من ذكرياتي مع الحبيب الراحل الأستاذ أبي بلال
من ذكرياتي مع الحبيب الراحل
الأستاذ أبي بلال
بقلم: عبد الله الطنطاوي
-1-
قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء
بل و... يا منصف الأحياء من الأموات
ما كنت أحسبني أرثيك أيها الحبيب، أنا الغريب في بلدي الحبيب..
كنّا نمنّي أنفسنا بعودة كريمة إلى حلب، وأنت الصاحب ورفيق الدرب..
لنردّ إليك بعض ما طوّقتنا به من ألوان (الجمايل) في البلد المضياف..
ولكن.. شاء القدر، وحُمَّ القضاء، ولكل أجل كتاب.
-2-
كان تعارفنا الأول عبر الرسائل عام 1957 بعد تأسيسنا (رابطة الوعي الإسلامي) في حلب عام 1956 وكان انتسب إليها من الأدباء في الأردن الشقيق، ثم كانت الوحدة بين سورية ومصر، وتوقّف عمل الأحزاب والجمعيات والروابط، وخاف الناس، وتقطعت الوشائج، إلى أن صدرت (اللواء) الغراء، فعاد الاتصال، ولكننا كنّا نعمل تحت الأرض، فقد عاد (الحارس الملعون) يحصي الأنفاس، فانقطع الاتصال، إلى أن جئت عام ثمانين مع من هرب من وطنه.. جئت إلى عمّان -البلد المضياف- وعلم الأستاذ الحبيب أبو بلال بوجودي، وحصل على هاتفي، فكان اتصال، وكان تعارف ولقاء.. اتصلت الأشباح بعد تواصل الأرواح، فكأننا يعرف بعضُنا بعضَنا الآخر منذ سنين، فرُفعت الكلفة بيننا، وانطلقت ضحكاتي الحزينة تملأ غرفة أبي بلال الذي بادر إلى الاتصال بشاعرنا المبدع حيدر محمود- الذي كنّا نعرفه عبر الرسائل كأبي بلال –وأعلمه بأنه (حصّلني) وكانت كلمات رقيقات عبر الهاتف مع الشاعر المبدع، ودعانا إلى زيارته في مقرّ عمله، فأسرعنا إليه، وكان لقاء، وكانت دعوة على عشاء.. ومنذئذ لم نفترق، ولم نختلف.. الأخلاء -يومئذ - بعضهم لبعض عدوٌّ إلا المتقين.. ونرجو أن نكون منهم.. فلن نكون أعداء في هذه الحياة، ولم نكن، ولن نكون إلا إخوة أحبّة في هذه الحياة، وفي جنان النعيم، بفضل الله وكرمه ورحمته.
-3-
لقد وجدنا –أنا وإخواني من الأدباء السوريين- الدفء عند أبي بلال.. كان لنا أخاً حقيقياً.. لا يمضي أسبوع دون أن يسأل عنا عبر الهاتف.. يدعونا إلى زيارته في مكتبه.. في بيته.. في داره العامرة في إربد عروس الشمال.. يدعونا إلى تناول فنجان قهوة، أو كأس شاي، أو إلى غداء أو عشاء.. بمناسبة وبلا مناسبة.. نلتقي.. نتشاور.. يسأل دائماً ويلحُّ في السؤال: ما المطلوب مني؟ ماذا تريدونني أن أفعل؟
وما كنت لأعجب من أريحيته، بل كنت أعجب من تجافي من كنت أظنه.. أظنهم.. سيفتحون لنا بيوتهم.. يزوروننا.. يسألون عنا.. عن أحوالنا في غربتنا.. والحمد لله، كان فضل الله علينا كبيراً، فلم نمدّ أيدينا لأحد.. ما طلبنا منهم شيئاً، ولن نطلب إن شاء الله.. وكان أبو بلال يسأل، ويلح في السؤال: ماذا أفعل؟ ماذا تعملون؟ هل تحتاجون.. وما كنا نتركه يكمل كلامه، فلسنا نحتاج سوى المودّة.. الحب الخالص في الله.. ولا نسأل إلا الكلمة الطيّبة.. كلمة فيها (حنّية) تشعرنا أننا بين أهلينا.. وكثيراً ما سمعناها من أبي بلال، وعشناها إلى جنبه.. كلمات فيها حبٌّ ومودّة وحنان..
كان يزورنا في بيوتنا ويقول: الزيارة الحقيقية في حلب.. نتحاور في هدوء حيناً، وفي صخب حيناً آخر.. وكانت ابتسامته اللطيفة تلطّف الجوّ.. كان شعارهُ قول الله تعالى: [قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله] وكان يعيد على مسامعنا هذه الآية العظيمة، ويقول [للذين لا يرجون أيام الله] فكيف بالذين يرجون أيام الله، ولكنهم حادوا عن الجادّة لسبب أو أكثر؟.
سافرنا معاً إلى إستانبول عام 1995 لحضور مؤتمر أقامه حزب الرّفاه –يا حسرة عليه وعلى تركيا وشعبها المسلم وما يلاقي -وخطب البروفيسور العظيم أربكان –حفظه الله- كانت كلمته رائعة.. أكثر من رائعة.. ولكننا فوجئنا بتقديمه أحد الأشخاص على أنه (...) قلت لأبي بلال:
- هذا الرجل سيكون شؤماً على أربكان..
قال أبو بلال -وقد حدجني بنظرة عتاب-:
- لماذا يا أخي؟
قلت: إنه رجل شؤم وكفى.. وسوف ترى.. وأرجو أن تخيّب الأيام ظني.
قال: آمين..
فانفجرت ضاحكاً، وضحك أبو بلال حتى أخذته نوبة من سعال خشيت منها عليه.. ولما سكت عنه الضحك قال:
- قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله.. وأظنُّ صاحبنا هذا ممن يرجون أيام الله، ولكنه خطّاء كسائر الناس.
قلت: وخير الخطّائين التوابون. وما أظنه منهم.. من التوّابين..
وفيما كنّا (نتمشّى) في صالة الفندق الجميل الذي عُقد فيه المؤتمر, رأينا فضيلة الشيخ أحمد كفتارو -مفتي الجمهورية العربية السورية- فقال لي:
- ما رأيك في السلام على الشيخ؟
قلت له: سلّمت عليه وعلى من كان جالساً معه أمس، وأخشى أن أحرجه بالجلوس إليه.
قال أبو بلال: إذن.. السلام عليكم.. وتركني وذهب لزيارة الشيخ.
التقينا بعد ساعة، فقال:
- اسمع ما قلت للشيخ وما قاله لي.. لقد عرّفتُه أولاً بنفسي، فعرفني، ثم قلت له:
- يا فضيلة الشيخ.. أنا صحفي وباحث, وأريد أن أسألك ثلاثة أسئلة، الجواب على كلٍّ منها بكلمة واحدة.. ولك مطلق الحرية في عدم الإجابة عنها كلّها أو عن بعضها.
قال الشيخ: اسأل يا ولدي، وسوف أجيبك.
سألته: ما رأيك بالأستاذ حسن البنا؟
أجاب: إمام.. إمام العصر.
سألت: ما رأيك بالشيخ مصطفى السباعي؟
أجاب: (ومعذرة.. فأنا أنقل ما سمعت من أبي بلال حرفياً، وهذه شهادة للتاريخ) حذاؤه على رأسي.
قلت: أستغفر الله، وهذا الكلام يرفع من قدرك يا فضيلة الشيخ، فأنت الآن في نظري أكبر وأسمى من كثيرين.. فأنت خصم شريف، بل شريف جداً جداً..
قال: الشيخ مصطفى عالم، ومجاهد، وربّى جيلاً على الجهاد والفضيلة.
قلت: ربّى جيلاً من الإخوان، وهذا يقودني إلى السؤال الأخير:
- ما رأيك بجماعة الإخوان المسلمين؟
أجاب فضيلة الشيخ:
- جماعة شريفة، مجاهدة، تربية الإمام البنا، والشيخ السباعي رحمهما الله تعالى. وأنا أكنّ لها كلّ حبّ، وأدعو لها.
قال أبو بلال:
- يا فضيلة الشيخ. بقي سؤال طارئ لا أهمية كبيرة له.
قال الشيخ: اسأل يا أستاذ.
قلت: ما رأيك فيما فعله الشيخ (فلان) أمس؟
(وكان هذا الفلان أراد عمل فتنة في المؤتمر، ولكنّ الله أخزاه، وهرب من المؤتمرين الذين هجموا عليه يريدون البطش به)
فأجاب فضيلة الشيخ كفتارو:
- هذا الشيخ أحمق، وسوف أنقل إلى المسؤولين ما جرى بدقّة، وسوف أنصحهم بألاّ يوفدوه إلى المؤتمرات.
روى أبو بلال ما دار بينه وبين فضيلة المفتي، ثم سألني: ما رأيك؟
قلت: أنا كنت أحضر دروس الشيخ عندما كنت طالباً في معهد العلوم الشرعية التابع للجمعية الغراء بدمشق، وكان وقوف الشيخ إلى جانب الأستاذ رياض المالكي ضدّ الدكتور السباعي، سبباً أو أحد الأسباب التي صرفتني عن دروسه.. وقد سمعنا أستاذنا السباعي يسامحه ويدعو له بالهداية، وطلب منّا أن نوقّر العلماء، وننصحهم برفق، إذا رأينا من الدين أو الحكمة أن ننصحهم.. ونحن الآن نحترم فضيلة الشيخ المفتي، ونستذكر القاعدة الحكيمة لإمامنا الشهيد: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".
-4-
كنت أحدّث أبا بلال عن بعض من عرفت من الرجال، وكان يقول لي:
- أرجو أن تكتب ذكرياتك عن الأموات، وتنشرها، وتكتب عن الأحياء وتحتفظ بها إلى حين اللزوم.. وإذا جاء بعض هؤلاء إلى عمان، فأرجو أن تعرّفني بهم.. زرني معهم، لأستفيد منهم، ونفيد قراء (اللواء) من كتاباتهم.
وكنت أصحب بعض الأدباء والمفكرين لزيارته، فكان يكرمهم، ويجلّهم، ويدعوهم إلى غداء أو عشاء، ويجري بعض المقابلات معهم، ويحاورهم، ويستمع طويلاً إلى ما عندهم.. وكان هؤلاء الأحبّة يخرجون من عنده، وقد كسب قلوبهم، وعقولهم، لما كانوا يرون فيه من الإخلاص والحماسة لقضايا العرب والمسلمين، ومن النظرات البعيدة لتقريب وجهات النظر، وردم الهُوّات بينهم، فالتحديات كبيرة وكثيرة، والمسلمون مستهدفون في كل مكان، ومن الحمق ومن العار أن تمزّقنا وتفرّقنا خلافات عفا عليها الزمان، وكان يشير بأصبعه إلى فلسطين المحتلة ويقول:
- ما يجري هناك يدعونا إلى تناسي خلافاتنا مهما كانت عميقة وكبيرة في رأي أصحابها.. إذا كان أصحابها مخلصين لإسلامهم، ومبادئهم، وفلسطينهم، فلينسوا كل شيء، وليفتحوا عيونهم وعقولهم جيداً، ويعوا ما يجري هناك، وما يخطط لسائر بلاد المسلمين.. الأعداء كثر.. متكالبون.. ونحن نجترّ خلافات، ونستثير أحقاداً..
كان يحاور بهدوء، وقلّما كان يثور، فإذا ثار، فيا صبر أيوب..
-5-
أهداني مرة كتابه (الأنبياء الكذبة) فقلت له:
- في العنوان تناقض.. الأنبياء صادقون ولا يكونون كذبة.. مسيلمة عندما ادّعى النبوّة قيل له: مسيلمة الكذاب، ولم يقولوا: النبيّ الكذاب.. وقيل لغيره: متنبئ.. وغير ذلك.
قال: اقرأه واكتب ما بدا لك عنه، إلا أن تمدحني فيه.
قلت: إذا كتبت، فسوف أطري ما يعجبني، وأنتقد مالا يعجبني.
قال: اكتب عما لا يعجبك أرجوك، ودع الكتابة عمّا يعجبك.
وكذلك كان يقول لي عن كل كتاب من كتبه القيّمة التي كان يهديني إياها.
-6-
حسن التل الإنسان.. موضوع طويل عريض.. يا ليت الذين عرفوه عن قرب، يكتبون عن هذا الجانب المهم، في هذه الأيام الحوالك.. وأنا سوف أكتب عما لمست وسمعت وعرفت، فقد كان أبو بلال مع الناس وللناس.. وكان كاتباً، ومفكراً، وأديباً، وداعية، وسياسياً، ورجل إعلام، له قلم قويّ، ولا تنقصه الجرأة، إلا حين يحكّم الحكمة والمصلحة العامة.. كان متعدّد الجوانب، متعدّد المواهب.. فالرجل كبير، وما قدّمه كثير، وما كتبته ذكريات من ذكريات سوف تُكتب إن شاء الله، ولن يضيع العرف بين الله والناس.. وكل جانب من تلك الجوانب ستكون موضوعاً كبيراً، أدعو عارفيه، وقارئيه، من الكتّاب، أن يكتبوا فيها.. وأدعو طلبة الدراسات العليا أن تكون حياة أبي بلال، وفكره، وقلمه، ومواقفه، وآراؤه.. رسائل وأبحاثاً لهم في جامعاتهم.. ولا ننسى مدرسة (اللواء) فهي وحدها موضوع رسالة..
وقبل هذا وذاك، أدعو أبناءه البررة أن يحفظوا إرث أبيهم، إرث هذا الرجل الكبير.. أن يحرصوا على كل ورقة أو وريقة كان يعدّها لتكون مشروع مقال خطير.. فقد طلب مني مرات، وقبل أن يسافر في رحلته الأخيرة، معلومات، لتكون ضمن مقال أو دراسة طويلة عن مفكّر معاصر، وفكره..
نريد ذكرياته ومذكراته.. نريد أن تُجمع آثاره من الصحف والمجلات والإذاعات والمؤتمرات.
-7-
أبا بلال.. أيها الأخ الحبيب.. أيها الأديب الأريب.. أيّها الرجل الكبير.. طبتَ حياً، وطبت ميتاً، وإنا على فراقك لمحزونون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. والسلام عليك في الخالدين..