نابلس حورية التلال وقصر النمر
"البوح الحادي عشر"
وصلنا أنا وأدلاّء ومرشدي الجولة د. لينا الشخشير، د. مها االنمر، وصديقي سامح سمحة البوابة الرئيسة لقصر النمر، وهي بوابة مرتفعة حوالي أربعة أمتار بحيث كانت تسمح للخيالة للدخول بخيلهم إلى ساحة القصر حيث كان هناك اسطبل خاص بالخيول، وللمشاة والراجلين بوابة صغيرة ضمن البوابة الكبيرة والتي نسميها "خويخة" وهي مصممة بشكل يسمح لمن بداخل القصر بالدفاع بشكل جيد لو كان من يدخل من البوابة الصغيرة من الغزاة، فالبوابة الصغيرة مرتفعة عن الأرض وصغيرة نسبيا مما يجعل الداخل منها يحني هامته أثناء الدخول، وهذا النمط من البناء في البوابات الكبيرة التي تحوي "الخويخة" منتشر في الأبنية الكبيرة الحجم كالقلاع والقصور والبيوتات التي سكنها وبناها أشخاص لهم مكانة اجتماعية أو وظيفية في مناطقهم، والبوابة الأصلية والمكونة من الخشب المصفح بالمعدن جرى إزالتها ووجدتها بداخل المبنى ووضع بدلا منها بوابة معدنية تفتقد عبق التراث والتاريخ مقارنة مع البوابة السابقة والمهملة بعد أن تمت إزالتها، ويا ليت المعنيين يهتمون بترميمها وإعادة تركيبها لتعكس صورة القصر الحقيقية.
للوصول إلى البوابة نمرُّ مسافة قصيرة تقع على يمينها ويسارها أبنية تابعة للقصر وعلى اليسار كانت غرفة الحرس، وعلى جانبي البوابة يوجد حجرين وكأنهما كانا مقعدين من الحجارة للحراس، وهكذا نرى أن التصميم للمدخل يعطي القصر ميزة دفاعية للسيطرة على كل من يدخل المسافة من الساحة الخارجية وصولا لبوابة القصر، والجدران الخارجية بنظام البناء تخلوا من النوافذ إلا من بعض فتحات صغيرة مرتفعة، وهي تحتوي على زخرفة قوسية من أعلى لأسفل مع زخرفة حجرية على مدار القوس لمنحه جمالية معمارية.
دخلنا بوابة القصر حيث باحة واسعة مبلطة بالحجر الصواني الذي اشتهرت به نابلس، وفي آخرها الإيوان الشمالي (والإيوان كلمة أعجمية الأصل وعربت) وعلى جوانبه مقاعد حجرية وفي وسطه نافورة ماء، والإيوان مبني على نظام العقود المتصالبة ولكنه مفتوح بالكامل في مواجهة الباحة كما هو نظام الإيوان في البناء حيث يتكون من قاعة مسقوفة وواجهتها مفتوحة بالكامل على الباحة أو الصحن الداخلي، ولكنه يرتفع عن الباحة بمقدار درجة حجرية ، وهو يقع مباشرة في مواجهة بوابة القصر، وعلى يمين الداخل للباحة الواسعة كانت تقع اسطبلات الخيل، ولكن واضح أنه قد جرى إغلاق بوابات هذه الاسطبلات لاحقا بالحجارة، والقصر شمال شرق حارة الحبلة وقد بُني قصر النّمر في القرن السابع عشر للميلاد، وتؤكد كل المصادر أن من قام ببنائه هو القائد العثماني الأمير يوسف عبد الله الجوربجي النمر وكان أمير عسكر الشام في عام1687م، ووالده القائد عبد الله باشا النمر من قاد الحملات العسكرية التي أرسلتها الدولة العثمانية عام 1657م؛ لبسط الأمن في المنطقة، والذي أصبح بعد نجاحه في هذه المهمة الحاكمَ الفعليَّ في مدينة نابلس، وباقامته في نابلس كانت بداية تأسيس أسرة النمر والتي حكمت نابلس لأجيال عدة.
ومن القرن السابع عشر أصبح هذا القصر مركزا للحكم في نابلس، وهو مكون من قسمين شمالي وهو الصيفي والجنوبي وكلاهما كان الطابق الأول فيه ساحة مكشوفة ونافورة ماء واسطبلات خيل، والطابق الثاني هو مركز السكن والإقامة وكان يتكون من جناحين للرجال والنساء، وكان هذا القصر والذي يعاني من الإهمال الآن من أكبر قصور المنطقة ومن أكثرها مساحة مع البستان الذي يتبعه، وعلى اليسار من الباحة في المدخل وبعد نافورة ماء أخرى يقع ديوان الاستضافة والاستقبال، وهذه النوافير مصممة على النمط الدمشقي بالرخام الأبيض والزخرفة الجميلة، وكان القصر يحتوي عينا للماء تسمى عين الآغا، فكما أشرت في مقالاتي السابقة أن نابلس اشتهرت بعيون المياه فيها، ووجود العين في القصر مع التصميم الدفاعي يجعل الصمود لو تعرض القصر لهجوم وحصار أمر وارد لفترة طويلة، ومن الجدير الإشارة أن الرحالة الشيخ عبد الغني النابلسي وهو من أصول نابلسية ودمشقي النشأة قد زار القصر ووصفه بالتفاصيل، حيث حل ضيفا عام 1771م عند الشيخ علي آغا النمر الذي كان يحمل صفة متسلم المدينة بتلك الفترة.
بعد جولة في كل أنحاء القصر وسراديبه قيل لي أنها كانت ممرات نجاة سرية واستخدمها شباب الانتفاضة أثناء مقاومتهم للاحتلال، وشاهدت عدد كبير من الغرف المهملة والمتروكة، وشاهدت حجارة تعود للفترة الرومانية مستخدمة في البناء أو متناثرة فيه، وهذه الحجارة تعود للفترة التي بنى الرومان نابلس فيها بديلا عن شكيم التاريخية في تل بلاطة، صعدنا للطابق الثاني عبر أدراج حجرية، وعلى أحد المصاطب كان محفورا بالحجر لعبة "السيجة" وهي لعبة كان يتمتع بها كبار السن في الماضي وأعتقد أنها شبه انقرضت إن لم تكن انقرضت فعلا، وزرنا السيدة الصيدلانية د. أفنان بدر النمر والتي استضافتنا على الماء البارد والقهوة الطيبة بعد هذه الجولة المتعبة رغم لطف الجو في باحة بيتها بين العشرات من قوارير الزهور فوق القصر وعبق التاريخ، وخلال الحديث فوجئت أن د. مها شقيقة صديقي القديم السفير المتقاعد والمناضل حافظ النمر، والذي كان بيني وبينه جلسات لاحقة في رام الله حيث حدثني عن القصر والمصبنة وحارة الحبلة، وهو متابع جيد لمقالاتي عن نابلس وغيرها من مقالات عن جولاتي وبوح الأمكنة، وطرح السؤال الذي أتمنى فعلا جواب عليه حين قال لي: أنت منذ عرفتك من سنوات طويلة وأنت لا تكل ولا تمل من التجوال والكتابة عن الوطن بالمقال والكلمة والمحاضرة والصور بدون دعم ولا مساندة من أية جهة رسمية أو غير رسمية، وسؤالي: ماذا بعد يا صديقي؟ فقلت له: لا أعرف ماذا سيكون بعد وإن أثمرت بعض جولاتي ومقالاتي عن نتائج إيجابية بترميم بعض المواقع مثل قلعة البرقاوي في كَفر اللبد وفي مناطق أخرى، لكني رغم الجهد والتكاليف لن أتوقف عن دق جدران الخزان لعل أحد يسمع.
ومن فوق سطح القصر كنت أقف وأنظر لنابلس وأهمس لها: فلسطين وطني الذي يسكنني في الحل والترحال وأنتِ حورية الروح، والأجمل في الوطن وجودكِ فيه حورية محلقة وألقة، فيا لجمالكِ نابلس وكم أحلم أن أراقصكِ فوق غيمة نمتطيها فأضم خاصرتكِ وأراقصكِ على نغمات الريح، وبعدها نزلنا إثر الراحة واحتساء القهوة لنغادر القصر بعد أن ودعنا مضيفتنا د. أفنان، وخرجنا لأطراف حارة الحبلة حيث ودعنا مضيفتنا د. مها النمر لتذهب لعيادتها شاكرا لها جهودها معي والجولة في الحارة والمصبنة والقصر، هذا القصر/ القلعة الذي آمل من القائمين عليه وعلى وقف آل النمر أن يعملوا على ترميم ما هو خارب منه وإعادة صبغته التاريخية، واستغلال مساحاته لمتحف يضم تاريخ نابلس وتراثها، فلم أجد مبنى تراثي في كل جولاتي في نابلس يمكن أن يصلح لذلك كما قصر النمر، وخاصة أن محيطه واسع إضافة لمساحاته وغرفه وبساتينه المهملة، وقربه من الشارع يسمح بإيجاد مواقف للسيارت قريبة من القصر بعد أن تعمل البلدية على التخلص من البراكيات المعدنية والورش الصناعية والعشوائيات لتنقل لمكانها المناسب، فتصبح المنطقة والحبلة والقصر والصبانة قبلة للزوار والسائحين وعشاق الأمكنة التراثية، وفي جولة لي في اوروبا في الفترة الأخيرة وبرفقة زوجتي وشقيقي جهاد وزوجته برحلة استمرت 36 يوما وفي 35 مدينة وبلدة وثمانية دول والتي سأكتب عنها لاحقا إن شاء الله لي، شاهدت حجم الاهتمام هناك بالأبنية التراثية التي لا ترقى غالبيتها لما هو في بلادنا من آثار وتراث.
سألت منسقة برنامجي في نابلس د. لينا أين سنتجه الآن؟ وبرقة ولطف قالت: للمسنين وكبار العمر علينا حق، فالرواد الكبار هم الأصل فلنذهب إلى مركز المسنين الأقدم في نابلس والذي تأسس عام 1952، ومن هناك نتجه إلى حارة القريون وقالتها باللهجة النابلسية المحببة "الأريون" لزيارة بعض الأبنية التراثية هناك.
صباح جميل آخر في عمَّان على شرفتي العمَّانية مع نسمات الهواء المعقولة نسبيا قبل ارتفاع درجات الحرارة التي هي فوق المعتاد لهذه الفترة، أحتسي قهوتي وأستعيد ذاكرة زياراتي لنابلس وأستمع لشدو فيروز: " يا من يحنّ إليك فؤادي، هل تذكرين عهود الوداد، هل تذكرين ليالي هوانا، يوم التقينا وطاب لقانا، حين الوفا للأغاني دعانا، طاف الجمال على كل وادي".. فأهمس من القلب: صباحك حب وفرح يا نابلس صباحكم وطن اصدقاء وأحبة وقراء.
وسوم: العدد 841