وانفضَّ المعزُّونَ
وانفضَّ المعزُّونَ .. ومضى كلُّ حيٍّ إلى دُنياهُ ..
وانفضَّ المعزُّونَ .. وعادت الحياةُ إلى حركتِها الدَّائبةِ ..
وانفضَّ المعزُّونَ .. وانطوت العباراتُ المجاملةُ واكتفت الأيدي المواسيةُ ..
وانفضَّ المعزُّونَ .. وخيَّمَ الصَّمتُ على البيتِ الحزينِ ..
وانفضَّ المعزُّونَ .. ودارت عجلةُ الحياةِ لا تأبهُ لترجُّلِ أحدِهم أو ركوبِ آخر ..
وانفضَّ المعزُّونَ .. وانزويتُ أتلمَّسُ الوجعَ الذي حلَّ بي ..
وأستكشفُ الهوَّةَ التي دُفعتُ إليها ..
وأستطلعُ الظُّلمةَ التي غطَّت كلَّ ما حولي ..
وأدفعُ اللَّيلَ الذي خيَّم على حياتي ..
ولكني عاجزةٌ أمام فراقِكَ القاتلِ .. ألستَ الجذعَ الذي إليهِ آوي حين تشتدُّ الخطوبُ وتدلهمُّ المصائبُ .. فعلامَ أستندُ بعدَكَ يا أبتي ؟!!
ألستَ النَّبعَ الذي أنهلُ منه فراتَ الصَّبرِ وسلسبيلَ الرِّضا فمن أي عينٍ أستقي ما يثبِّتني بعدَكَ يا أبتي ؟!!
ألستَ الملاذَ الآمنَ من كلِّ ما تحملُهُ الحياةُ من صعوباتٍ وما تجودُ بِهِ من مخاطرَ فبأي حضنٍ ألوذُ من ألمِ غيابِكَ ووجعِ رحيلِكَ يا أبتي ؟!!
يقولون إنَّ الرَّصاصةَ التي تقتلُكَ لا تسمعُ صوتَها .. فما بالي أسمعُ منهم: (يرحمُهُ الله) ولا أموتُ ؟!!
ﻫﺬِﻩِ الرَّصاصةُ التي يصوِّبونها إليَّ وهم يظنُّون أنَّهم يحسنونَ بي صنعاً ..
ﻫﺬِﻩِ الرّصاصةُ التي تتلبَّسُ لبوسَ الرَّحمةِ وهي تخفي أشدَّ أنواعِ القسوةِ وتخبِّئُ أعظمَ أشكالِ البطشِ ..
ﻫﺬِﻩِ الرَّصاصةُ التي تَخزُ القلبَ فتفتِّتُه ثمَّ تدعُهُ نابضاً بالحزنِ والألمِ .. لا هي تميتُهُ فتريحُهُ ولا هي ترحمُهُ فتكفَّ عن وخزِهِ ..
كنتَ لي المعلِّمَ الذي علَّمني الكثيرَ الكثيرَ .. لكنَّكَ يا أبي لم تعلِّمني كيف أعيشُ في الدُّنيا ولستَ فيها ؟!!
كيف أتنفَّسُ هواءً ليس مشبعاً بطيبِ عبيرِكَ ؟!!
كيف أكتبُ كلماتٍ لا تقرؤها عيناكَ ؟!!
كيف أتَّخذُ قراراً لا أناقشُكَ فيهِ .. ثم أعتمدُ رأيكَ مهما خالفَ ما أريدُ ؟!!
رحلتَ يا أبي!!
ما أصعبَ المعنى!! وما أقسى التَّعبيرَ!!
رحلتَ يا أبي!!
وانتهت رحلتُكَ مع الألمِ .. الألم الذي لا يتحمَّلُهُ إلا جبلٌ مثلُكَ .. كنتَ تتألمُ بشدَّةٍ ألمحُها في قسماتِ وجهِكَ عبرَ شاشةِ الهاتفِ فإذا سألتُكَ: كيف حالُكَ يا أبي ؟ جاهدتَ لتضعَ على وجهِكَ ابتسامةَ رضا وأنتَ تقولُ لي: الحمدُ لله على كلِّ حالٍ ..
ثم تسرُّ لي أنَّ ألمَ بُعدِنا عنكَ - أنا وإخوتي - أقسى من ألمِ المرضِ الذي يهاجمُكَ بضراوةٍ ..
وحدَكَ تحاربُ المرضَ في بلدٍ يعيشُ أقسى ظروفِ الحربِ ويفتقدُ أدنى مقوِّماتِ العيشِ ..
وحدَكَ تواجهُ الموتَ وخمسةٌ من أبنائكَ وثلاثةَ عشرَ من أحفادِكَ تتوزَّعُهم أقطارُ الأَرْضِ وقد حِيلَ بينهم وبين أن يكونوا حولَ سريرِكَ في أهمِّ وقتٍ احتجتَ فيهِ إليهم ..
وهبتنا الحياةَ وعجزنا أن نكونَ إلى جوارِكَ في مواجهةِ الموتِ .. أيُّ ظلمٍ أقسى من مثلِ هذا الشُّعورِ!!
غير أنَّا لا نقولُ إلا ما يرضي ربَّنا: إنَّ العينَ لتدمع .. وإنَّ القلبَ ليخشع .. وإنَّا على فراقِكَ لمحزنون .. وإنَّا لله وإنَّا إليهِ لراجعون!!.