من وحي الصحبة
بمناسبة تكريم العالم الجليل الاستاذ الدكتور / حسن الشافعي يوم 17 / 8 / 2008
حَسنُ البساطةِ و التواضع
أ.د/
جابر قميحةأعرت من كلية الألسن بجامعة عين شمس للعمل بالجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد سنة 1984 . أى من قرابة ربع قرن . و كان نائب الجامعة هو الدكتور حسن الشافعي , و كنت سعيدا بهذه الإعارة لأسباب متعددة منها : أننى معارا إلى بلد مسلم مشهور بجهاده حتى استطاع أن يحصل على حريته و يقيم دولة إسلامية لها كيانها , و لها تاريخها , و للدين فيها اعتبار كبير.
ومنها أننى خبرت هذا البلد من قبل على مدى شهرين أستاذا زائرا , فرأيت فى أهلها عاطفة دينية قوية , و حرصا على إقامة الشعائر , وطيب القلب و الخلق , و الحرص على العلم , و حب العلوم الدينية بصفة خاصة .
و منها أن الأصوات القوية المعبرة عن الإسلام والقيم الإسلامية انطلقت من هذه الأرض على لساني اثنين مشهوريين هما : محمد إقبال , و أبو الأعلى المودودي .
ثم لأن القائم الفعلي على الجامعة الإسلامية – بكل وقته , و كل مجهوده و جهاده – هو الأستاذ الحبيب الدكتور حسن الشافعي الأخ المسلم , الذي ابتلي فى الله , فصبر و شكر , و عرف بعلمه الغزير , و عقليته الموسوعية , و إخلاصه , بل فنائه فى عمله .
هذه هي الصورة المعروفه عنه عند الآخرين , و آمنت بصدقيتها عندما عملت استاذا زائرا بالجامعة الإسلامية من 2 / 11 /1983 الى 31 / 12 / 1983 . و تأكدت من هذه الحقيقة على مدي السنوات الخمس التى قضيتها بعد ذلك معارا فى الجامعة .
**********
واليوم نحتفل بتكريم الأخ الاستاذ الفاضل الدكتور حسن فى مركز الإعلام العربي بالجيزة , وهو تكريم يشترك فيه صفوة من الأساتذة المتخصصين , و جزى الله الأستاذ صلاح عبد المقصود صاحب المركز و مديره الذى تولى هذا التكريم بكل مظاهره , و هذا ليس غريبا عليه , وعلى داره التي تقف دائما فى صف الإسلام , و تشجع الفكر الحر ,و العطاء العقلي النافع لمصر و العرب وديننا الحنيف , حتى أصبحت هذه الدار , و صاحبها الأمين من أقوى المواقع على مستوى العالم الإسلامي كله .
وإنى أرى أن الأخ الاستاذ الدكتور حسن الشافعي ظهرت منه – لى علي الأقل – عدة كرامات أحسست بها و عشت فيها و أنا أتحدث إليكم :
منها أن وجودنا لتكريمه جعلني أتذكر إخوة فضلاء , لو كانوا أحياء لكانوا في طليعة من يشترك معنا في هذا التكريم , و أعني بهم الدكتور على عشري زايد , و الدكتور محمد فتيح , و الدكتور رفعت الفرنواني , و الدكتور الشهيد عبد الله عزام رجل العلم و الجهاد , ذلك الأخ الفلسطيني الذي كان يعمل معنا أستاذا في الجامعة الإسلامية العالمية , ثم تفرغ بعد ذلك للجهاد في افغانستان.
و امتدادا لهذه الكرامة أقف دقيقة أجتر فيها صورا للدكتور عبد الله عزام : منها أنني ما التقيت به فى رواقات الجامعة و مبانيها إلا و استوقفنى باسما و قال لي " لن أتركك إلا إذا امليت علي بيتا من شعرك أو شعر غيرك ". و أذكر- أيها الإخوة – أن أخر بيت أمليته عليه و سجله في دفتر يحتفظ به في جيبه لكتابة الشوارد التي يختارها . كان آخر بيت هو قول ابن الرومي :
أَعاذًكَ أنسُ المجدِ من كل وحشةٍ فإنك في هذاالأنام غريبُ
فنظر إلي في صمت و في عينيه عبرتان , و أخذ يردد الشطر الثاني , و هو يقول صحيح , صحيح ... فإنك في هذا الأنام غريب ... غريب . و تركني و انصرف .
أما آخر مرة رأيته فيها فكان ذات مساء و كنت ألقي محاضرة في قاعة المحاضرات بالجامعة وكان موضوعها : " الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود " . و أثناء المحاضرة فوجئت بالدكتور عبد الله عزام يدخل القاغة ومعه والده , و الدكتور احمد العسال , و الشيخ الصواف رحمه الله , طلبت منهم الصعود إلي المنصة من قبيل الحياء , و كانت ليلة طيبة أثارت الحماسة و القوة , و شحنت نفوسنا بطاقة روحية طيبة . و بعد ذلك لم أر الدكتور عزام . رحمه الله وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا .
و كرامة ثانية أوحى بها هذا الحفل , و هي و أقسم على صدق ما أقول أنني رأيت في الحفل من كنت أتمنى أن أراهم , و لا أملك الوسيلة التى توصلنى إليهم , و منهم من لم أره من عشرات السنين . ومن هؤلاء الدكتور عبد المجيد محمود , و الدكتور نبيل غنايم ,والكتورعبد الحميد مدكور والدكتور رمضان و آخرون .
**********
وقد استمعنا لعدد طيب من البحوث الأكاديمية عن الأبعاد العلمية و الدينية للدكتور حسن الشافعي , و تناولت الدراسات المعروضة : عقليته الموسوعية , تضاريس بعض فكره الإسلامي , صلاته بالشخصيات المهمة في العالم الإسلامي , مجهوداته في سبيل إنشاء الجامعة الإسلامية العالمية , والحفاظ عليها , و العمل الدائم لمصلحتها , قيامه بمجهوده و ماله في بناء معاهد , ومبان إسلامية , و بعض مجهوداته في المجمع اللغوي المصري , و إخراج الموسوعة الإسلامية ... الخ **********
ولكنني , وأنا ألقي حديثي شفاهة و عفويا دون إعداد مكتوب , أرى أن هناك صفة من أهم الصفات التي يتسم بها الدكتور حسن , و لم يتكلم عنها أحد , وأنا أراها من أهم الصفات أللازمة لمن يقومون بالقيادة العامة , أو في أي جانب من جوانب الحياة , و هي التواضع و البساطة . و له و لنا في رسول الله صلى الله علية و سلم أسوة حسنة : فقد رأى رجلا يرتعش في حضرته , فقال له
" هون عليك ؛ فلستُ بجبار ولا ملك , إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة " .
و كان صلى الله علية و سلم يشترك مع المسلمين في حفر الخندق حتى يغطي الغبار وجهه
و لحيته , بل كان يردد معهم أنشودتهم :
اللهم لا عيش إلا عيشُ الآخرةْ فارحم الأنصارَ و المُهاجِرةْ
وكان الدكتور حسن نموذجا طيبا جدا للتواضع , كما قال أحد الإخوة : " أنا ما شفتش الدكتور حسن مرة واحدة مرسوم " . ومعنى العبارة أن الكتور حسن كان دائما بسيطا في مظهره متواضعا في مخبره . وهناك واقعة لا أنساها و لا ينساها واحد من الإخوة , و تتلخص في أننا حضرنا " تعاملا " جماعيا ذات مرة , وكلمة تعامل كانت اصطلاحا اشتهر بين الإخوة , ومعناه الوليمة اللحمية الفاخرة , فيسأل السائل زميله : هو فيه تعامل الليلة ؟ فيجيب نعم ... عند فلان .
أذكر أنه كان هناك تعامل كبير حضره كل الإخوة من أعضاء هيئة التدريس وعلى رأسهم الدكتور حسن . ومن قبيل فتح الشهية وضِع أمام كل واحد منا ساطانية ملئت بشوربة العدس الساخن , وكانت لذيذة , بدأنا نحتسيها في نهم وشراهة , و لكن الملاعق صغيرة , لا تسعفنا فى هذه الحال , و بعد دقائق حضر" الخروف المشوي " تفوح منه رائحة تسيل اللعاب , وتشد العيون , وتملأ الأنوف برائحة زكية . وأخذتنا الحيرة , و بدأ القلق يكسو وجوهنا , وفي نفوسنا جميعا رغبة مشتركة تبادلتها العيون , ولكننا لم نقدم عليها حياء من الدكتور حسن , وفهم هو بذكائه ما يدور في نفوسنا فرأيناه يرفع فجأة سلطانيته , الي فمه مباشرة ليشرب العدس بلا ملعقة , و في نََََفَس واحد ... و لحظة واحدة ... رفعنا جميعا السلطانيات و أفرغ كلا منا سلطانيته فى جوفه في دقيقة واحدة . والمضحك قي المسألة هو التوقيت . قلت : إن ما فعله الدكتور حسن يشبه ما يفعله " المايسترو " بإشارة واحدة من يده , فيرفع الموسيقيون آلاتهم الموسيقية , لأداء الدور المتفق علية من قبل , في لحظة واحدة .
و بدأ" تعاملنا " مع الخروف المشوي الذي اختفى بعد عشر دقائق , و كلنا ندعو للدكتورحسن .
ولعل هذه الواقعة تبين عما أعنيه " بالبساطة " التى كان يعيشها الدكتور حسن ,ومن مظاهرها أنه كان دائم التجول في الجامعة , يتفقد أمورها , في زي عادي , وبمظهر عادي , ويتحدث لكل فرد في الجامعة من طلاب واساتذة و إداريين بطريقة عادية عفوية , بصرف النظر عن موقع الذي يتحدث إليه .
و تسألني ما الفرق بين التواضع و البساطة ؟, وأنا أقول التواضع صفة نفسية جوانية تتنزه بالانسان عن الغرور والتكبر , أما البساطة فهي عفوية التصرف والسلوك بعيدا عن التكلف والتصنع .
كان أطال الله في عمره متواضعا , بسيطا ولكن ذلك لم يلغ هيبته في نظر الآخرين و خصوصا الكبار- فكانوا ينظرون إليه نظرة تقدير و اعتبار .
**********
و قد أشرت من قبل إلي المفهوم الاصطلاحي لكلمة" التعامل" الذى كان الدكتور حسن من أكبر مشجعيه , و قد كان لي في هذا المجال باع طويل في مجال الشعر أجتزئ منه بجزء من قصيدة اشتهرت بين الإخوة , وهي بعنوان ( الملحمة الخروفية ) .
ومناسبتها أن الدكتور حسين حامد - رئيس الجامعة الإسلامية بإسلام آباد – أقام وليمة فاخرة لإخوانه من الأساتذة حيث كنا ندرس في الجامعة. وكان الصنف الرئيسي في الوليمة خروفٌ مشوي كبير، وبعد انتهاء الوليمة، كانت هذه القصيدة التي أجتزئ منها بالأبيات الآتية :
ضـيوفك يا حسين أتوا مئات كـرام الناس قد قصدوا كريما عـشـاء، لا كمثل عشاء قومٍ وجـاء الـنائبان حسن وأحمد رأيـت ولـيمة الأمرا خروفًا وفي بطن الخروف ترى زبيبًا تـغـطـى ظهره بغشاء فض فـأقـسـمت اليمين بغير مينٍ وأن الـفـقـر قـد ولى ذليلاً * * * ومـا يغني دجاج عن خراف أخوك "دياب" كشر عن نيوب و "عـبد الحي" غاص لركبتيه تـمـهـل أيها الشيخ المعنّى يقول بل الخروف أعاد عمري وابـن الـشافعي يقول : أقدم و "سـيبك" من نظام أو رجيم رأيـنا في الخروف ابن الذين أحـب الـفـخذة اللفاء تندي تـصاحبها الطحينة أو سواها و "خـطـابَّ" يقول لقاطعيه : وحـتـة لـحمة من بيت لوح وحـبي للخراف يفوق وصفًا لأنـي قـد ولـدت ببيت عز وسل "رمضان" يوم الروع لما وكـانـت وجبة المسكين قبلاً وحـدث عن "زكي" إذ تمطى تـنـاول كـتفه اليمنى نهوما وسـهـانـي وأردفـها رياشًا و"عـواد" يـلوص من انبهار فـيسألني: وما المخلوق هذا؟ ألـيـس الراقدُ المشوي شدوفًا شـدوفًـا يـا ابن"عواد" وإنا هـل الـشادوف بض جانباه أ "سـيـد" لا تـلبخ في كلام بـنـار الـفرن طابت فخدتاه أتـجـهـل أنـه قد كان كبشًا فـقـدمـه الحسين لنا عشاءً وظـلـم الـناس أورده المنايا وبـعض الظلم ترياقٌ لبعض * * * أجـزني يا "ابن حامد"بالعطايا ولـست بسائل أرض المعادي بـتـعـييني عميدًا أو مديرًا وتـضمنني العمادة في وثوق أغـثـني بالعمادة فهي حسبي وإلا سـوف أعـلـنها عراكًا يـشـيب لهوله الطلاب طرًا وأرفـع راية العصيان حتىج وأذبـح لـلـرعـايا كل يومٍ وأسـتـولى على كل المباني وعـجل يا ابن حامد أو تقبل | ومـن فـزعي حسبتهمو وقـد جاءوا ليلتهموا الخروفا نـصيحتهم لضيف "نم خفيفا" فـقـلـت:تقدما طوفا وشوفا ووجـبة غيرهم "مرغي" نحيفا وبـيـضًا خالط الأرز الكثيفا يـصـرالـعطرمنه أن يفوحا بـأن الـسعد قد أضحى الأليفا وأن الـعـز قد أضحى حليفا * * * وسـل ضيفًا خبيرًا أو مضيفا تـذكـرنا ابن غانم والصفوفا فـأعمل "طقمه" يحكي السيوفا فـأنـت الآن تـجتاز الخريفا ربـيـعًـا ناضرًا غضًا لطيفا تـعـامـل جابرٌ ودع الكسوفا فـمـا نفع الرجيم فتى حصيفا رحـيـما بالبطون كذا عطوفا وكـنـت ولا أزال بها شغوفا كـذا الطرشي أراه هنا صنوفا "جيفوا مي" ضلعه هذا الظريفا فـبـيت اللوح يبدو لي خفيفا ويـغـزو القلب منسابا لطيفا أكـلـنـا الـلحم فيه والكتوفا تـولـى كبده الراقي الشريفا بـرنـجـانًا وأرزًا أو رغيفا فـكـان الآكل الساهي الخفيفا وكـنـت أظـنه عنه عزوفا عـلـيها الدهن يكسوها كثيفا وكـان طـعـامه خبزا ونيفا ودمـت صديقنا الحِب الألوفا نـدي عـانق العز الوريفا ؟ نـشـم شـذاه يـعتلق الأنوفا ويـقـطـر دهنه تبرًا شفيفا؟ أ "سـيـد" إنـه يدعى خروفا فقال بحسرة: "يادي الكسوفا"!!! مـهـيب القرن نطاحًا مخوفا وهـيـأه لأمـثـالـي قطوفا ولـم يـترك له جلدًا وصوفا ولـولاه لـعـانـقـنا الحتوفا * * * فـمـثـلك يمنح الناس الألوفا ولا مـطـروح بل شيئًا خفيفا وألـبـس كـومبليتا أو نظيفا بـأنـي لـن أمين ولن أحيفا أجـزني يا حسين وكن رءوفا مـثـار الـنـقع جبارًا عنيفا وأزرعـهـا رماحًا أو سيوفا أكـون رئـيـسها الفذ المنيفا مـن الـبقرات سبعًا لا خروفا أكـون رئـيـسها الفذ المنيفا حـروبًـا تنفث النقع العصوفا | ألوفا
الأسماء السابقة لأساتذة بالجامعة . المرغي هو الدجاج باللغة الأوردية
**********
إهداء كتابي للدكتور حسن الشافعي
كتبت هذا الإهداء على كتابي "المعارضة في الإسلام بين النظرية والتطبيق" للأخ الدكتور حسن الشافعي.
أهـدي إليك مـضـمخًا بالتحايا جـزاك ربيَ خيرًا ودمـتَـ للعلمِ ثبتًا * * * فانظر كتابيَ واجْهدْ أن تبديَ الرأيَ فيه فـقد يكون كلامي فلستُ في الفكر فذا ما زلتُ أحبو بطيئًا والنقدُ يبني ويهدي إن جاء من "شافعي" فـاذكر أخاك بنقدٍ | كلامييـا فـذَّ علمِ مـعـطرًا بالسلام عـنـ أمة الإسلام فـي خير خيرِ مقام * * * بـعـلمك المتنامي ومـا بـه من سَقام مثلَ السحابِ الجَهام ولـستُ.. كالأعلام فـيـ عالم الأقلام كالنورِ في الإظلام بـدا كـبدرِ التمام ولا عـليك ملامي | الكلام
إسلام آباد
30/3/1989
و في النهاية أدعو للأخ العالم الجليل الأستاذ الدكتور حسن الشافعي بأن يطيل الله في عمره , و أن يزيد النفع به للإسلام والعروبة ومصر
والفكر واللغة .
إنه نعم المولي ونعم المصير.