محمود درويش يترجل قبل أوانه

الشاعر محمود درويش

جميل السلحوت

[email protected]

رحل محمود درويش ليترك فراغا ثقافيا وفكريا وانسانيا متجددا ، مع ان تراثه باق خالد ما دام على هذه الارض حياة ، محمود درويش هذا الجبل الشامخ سيعود عودته الأبدية الى أحضان تراب الأرض التي أحبها وأحبته ،  بجانب الرمز الخالد ياسر عرفات ، ومحمود درويش الذي ارتأى عودته بعد قيام السلطة الفلسطينية في العام 1994 عودة منقوصة ، الى المتاح من الوطن ، فالعودة الى الوطن كان يجب ان تكون الى مسقط الرأس في قرية البروة قرب عكا ، الى اختزان ذاكرة الطفولة .

محمود درويش الذي حمل قضيته السياسية ومشروعه الشعريّ الى العالمية، اصبح منذ نعومة اظافره نجما يطل على العالم اجمع باثنتين وعشرين لغة نقلت ما جادت به قريحته الى مئات الملايين من البشر ، لكنه وفي نفس الوقت كان شمسا تضيء عتمة نهارات وليالي فلسطين وشعبها الذبيحين ، وتضيء سواد ظلمة تاريخ أمته المعاصر .

محمود درويش ذلك البلبل المغرد كتبت له الحياة بعد ان نجا وهو طفل في نكبة العام 1948 من رصاصة قناص استهدفته وهو على ظهر حمار تسوقه والدته وهي تخرج من قريتها البروة لتحمي اولادها من رصاص التطهير العرقي ، فجاءت الرصاصة في الحمار الذي شكل درع حماية لانسان سيكون له شأن في لاحق الايام .

محمود درويش الذي أرّقه بعد اكثر من نصف قرن بقاء حصان وحيدا في ساحة بيته في البروة، يرحل والأرق يصاحبه على مصير شعبه ومصير قضيته ، محمود درويش الشاعر العملاق كتب اعلان وثيقة استقلال فلسطين ، ولم تـُكتب له الحياة ليكتب بيان النصر حين يتمكن شعبه من حقه في تقرير مصيره، واقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشريف .

محمود درويش ملك اللغة العربية في هذا الزمن تماهى مع قضيته الفلسطينية وتماهت معه ، فحمل كلاهما الاخر الى العالمية .

محمود درويش الانسان قبل كل شيء ارتأى ان وطنه ليس حقيبة ، وانه ليس مسافرا ، مع انه كان كالطيور المهاجرة ما ان يحل في بلد حتى يرحل الى آخر ، حاملا هموم اللاجئين والمشردين ، وحزينا على خير من فينا الذين ارتقوا الى سُلّم المجد ، باكيا الطفولة الذبيحة في فلسطين الذبيحة ، سسيلتقي الدرويش مع محمد الدرة الذي بكاه ، وسيلتقي مع فارس عودة وغيرهما من اطفال فلسطين .

سيلتقي بهم وسيتحدثون عن معاناة طالت ، وعن عذابات ارتسمت بدماء بريئة لتضيء لوحة النصر القادمة لا محالة .

محمود درويش الذي خاطب العابرين في كلام العابر ، فأغاظهم بانسانيته المدهشة وفكره المستنير ، يرحل والألم يعتصر قبله على " عودة القطار " والمسافرين يزيدونه ألما على ألم ، وهم يحتربون في صراع عبثي حصد ارواحا ، ورمل نساءا ، وثكل والدين ، وأدمى تربة جُبلت بدماء خير من فينا ، فهل يرحم المتصارعون الراحل العظيم في قبره، لانهم لم يرحموا رهافة حسّه ومشاعره في حياته .

محمود درويش الشاعر الاسطورة الذي حمل الحلم الفلسطيني اعطى الكثير ، وقال الكثير ، وبقي لديه الكثير ليقوله ويفعله ، لكن الموت لم يمهله ، فاختطفه ، كما يختطف الذئب الغزال قبل ان يرتوي من النبع ، دون ان يرحم دموع أمّه التي كان الراحل يعشق الحياة من اجلها .

محمود درويش كتب اغانية من عصارة عقله وقلبه ، أشقاه فكره الذي أسعد به الاخرين ، فغنوه وتغنوا به ، ومع ذلك كان طموحه اكبر من ذلك بكثير ، فرغم عظم نتاجه الشعري والفكري كان بتواضع العلماء يشعر ان رواج شعره ، هو بمثابة تعاطف مع قضيته ، وهو صاحب القضية بامتياز.

محمود درويش لن يستطيع كائن من كان ان يرثيك بأجمل ما رثيت به نفسك ، وكأنك كنت مع الموت على ميعاد ، فاشتقت الى الغياب ، وطلبت ان " لا ينكلوا بجسدك " وكأنك تستعجل الغياب المفجع ،فلله درك ايها الفارس المترجل قبل أوانه.