عن باسل الأعرج الذي عرفت... سلام يا صديق الروح
لم أتوقع يوماً أني سأكتب ما أكتبه الآن، ولا خطر ببالي يوماً أن صديقي الخجول هذا ذا الابتسامة المتوهجة والعينين الهادئتين سيصير رمزاً فلسطينياً. سيعدّل بوصلة القضية ويعيد معنى الثورة إلى طهره الأول. باسل الأعرج الإنسان الصادق الذي سيطاردنا اسمه لسنين في نومنا وصحونا، في أحاديثنا ولغتنا وكلامنا، صار أسطورة يردّدها الناس في الأمسيات عنها ويحكي الفتية في الحارات لبعضهم.
ومن ميزات الأسطورة أنك لا تستطيع إمساك حدودها في لحظة تشكّلها ولا تعرف إلا بعد انقضائها أنها قد كانت كذلك. هكذا كان باسل أسطورة لم ننتبه لها، عاش بيننا كنبيّ حالم وحيد، قال كل ما في جعبته ثم اختفى فجأة ذات صباح، فتذكرناه حينها.
عرفت باسل الأعرج منذ سنين، لم تتغير خلالها ضحكته ولا ثبطت عزيمته، ولا رأيته سوى مقبلاً لا مدبراً، ومذ لقائنا الأول حتى لقائنا الأخير ظل طاقة متوقدة من الوعي والمعرفة.
كان أول موقف عرفت به باسل الحقيقي عام 2013، يومها كنا ضمن فعاليات حراك «أرفض، شعبيك بيحميك» الساعي لإسقاط الخدمة العسكرية المفروضة على الشباب الفلسطينيين الدروز، حيث نظم الحراك لقاءات شبابية بين شباب رافضين للخدمة العسكرية من فلسطين الـ48 أو منسحبين منها وبين شباب فلسطينيين من الضفة الغربية بهدف توعية رافضي الخدمة بواقع الفلسطينيين في الضفة الغربية وتعزيز النسيج الفلسطيني. يومها جاء باسل ليلقي كلمة صادمة قدم خلالها مدخلاً لتاريخ الحركة الفلسطينية الدرزية، مشيراً إلى عشرات الوقعات والمعارك ذاكراً أسماء المقاتلين ومردداً أغاني وأناشيد الثورة التي رددها الفلسطينيون في القرى الدرزية.
صدم باسل يومها الجميع مرتين، المرة الأولى بمعرفته الواسعة واطلاعه على تفاصيل التفاصيل في تاريخ الحركة الدرزية الوطنية، والصدمة الثانية حين نظر باسل إلى أحد الشباب الجالسين وقال له: أنت كنت ضابطاً في جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل سنين وخدمت في منطقة بيت لحم، أنا أذكر وجهك جيداً ولو جلست بين ألف شخص، فقد كسرت ضلعين من صدري واعتقلت عمتي. تلعثم الشاب (أ. ق.) ثم دمعت عيناه قائلاً: صدقني لم أكن أعرف أني فلسطيني، صدقني كنت جاهلاً، أنا أبكي ندماً... قاطعه باسل قائلاً: قد سامحتك وليشهد من يشهد، عانقه بحرارة وقبّل جبينه، وبكى من بكى من الحضور. كان مشهداً موجعاً وعظيماً، كان هذا باسل الذي يحتضن أبناء شعبه وإن ضلوا الطريق، كان هذا باسل الذي عاش بصدر مكسور وأحلام مبعثرة.
عرفت باسل مرة ثانية حين صرنا زملاء في المتحف الفلسطيني، عملنا كباحثين معاً ضمن مشروع «المسرد الزمني» (والذي سيخرج قريباً للنور بعد استشهاد باسل). خلال أشهر كثيرة، كان باسل أكثر من زميل وأخ، كان تحدياً حقيقياً في المعرفة، شخص يتسرب في داخلك فيصيرك، بابتسامته، بظرافته، بخروجه عن المتوقع وقدرته الدائمة على مفاجئتك، باكتشافك اليومي له ودهشتك أمام تجدده الدائم كشيء عصي على الفهم. الكثيرون لم يحتاجوا إلى المراجع في كتابات أبحاثهم، كان يكفي أن تسأل باسل عن أي موضوع يخص التاريخ الفلسطيني ليسرد فوراً عناوين الكتب التي كتبت في المجال وأسماء الباحثين والمختصين والهواة حتى أسماء العجائز الذين شهدوا الحدث أو كانوا في الجوار. أسماء من ظل حياً ومن توفاه الله. كان موسوعة ثرية، وصباح كل خميس كنا نتحلق على شرفة المتحف الفلسطيني لنناقش قضايا وأبحاثاً، وكان باسل يرتشف قهوته وحوله مريدون مدهوشون بمعلمهم.
عرفت باسل في المرة الثالثة حين التقينا آخر مرة، قال يومها: هذه المرة سأدعوكم إلى الغداء، وقبلنا الدعوة، وجلسنا في مقهى ما، في شارع ما، في زمن ما. كان باسل قد استقال من المتحف ورأيته كمن يلخص كل شيء، تحدثنا عن البحث العلمي، عن الثورة الجزائرية، وعن الأرشفة. كان كمن يودعنا يغلق صفحة ليبدأ أخرى، ألقى الكثير من الأسئلة، وطلب الكثير من الأشياء: أن أساهم في توثيق الرواية الشفوية لبعض الفلسطينيين ذَكر أسماءهم يومها، وأن أعمل على تعزيز الأرشفة في البلاد وتكثيف العمل الثقافي في حقل الاستعمار والتحرر المعرفي، ومضى.
أذكر أن لقاءنا الأخير كان دون وداع، دفع الحساب ومضى دون أن يودع أحد منا، كأنه لم يتركنا، وداع مؤجل ينتظر شيئاً ما.
هذا ما عرفته عن باسل والكثير من الأشياء التي عرفها الجميع، حين اختفى باسل، وحين بات مطارداً لقوات الأمن الفلسطينية والإسرائيلية. وحين اعتقل في سجون السلطة وعذب هناك بتهمة حمل السلاح غير الشرعي ضد الاحتلال، وأفرج عن باسل ورفض التسليم، ورفض أن يعتقله جندي إسرائيلي لم يبلغ العشرين بعد، ليقود معركة وحده ويستشهد في غرفة مهدمة على أطراف رام الله.
لا تكمن قيمة باسل في كتابته فقط، ولا في توجهه الثوري واستشهاده، تكمن قيمة باسل في تجربته ككل. باسل لم يترك جبهة إلا وقاتل فيها، بالأدب واللغة والبحث، بالنهج السلمي والعسكري بالتظاهرات والمناظرات والمحاضرات والجولات. باسل كان ناشطاً استنفذ التجربة حتى نهايتها ولم يفعل شيئاً إلا واستغرق فيه حتى الإبداع.
حين قاتل أوسلو قاتل حتى النهاية وخرج لمواجهة الناطق باسم المخابرات الفلسطينية على الهواء مباشرة. حين قاتل في جبهة المعرفة لم يترك كتاباً إلا قرأه، مرت عينيه على آلاف المرجع والكتب والمقالات حتى نشأت علاقة جدلية مدهشة بين روحه والنظارات فأوصى بدفن نظاراته معه حين يموت تقديراً وشكراً للمعرفة التي شاركته بها، وحين قاتل على جبهة النضال السلمي شارك في مئات التظاهرات حتى عرفته شوارع البلاد كلها وطرقت رأسه هراوات الاحتلال وهراوات الأمن الفلسطيني.
باسل كان يؤمن أن كل ذلك لا يكفي وأن قيمة الثوري تولد من قدرته على اختراق المعتاد وخلق الغريب في لحظة الركود لهذا أحب النبي المقاتل، وأحب الحسين، وأحب عياش، أحب كل من استطاع تجاوز الخطاب الجمعي في لحظة بؤس وإعادة القضية إلى منبعها الأول. هكذا كان باسل أيضاً في لحظة انهزامنا جميعاً، في لحظة صمت مطبقة، انتفض من حيث لم نحتسب ومضى في الغابات يقاتل.
لقد رفع باسل باستشهاده سقف النضال وسقف الثقافة، سقف رؤيتنا ووعينا وإدراكنا، نسف عشرين عاماً من جهد السلطة البائس، وعرّانا أمام أنفسنا وأمام وعينا الزائف ثم صفق الباب.
كان هذا باسل الذي عرفت، فشكراً يا باسل لأنني عرفتك، ولأني كنت صديقك لسنين، شكراً لهذا الشرف العظيم.
*باحث فلسطيني
وسوم: العدد 716