محمد المجذوب كما عرفته

محمد نعسان عرواني

محمد المجذوب كما عرفته

بقلم: محمد نعسان عرواني

ولد الشيخ محمد المجذوب في مدينة طرطوس 1907 إحدى أجمل مدن الساحل السوري لوالد تاجر عالم وجيه هو الحاج مصطفى المجذوب الذي توفي وولده محمد في سن الطفولة، ومع ذلك شعر بالمسؤولية نحو والدته وأفراد عائلته منذ نعومة أظفاره، فنشأ نشأة عصامية وتزوج في سن مبكرة ورزق عشرة من الأبناء والبنات، ثم تتلمذ على عمه الشيخ عبد الله المجذوب شيخ طرطوس وعالمها.. وإمام وخطيب ومدرس جامع الساحة الكبير فيها.

تعلق قلب الشاب محمد المجذوب بالدين وعلومه، وباللغة العربية - فهو وأفراد عائلته لا يتكلمون إلا الفصحى- وأعطى العلم والمطالعة قسماً كبيراً من وقته، وتفجرت لديه الموهبة الشعرية في سن مبكرة، ومما زاد في ذلك سقوط سورية بيد الفرنسيين المستعمرين، فانضم لركب المقاومين للاستعمار، وتعاون مع إخوانه المجاهدين وأجج نيران الغضب ضد الغاصبين، وتابع مقاومة العدو بالقلم واللسان والبندقية، وحضر المؤتمر الوطني الكبير 1936 حيث أضربت سورية ستين يوماً حتى حصلت على استقلالها بموجب معاهدة 1936 مع فرنسا، لكن ما لبثت أن ندمت فألقتها وعادت إلى أسلوب الحكم المباشر.

نظم الشعر وزاد وارتفع إنتاجه الشعري ونشر عدداً من دواوينه وهو في سورية منها ديوان نار ونور، وعندما أعلنت الجامعة العربية عن مسابقة لنشيد لها، كان نشيده الأول فحصل على جائزة الجامعة العربية، واهتم بالقصة واشتهر بها ومن ذلك: صرخة دم – قصص من سورية -غارس غرناطة - قاهر الصحراء - بطل من الصعيد - مدينة التماثيل - ومسرحية من تراث النبوّة. وعدد من الكتب الأدبية والإسلامية. كما اهتم شيخنا بالعمل الإسلامي، فكان رئيس مركز اللاذقية والمشرف على فروع الساحل السوري.. هكذا كانت المرحلة الأولى من حياته في سورية.

أما المرحلة الثانية: فكانت في المملكة العربية السعودية من 1964م لغاية 1997م، حيث برز في تمام النضج والإنتاج الفكري السلفي المعتدل، إذ تعاقد مع الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة (1964) هو وأخوه الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية وباني الحركة الإسلامية وقائد الصحوة الإسلامية فيها.

ثم رجع الاثنان إلى سورية حيث وافت المنية الدكتور السباعي بدمشق ودفن فيها، أما الشيخ محمد المجذوب فقد عاد إلى المدينة المنورة للتدريس في الجامعة الإسلامية وكان له نشاطه الإسلامي الفذ، وكان عضواً في المؤتمر الإسلامي العالمي، وكانت الجامعة تندبه كل عام إلى دولة من الدول الإسلامية ليحاضر في جامعاتها وقد منحته الجامعة الإسلامية رتبة الحامل للدكتوراه -أثناء كتابة العقد معه-  وحدثني العديد من طلابه ومنهم من نال درجة الماجستير أو الدكتوراه وصار من كبار أساتذة الجامعة بأن أستاذهم الشيخ محمد المجذوب كان يتفاعل مع ما يدرسه فيغرس في نفوس طلابه حب الإسلام والتضحية في سبيله بالغالي والنفيس، خاصة عندما يدرس السيرة النبوية أو عندما يجول بهم في أرجاء العالم الإسلامي ويشعرهم بدورهم في الدفاع عن الإسلام والعمل له، وأقسم لي أحد طلابه على أن الكثيرين منهم كانوا يبكون أثناء محاضراته ويقول هذا الطالب: إن الإسلام قد خالط سويداء قلب الشيخ المجذوب، بل خالط كل كرية من كريات دمّه.

ارتفعت منزلة الشيخ المجذوب في الجامعة الإسلامية، فصار رئيساً للجنة كُلّفت بإصدار مجلتها القيمة ثم أصبح عضواً في المجلس الأعلى للجامعة، وقد دخلت معه مرة على أحد مديري الجامعة الإسلامية، فترك المدير مكتبه وأقبل على الشيخ يرحب به ويصغي لأقواله ويخاطبه يا والدي..

إن النضج الإسلامي الفكري لشيخنا وعشقه للإسلام –شغله عن إنتاجه الشعري- فقد التفت إلى معالجة قضايا أمور المسلمين التي ظهرت في العديد من كتبه الإسلامية وهاأنذا أحاول تذكر بعض أسماء منها: لأنها قد تجاوزت السبعين بعددها وهاكم بعضها:

تحفة الأريب في ثقافة الأديب – تأملات في المرأة والمجتمع – أضواء على حقائق – ذكريات لا تنسى مع المهاجرين والمجاهدين في باكستان – مشكلات الجيل في ضوء الإسلام: طبع سبع مرات – في رحاب الإيمان – الطريق السوي إلى وحدة المسلمين – علماء ومفكرون عرفتهم 3 مجلدات... إلخ..

لقد أكرمني الله في السكن معه في المدينة المنورة في طريق الهجرة، وكنت أدخل شقته –بعد الاستئذان- في الطابق الأرضي، وأدلف إلى مكتبه الخاص الذي رصّت جدرانه بخزائن الكتب، فما كنت أراه إلا قارئاً للقرآن أو لأحد الكتب أو لإحدى الصحف أو المجلات، أو مستمعاً للمذياع أو كاتباً لمقال أو لأحد الكتب كما كنت أشعر بسرور لتفقدي إياه أو لدخولي منزله، فيرتاح من عمله لنتناقل آخر أنباء العالمين العربي والإسلامي أو لمناقشة أمر من الأمور إذ كانت له مناقشة ممتلئة بعبقريته ذات الوجوه المختلفة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفقهياً.. ورغم هذا العمل المتواصل كان يمازح زوجه التي بقيت الوحيدة في منزله بعد أن تفرّق أولاده جميعاً طلباً للرزق في القارات وتركوا المدينة المنورة.

أما بذله للمجاهدين فحدّث ولا حرج في هذا المجال، وقد رأيته في أحد الأيام يكتب شيكاً بخمسين ألف ريال للمجاهدين الأفغان، ودخلت مكتبه في أحد الأيام فوجدت مكتبته قد اختفت، ولما سألته عنها قال: لقد عبئأناها في صناديق كرتون وأرسلناها إلى المجاهدين الأفغان.

أما بالنسبة لنا نحن المهاجرين السوريين، فكان خير عون للجموع التي تدفقت للمدينة المنورة فارّة بعقيدتها ودينها، ثم توزعت في أرجاء المملكة، وعندما كانت تحدث مشكلة لبعض هؤلاء ونعجز عن حلّها نستنجد بالشيخ المجذوب، فيكون نعم الأب المنجد رحمه الله.

وكنت أخرج برفقته إلى مختلف كليات الجامعة الإسلامية فيحثّ أساتذتها وطلابها على التبرع لمعالجة النكبة التي حلّت بسورية وكان يرحمه الله على رأس المتبرعين.

ولما بلغ التسعين من العمر، وكان أكثر أولاده قد تفرقوا في البلاد كما قدمت، واضطررت لقضاء معظم وقتي في عمان، شعر بدنو أجله –وكان كثيراً ما يذكر الموت- فأقنعه أحد أولاده بالذهاب إلى سورية وتم له ذلك، فعاش في اللاذقية سنتين مغلقاً بابه عليه يكمل مؤلفاته الأخيرة، ويكتب -كما ترامى إليّ- مذكراته وسيرة حياته، ثم وافته المنية رحمه الله بعد عمر زاد على الثانية والتسعين.

غفر الله لشيخنا المجذوب، وتقبل أعماله الصالحة وأدخله فسيح جناته وحشره تحت لواء سيد المرسلين مع أصحابه الغر الميامين، وحسن أولئك رفيقاً، وصلى الله على قائدنا وسيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.