وأفل النجم الحبيب
وأفل النجم الحبيب
الدكتور: حسن هويدي
محمد يوسف الجاهوش
أبو معاذ – الكويت
إن من الناس ناساً يطوي الموت ذكرهم وسيرتهم ، كطي حياتهم ، فتنسى الدنيا – بموتهم – أنهم كانوا ذات يوم من بنيها ، ولا تُحِسُّ الأرض أنها خسرت شيئاَ بفقدهم .
على حين يعجز الموت أن يأتي على مفاخر آخرين وسجاياهم ، رغم قبض أرواحهم ، وفناء أجسادهم ، وإنه لفارق كبير – بين من يمحى بالموت رسمه وذكره ، وبين من ترافق الخلود خلاله وسجاياه ، وتستمر بصماته على مناحي الحياة سنى وضاء ، ينير طريق السالكين إلى المقصد الأسمى ، ويهدي ركب الحائرين إلى منارات الهدى ، وشارات الرشاد .
ذلك أن الذين يجمعون العقل المستنير ، والعلم الغزير ، والقلب الحي والعاطفة الجياشة ، وسلامة الصدر ، ووضوح الرؤيا قليلون في واقعنا ، والذين يسخرون عقولهم وعلومهم وعواطفهم وأوقاتهم لخدمة دينهم ، والذب عن إسلامهم ، أقل من أولئك بكثر ، وأقل من هذين الصنفين من تحترق قلوبهم ، وتتفتت أكبادهم حسرة على الإسلام وأمة الإسلام .
فكيف إذا اجتمعت هذه الصفات برجل واحد ، مقرونة بالهمة العالية ، والأسفار المتوالية لمتابعة أمور الدعوة والجماعة من دون كلل ولا ملل ، وقد تخطى الثمانين بأربع سنين !!
ما نشك أن هذا الطراز الرائع من الرجال من ينطبق عليهم - بحق – قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : [[ الناس كإبل مئة ، لا تجد فيها راحلة ]] متفق عليه .
ونحسب – ولا نزكي على الله أحداً – أن فقيدنا الغالي الحبيب الدكتور / حسن هويدي [ أبو محمد ] رحمه الله من هذا الطراز الرفيع من الدعاة ، فقد رافق مسيرة الدعوة في بدء شبابه ، وعاصر الرعيل الأول من أعلامها وأركانها ، وثبت على الطريق مدة ستة وستين عاماً : داعياً إلى الله عز وجل على هدى وبصيرة ، تحمل المشاق والمتاعب ، وتعرض للسجن والتعذيب ، ثم للتشريد والتغريب ، لم تضعف له همه ، ولا لانت له قناة ، بل عاش صابراً محتسباً ، دائم الحركة ، والتنقل في أقطار الدنيا ، حاملاً ثقل السنين ووطأة الأمراض ، ليبلغ رسالة ربه ، وليتابع أمور إخوانه ودعوته ، ولكأن أبا تمام كان يصفه عندما قال :
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالقسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى الذي صنعت حتى تشافه بي أقصى خراسان
وها قد طويت صفحة الأسفار المتوالية وجاء السفر الأخير الذي ودع شيخنا وحبيبنا [ أبو محمد ] الدنيا على إثره ، وغادرنا إلى ربه ، وقد كان الدكتور الطبيب ، الفقيه ، اللغوي ، الأديب ، الناثر، الشاعر ، الناسك ، العابد ، التقي ، الصالح ، رحمه الله تعالى ، وأعلى منزلته ، وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً.
لقد هزنا النبأ يا أبا محمد : أبكى عيوننا ، وأدمى قلوبنا ، وطاشت لسماعه ألبابنا !!
كيف لا نذهل ويعتصرنا الأسى وقد فقدنا بفقدك الوالد الشفيق ، والمربي الحاني ، والأخ النصيح !
نعم ، لقد فقدنا القائد الشجاع الأريب ، المجرب الحكيم ، الذي أخلص عمله لله ، ووقف جهده وجهاده على مجاهدة نفسه ، فقوي – بذلك – على جهاد أعدائه ، لقد قهر نوازع النفس بالتقى ، وانتصر على عدوه بتوفيق الله وعونه .
ولا عجب فالتقي مُعَانُُ : تلحظه العناية ، وتحو طه المعية والرعاية ، يسدد الله مقاله ويزكي فعاله ، ويصرف عنه كل ضرر وسوء .
فكم من نازلة حلت بنا في أوج المحنة كنا نظن فرجها بعيداً ، وحلَّها عسيراً ، فإذا ما خلونا معك وجدنا الوجه الباسم ، والقلب الصابر ، والرأي الصائب ، الذي أسقط مصطلح اليأس من مفرداته ، واستنار بالتفاؤل والأمل ، فما نستتم مجلسنا إلا وقد انجلى عن قلوبنا ما أهمها ، وعن نفوسنا ما أغمها ، وعاد لنا من الأمل والثقة ما زايلنا وغاب عنا ، لقد شهدنا كثيراً من هذا في مواقفك الدعوية ، وجهودك الإصلاحية ، وعيناه تماماً، وأفدنا منه عبرة ودرساً ، فكيف لا يطول حزننا عليك ! .
لقد يتمتنا يا أبومحمد – وفينا من ينطح الستين ، بل والسبعين ، لقد كنت المنار الهادي ، والركن الذي نُؤي إليه في الكربات والشدائد ، فالصبر بعدك عسير ، والعيش مرير ، والدمع لفقدك غزير ، جد غزير .
إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا أجاب البكا طوعاً ولم يجب الصبر
وأنى يستجيب الصبر لمن بلي بمثل فقدك !
أبي الصبر آيات أراها وإنني أرى كل حبل بعد حبلك أقطعا
وإني متى ما أدع باسمك لا تجب وكنت جديراً أن تجيب وتسمعا
إن الحادث جلل ، والمصاب أليم ، وما ثمة مصيبة أشد وأكثر أسى من فرقة الأحبة .
وكل ملمات الزمان وجدتها سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
لقد مضى أبو محمد إلى ربه ، ونشهد أنه أدى ما عليه بصبر وجلد ، وبرضى وإخلاص .
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة غداة ثوى إلا اشتهت أنها القبر
يرحمك الله يا شيخنا الحبيب [[ فلئن عزت حياتك فقد هدت وفاتك ، ولنعم الروح روح ضمه بدنك ، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك ، ولنعم الكفن كفن ضمه قبرك ] .
وموتك كان في الإسلام لئن غابت شموسك من سمانا فـلـم تـبرح مآثركم تنور | ثلماًفـمـن للثلم ياشيخ وَعَـمَّ الكونَ ديجورُ الليالي طريق السالكين من الرجال | المعالي
إن الحزن على الأحباب علامة الفطرة السوية ، والوفاء الصادق ، والود العميق ، وآية ذلك حزن يعقوب على يوسف ، والصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصحابة بعضهم على بعض .
لما فرغ الصحابة من دفن جميل بن معمر رضى الله عنه ، رفع سيدنا عمر رضي الله عنه صوته منشداً برنَّة حزينة ، ودمعة سخينة.
وكيف ثوائي بالمدينة بعدما قضى منها وطراً جميل بن معمر
اللهم أكرم نزل أخينا وشيخنا أبي محمد ، ووسع مدخله ، وأفسح له في قبره مد بصره ، واجعل قبره روضة من رياض الجنة ، اللهم ارحمه وارحمنا إذا عدنا إليه ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده ، واغفر لنا وله .
إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن ، وإنا لفراقك أبا محمد لمحزونون ، ولا نقول إلا ما يرضى الله [[ إنا لله وإنا إليه راجعون ]] .
زماني جدً في سير إليه لعلّ الحب يجمعنا هناك