وليد بن عبد الكريم بن إبراهيم الأعظمي العبيدي

صفحات مضيئة من أعلام الصحوة

وليد بن عبد الكريم بن إبراهيم الأعظمي العبيدي

(1349/1930_ 1426/2004)

 

بقلم: محمد علي شاهين

كلّما عرّجت على جوهرة العبدلي في عاصمة الثقافة الأردنيّة عاودني الشوق للقاء الدكتور داود عباس مدير دار الفرقان متّعه الله بالصحّة والسعادة، فتتناغم روحي مع روحه ويحدثني عن ذكرياته في فلسطين ومطاردة البوليس السياسي له أيّام الدراسة في القاهرة، وكثيراً ما كان ينضمّ إلينا صدفة زائر للدار، أو ضيف حلّ بالعاصمة فتنقلب الزيارة إلى مجلس علمي دونه قبّة الغوري وصالون العقّاد .

ذات يوم جئت دار الفرقان كعادتي وقد ترك الدكتور عبّاس مكانه فارغاً، فجلست على نفس المقعد الوثير الذي كنت أجلس عليه أمام مكتبه، وكان قد سبقني إلى الدار رجل في العقد السابع من عمره يرتدي ثوباً أبيض ويغطّي رأسه بطاقيّة بيضاء ناصعة، فحييته بتحيّة الإسلام وجلست بجواره، فلمّا تحدّث بلهجته البغداديّة الفصيحة شعرت بأني أمام رجل من طراز جديد .

وجدته يتمتّع بوعي سياسي كبير، وقدرة على تحليل الأحداث، وروح عالية، وأمل كبير بالنصر على الغزاة، وثقافة موسوعيّة متينة تلفت إلى صاحبها الأنظار، اكتسبها صاحبها بالتلمذة على كبار العلماء، والقراءة المتأنيّة في أمهات كتب التراث، وزانتها موهبة فنيّة راقية في ميدان الشعر والنثر أوتيها عن جدارة، ومهارة في الخط العربي ترتقي بصاحبها إلى مصاف كبار الفنّانين الإسلاميّين في عصر الصحوة، فخشيت أن ينهض الرجل من مجلسه ولم أتعرّف عليه، فقدّم نفسه بكل تواضع .

كنت شديد السعادة لمّا أدركت أنني أمام الشاعر الإسلامي الملتزم، الأديب الناثر الخطّاط شاعر الشباب، وشاعر الحقائق، أديب العراق وشاعره وليد الأعظمي، فلم أتمالك نفسي حتّى نهضت إليه وقبّلت رأسه وجلست بين يديه كالمريد، وأقسمت عليه أن يكون ضيفي ما دام في عمّان، فاعتذر بالسفر ومواعيد الطبيب، ووعدني بزيارة خاصّة إذا كان في العمر بقيّة .

ولد في الأعظميّة ببغداد ونسب إليها، عشق الشعر والخط من شواهد قبور الأعظميّة منذ صباه .

حفظ قصائد كبار شعراء العربيّة، وتأثّر بحسان بن ثابتّ ومعروف الرصافي، وعكف على دراسة الأدب والتاريخ، وتقليد كبار الخطّاطين .

انتسب إلى (جمعية الآداب الإسلامية) ثم إلى (جمعية الأخوّة الإسلامية) ببغداد، وتأثّر بعالم العراق الشيخ محمد محمود الصوّاف، الذي شجّعه على إلقاء قصائده فوق منابر الحركة الإسلاميّة في المناسبات الدينيّة والوطنيّة، ونشرها له على صفحات (مجلة الأخوّة الإسلامية) وكان يحرص على حضور مجالس علماء الأعظميّة الكبار، أمثال: الشيخ عبد القادر الخطيب، وأمجد الزهاوي، وقاسم القيسي .

وأسهم في تأسيس (الحزب الإسلامي العراقي) سنة 1379/1960 .

وتعرّض بسبب مواقفه الوطنيّة الثابتة ومنهجه الفكري الرصين، وكلمة الحق التي كان يجهر بها على منابر العراق للاضطهاد والقمع الفكري في عهد الديكتاتور عبد الكريم قاسم واضطهدته الزمر الشيوعية الباغية التي سيطرت على مقدّرات البلاد، وقبضت بيد من حديد على مقاليد الأمور في عراق الرشيد .

رافق مسيرة الخطاط هاشم البغدادي عشرين سنة، وكان له تأثير كبير على شخصيته وريشته، وحصل على إجازات في الخط من كبار الخطّاطين المعاصرين أمثال: محمد طاهر الكردي، ومحمد إبراهيم البرنسي المصري، وأمين البخاري المكي، وتلقّى دراسة منهجيّة في الخط من معهد الفنون الجميلة ببغداد سنة 1385/1965 .

واشتغل في تصحيح وكتابة عناوين مخطوطات المجمع العلمي العراقي .

ترك آثاراً فنية في جداريّات مساجد بغداد، تمثلت في عدد من اللوحات الفنيّة الأنيقة الرائعة الجمال، أمّا آثاره القلميّة فتدلّ على كفاءته واقتداره وعلوّ كعبه في ميدان الشعر والنثر

أصدر عدّة مجموعات شعرية قيّمة منها الشعاع) 1378/1959 وديوان (الزوابع) 380/1961وأهداه إلى الكاتب الإسلامي الكبير سيّد قطب تقديراً وحبّاً، وقدّم له الأستاذ نعمان عبد الرزاق، تحدّث فيه عن تجربة الشاعر ومقوّماتها، وعن علاقة الأعظمي بشعره، ومدى تحقيقه أهدافه من خلاله، وعن الأغراض التي طرقها، ومجموعة (أغاني المعركة) 1385/1966 وقدّم له المحامي نور الدين الواعظ، تحدّث فيه عن أسلوبه الفني واتجاهاته ومضامينه ومطلعه:

لساني لم ينطق حراماً ولا هوى       وشعري لم يضم كلاماً مفنّداً

 وكتب في التراجم: (تراجم خطاطي بغداد المعاصرين) 1397/1977 و(جمهرة الخطاطين البغداديين) 1406/1989 و(شاعر الإسلام حسان بن ثابت) 1385/1966 وكتب: (المعجزات المحمدية) و(أعيان النعمان وجيران الزمان) و(خصائص الخط العربي) وحقّق: (ديوان العشاري) 1397/1977 و(ديوان الأخرس) 1400/1980 وأصدر سلسلة (أبطال من الإسلام) 1399/1979 وردّ على ترّهات أبي الفرج الأصفهاني فيما جمعه من أخبار مكذوبة، وغير موثقة، تسيء إلى آل البيت الكرام، وإلى الخلفاء، بما هو مدسوس من الروايات، في كتاب (الأغاني) وراح يفحص رجال السند الذي روى الأصفهاني عنهم، ويعزل أولئك الكذابين، ويعلّق على كثير من المباحث الخبيثة التي وردت دون استقصاء وتمحيص، في كتابه (السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني) و(الرسول في قلوب أصحابه) و(تاريخ الأعظمية) تناول فيه تاريخ مدينة الأعظميّة منذ تأسيسها حتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري، في أربعة فصول، بسط فيه القول في نشوء المدينة ومساجدها ومقابرها ومؤسّساتها العلميّة، وحوادثها، وجعل أخبارها مرتّبة على سني القرون، وخصّص فصلاً كاملاً في أعلام الفقه والقضاء والأدب والشعر واللغة والفنون والسياسة، الذين أنجبتهم، وله كتاب مخطوط (شعراء الأعظمية) .

ومضت الأيام مسرعة طوى الموت فيها مجلس الأنس والوقار والفطنة والألمعيّة، وغيّب الدهر رجلاً دقّ ناقوس الخطر فوق رؤوس النيام وأفهمهم أن العدو جاثم فوق الصدور، داعية الأصالة والصحوة والتجديد أستاذنا المرحوم وليد الأعظمي  .