،أو سمعت خطيبا ،أو شهدت حفلا أو أصغيت إلى صاحب فكر أو قلم أو لسان … وليس الخبر كالعيان …
لقد صدق قول _أخي أبي أسامة _في الرجل عندما قدمه في "موقعه أدباء الشام "على أنه العالم الجليل "الذي ظلم حيا وميِّتا " وأي ظلم أعظم من أن تغيب هذه العبقرية الفريدة ؛بلا تسجيل تقرأه الأجيال ،أو نشر تستفيد منه الأمة … وذكراه هذه تبعث في القلب شجىً ،وفي النفس أسى وحسرة ؛ولرب ذكرى جددت حزنا ،..لما فات على الناس من علمه وفكره ونظراته .. وهكذا يموت العلم بموت العلماء _كما جاء في الأثر _وقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص ،قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من العباد ،ولكن يقْبضُ العلم بقبض العلماء … الحديث ".. لقد جاء هذا الظلم على الرجل من أكثر من جهة ،وتعاورته الخطوب على أكثر من ناحية … ولعلي أبدأ بالناحية الأولى ،والجهة الأقرب ،بادئا بنفسي _ كاتب هذه السطور_ وأخواني الذين كانوا حوله وقريبين منه ممن لم يخدم تلك الأفكار المبدعة ، ويعنى بمقولاته الفاذة ،والآراء الحصيفة ،ونظراته الثاقبة ؛وذلك بتسجيلها في وقتها ،والرجوع إليها في تحقيقها ،والتثبت منها .. ولعلنا ركنّا آنذاك إلى تلك الأشرطة التي كانت تسجل أفكاره ،وتركها إرثا علميا متميزا ، وثروة نادرة _ هي كل ما بقي من علمه ،ولكن لم يتهيأ حتى الآن من يبرز دررها الغالية ،ويميط اللثام عن علمها الغزير ..وهي تحتاج إلى جهد وعلم وتفرغ ،وهي مهما بذلنا فيها من عمل مبدع ومكلف لن تقدم ذلك العالم على حقيقته لاقتصارها على زوايا معينة من الفكر ،وأسلوب واحد من البيان ،ووجهٍ واحد من التعبير .. ومع ذلك فما لا يدرك كله لا يترك جلُّه .. والناحية الأخرى التي جاء منها ذلك الظلم على الرجل هي من جهته هو ،إذ كان _رحمه الله _ شديد الوطأة على نفسه ؛بما يمكن أن يسجل عليه من رأي ،أو يصدر عنه من قول أو فتوى ،إلا بعد مراجعة صارمة ،وتمحيص دقيق ؛إذ كان كثير المراجعة لهذه الآراء ؛فلا يقبل من القول مبتسرا،ولا من الرأي فجا متهورا ،..والذين سمعوا لفقيدنا العزيز ،وأصغوا إلى آرائه لأول وهلة ؛قالوا متسرعين: إن الرجل غارق في التراث وحده إلى أذنيه ،متمسك به إلى حد التعصب ..، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن الرجل يقرأ المكتبة العربية كتابا واحدا ؛فهو يقرأ كتب التفسير والحديث والفقه إلى جانب كتب اللغة والشعر والمعاجم على حد سواء ،بل يضيف إليها _ما غاب عن كثير من علمائنا ومشايخنا من الفكر الغربي بشقيه الاشتراكي والرأسمالي ،ويتكلم في هذا الفكر وكأنه واحد من منظريه ،حيث يسرد مقولاتهم بأمانة وإتقان ،ثم يكشف ما فيها من ثغرات وعثرات ،غير متجاهل ما فيها من صواب وفائدة،ساعده في ذلك ذكاءٌ وقّاد ،وحافظةٌ واعية ،ودأبٌ ومصابرة ؛حتى لا تراه إلا مكباً على كتاب ،أو حاملا له بلا ملال ولا كلال ،فإذا علمت ذلك ذهب عجبك لأسلوبه القوي الرصين ،ومفردات لغته العالية ،المتدفقة في سهولة وانسياب ،بلا تكلف أو تردد أو التواء..
وهنا لا بد من وقفة مع الرجل في مراجعاته لآرائه ،وتجديد نظراته كلما رأى فيها نقصا ،أو لمس فيها جنفا ،سواء جاء ذلك من غيره ،أو من تأملاته الذاتية ،وهذا هو الأغلب في تلك المراجعات ،ذلك أن من حوله ،لا يستدركون إلا في النادر ،ولا يلاحظون إلا لماما ،لما يسمعون من فكر مدهش ،وأسلوب أخاذ ،وقول بليغ ،وحجة ناهضة .. لكنه _هو الذي يجدد دائما ،ويتخلى عن مقولات كثيرة أطلقها في أوقات رآها بعد ذلك لا تصلح لما فيه من حال ،ولما أغناها من معرفة متجددة ،وسعة اطلاع دائمة مستمرة ..وأذكر هنا واقعتين سمعتهما منه ،وشهدتهما معه ،الأولى ؛أني ذكرت له يوما ؛بأن بعض الإخوان قد فرّغوا تسجيلات خطب الجمعة في موضوع تفسير القرآن _حسب ترتيب المصحف ،وله في هذه الخطب تسجيلان ؛أحدهما حسب الترتيب المعروف في الكتاب الكريم ،وهو القديم ،والثاني حسب النزول ،وهو الأحدث _فرد عليّ _رحمه الله _باطمئنان وتَمَكُّن ،إن هذه الآراء التي وردت في كلامي قد تجاوزتها منذ زمن ،وأعدت النظر في معظمها ،ولو تهيأ لي الوقت والمناسبة لقدمت مراجعة كاملة لها ،لذا فأنا أتمنى على الشباب أن لا ينشروا شيئا منها .. وعندئذٍ توقفنا عن ذلك المشروع ..وليتنا لم نفعل … والواقعة الثانية في هذه البابة ،وقد حدثني بها _في لقاء معه بعد غياب طويل _قال :لقد كتبت مجموعة ممتازة ،في نظريات الحركة ،للعمل الإسلامي المعاصر ،وَقَعَّدْتُ أسسا فكرية متينة ،لعلها تفيد في انطلاقة إسلامية سليمة ؛لكنني ؛وبعد أمور ترامت أخبارها من أوساط تدعي ولا تعمل ،وتقول ولا تفعل ،وتشوه ولا تستقيم _رأيت تأجيلها ،ثم يممت بها النار ،وأنا أنظر إليها تحترق بأسىً وحسرة … كانت هذه الحادثة شديدة الوقع على نفسي _يوم ذاك _فلا تسأل عن حزني خلال حديث تلك الساعة _لأنني أعلم بأن ما يكتبه الرجل نفيس لا يأتيه إلا الخاصة من العلماء ،نادر لا يتكرر على مر الليالي والأيام ،وبخاصة في تلك المواضيع الحساسة ،التي يفتقر إليها المخلصون في هذا الميدان ..
عالمنا الفقيد ظلم _كما قدمنا _من تلك الجهات التي أتينا على ذكرها ،ولم يسلم من ضروب أخرى من الظلم وقعت عليه من الناس والبيئة والسلطان .. فإذا كان المكان قد أعطاه فرصة التفرغ للعلم والمعرفة والتحصيل ،فقد حصره في دائرة بعيدة عن التأثير والنشر والذيوع ،وإذا كان الناس قد قدرته وبوأته المكانة والمهابة والاحترام ،فقد حرمته العطاء الواسع ،والاستفادة العامة ،والخير العميم ،أما السلطان فحدث ولا حرج ؛لقد تلقى كل هذه الضروب من المحاصرة والمتابعة والتضييق راضيا ،واستقبلها محتسبا بلا شكاة ولا تبرم ،إنه الحِلْم الذي استوعب فيه الغضب ،والإباء الذي قابل به الإغراء ،والصبر الذي داوى به الجزع ،والشجاعة التي ذللت كل الصعاب ،والرضى الذي كان سكينة وبلسما وارتياح …
الحديث عن أبي طريف لا يمل ،وسيرته طويلة غنية ،تحتاج إلى قلم لا ينفد مداده ،ولا تتعثر خطاه ؛والذي يمنعني من الاسترسال في هذه الكلمة هو خشيتي من التطويل والإملال ،وبخاصة إنني لم أقدم حتى الآن نصا من كلامه ،ولا شاهدا من علمه ،_وأنّى لي ذلك _وليس لدي إلا ما تحتويه الذاكرة ،وما تبعثه الذكرى ،فهذه التسجيلات التي ذكرتها ،تحتاج مني إلى وقت وجهد ومعاناة _غير قادر على تلبيتها _وهي الآن في عهدة أخ عزيز لعله يستطيع أن يستخرج منها ما يفيد ،وما يقدم الجديد _على أنني أقول إن الرجل وراء ما ذكرت ،وفوق ما قدمت من كلام عليه ،إنه تاريخ ضخم لعالم تنبه منذ طراءة الصبا ، وأوائل الشباب إلى هموم أمته ،وما يراد بها ،وما يكاد لها ؛فنهض بهذا العبء على أساس من علم مكين ومعرفة راسخة ؛وسوف أقدم شاهدا واحدا يأتي في خاتمة حديثي عن الفقيد الغالي .. فلقد جاءته _يوما من الأيام _رسالة من أخ مجاهد معروف في إحدى المحافظات السورية يدعوه وإخوانه إلى الجهاد ،وكان يقدر ذلك الأخ الشهيد رحمه الله ،ويشيد بفضله دائما عندما كان الأخ المذكور يتهم بالعنف والإرهاب _بتعبير هذه الأيام _فما كان من فقيدنا رحمه الله إلا أن بدأ بسلسلة خطب ،تجاوزت سبع جمع على منبر مسجده وبين الناس ،شرح فيها بتفصيل عميق ،وكلام واضح مبين ؛أن ما يقوم به المسلمون هو الجهاد الذي يحمي بيضة الدين ،ويذب عن دعوة الله رب العالمين ،وان الإرهاب والعنف هو بضاعة غربية عريقة ،صَدَّرها لنا أعداؤنا ،ثم اتهمونا بأسوائها ،ونشروا بيننا قبائحها ،وهو بهذا قد فضح جذور هذه المشكلة منذ نباتها الخبيث الأول حتى انتشارها ،اتهامات ظالمة ،وافتراءات باطلة ،ودعاوى كاذبة على هذه الأمة الشريفة … وأمثال هذه المواضيع الهامة كثيرة في خطب الرجل وأحاديثه ،ولن أستطيع أن أستطرد في هذه الموضوعات .. وحسبي أنني قدمت سطورا عريضة في سيرة الرجل ،وملامح بارزة في حياته ،وإضاءات كاشفة عن علمه … ولعل الله يهيأ من إخواننا الذين عرفوه ،وشهدوا جلساته الممتعة ،وقطعوا إليه المسافات البعيدة ؛حتى يسمعوا منه ،ويأخذوا عنه شيئا من العلم لا يجدونه عند غيره … فلعلهم يكتبون أو يحاولون ؛وفاء لأصحاب الفضل ،وشكرا لأهل النعمة ..
سيدي أبا طريف ؛لئن عرف عِلمَكَ العارفون ،وغفل عن ذكرك الغافلون :
فلقد عُرفْتَ وما عُرفْتَ حقيقةً ولقد جُهلْتَ وما جُهلْتَ خمولا
وبعد _فيا أبا طريف _عمنا الكريم _أي علم باذخ طوي بموتك ،وأي دليل هاد غاب برحيلك ،وأي ضوء ساطع طُفئ بغيابك ،وأي أنس _في وحشتنا هذه _سلب من حياتنا بفقدك ،وأي حزن أسود نشب بقلوبنا عند ما احتجنا إليك فلم نجدك…
ما في الصحابِ أَخو وَجْدٍ نُطارحُه حديـث نَجْـدٍ ولا صـبٌّ نـجاريــه
رحمك الله رحمة واسعة سابغة ،وجعل كل ما قدمتَه لدينك ولأمتك وللغتك العربية الشريفة ،في موازينك وفي صحائف أعمالك ،يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ..
غرة ربيع الأنور 1425هـ.
ولدك أبو سعيد
أوائـــل أيــــــار 2004م.
فــــــاروق محمد سعيد مشــــوح