بين ألق طمون وربيع عاطوف
كانت زيارة جميلة قضينا فيها يوما كاملا بدعوة ومرافقة من الأستاذ سائد بشارات من بلدة طمون وزوج ابنة أخي الأستاذة نسرين جيوسي، فذات يوم ربيعي جميل كنا نتجه برفقة مضيفنا زوجتي وأنا وأسرته من طولكرم إلى طمون في محافظة طوباس من أراضي الضفة الفلسطينية المحتلة، جو منعش ونحن نتحرك من بلدة إلى بلدة مرورا عبر بلدة بزاريا وسيلة الظهر والفندقمية فالعصاعصة وجبع ومن أطراف صانور عبر ميثلون فبلدة سريس فالفارعة وصولا إلى طمون، وكل بلدة مررنا بها أو بجوارها كنت التقط صورا عابرة للبلدة، وبعضها لفت نظري بشدة لزيارات توثيقية لها بالمقال والكلمة والعدسة، وما أن اطللنا على طمون وبدأنا بالصعود من الوادي عبر طريق متعرجة للقمة حيث تربض طمون كنت اتنشق عبير الريف الفلسطيني، فالبساتين والحقول والدفيئات تتداخل مع البيوت السكنية كما في كل ريفنا الفلسطيني وخاصة بالقرى الصغيرة نسبيا.
على بعد خمسة كيلومترات جنوب طوباس كانت طمون تعتلي القمة حيث المباني التي غلب عليها استخدام الاسمنت والطوب، والقليل من البيوت المبنية بالحجر، وطمون اشتقت اسمها من الطمأنينة والهدوء والسكينة، فهناك ارتاح بناة طمون من أصحاب المواشي من أغنام وأبقار أثناء بحثهم عن الكلأ والماء، فوجدوا في طمون الطمأنينة والراحة، فالبلدة ذات جو معتدل صيفا ودافئ شتاءً لاطلالتها على الأغوار، وتاريخ نشأتها يعتبر حديث نسبيا فهو في القرن الخامس عشر، ولوقوعها على أعلى الجبل كان الموقع يشكل حماية لسكان البلدة من الغزوات الطامعة، ولوجود السهول المحيطة بها وخاصة خربة عاطوف وتوفر ينابيع الماء ومواسم الأمطار الجيدة، كان بالامكان توفر المراعي معظم أيام العام اضافة للزراعة للغذاء، إضافة لجبل من الغابات يعتبره البعض محمية طبيعية.
ما أن وصلنا طمون واحتسينا القهوة في بيت والد مضيفنا أبو سائد حتى بدأت جولتي برفقة سائد ووالده في جذر بلدة طمون بدءاً من نصب الشهداء الذي انشأته البلدية تكريما لشهداء طمون وشهداء فلسطين، وبجواره نصب للشهيد البطل أحمد المحمود أبو جلدة وولده مفضي، والشهيد أحمد أبو جلدة الذي ولد عام 1900م واستشهد على مشانق الاحتلال البريطاني في 25/8/1935م بعد أن تمكنوا من القبض عليه وكانت آخر كلماته: "بخاطركم يا شباب، فلسطين أمانة بأعانقكم، اياكم تفرطوا في حبة رمل من أرض فلسطين" وصعد للمشنقة بكل شموخ وعنفوان ورجولة ليلقى ربه شهيدا، أما الشهيد مفضي فقد سار على درب والده واستشهد على يد الاحتلال الصهيوني بعد اشتباك مسلح ليرتقي شهيدا ودفن في مقابر الأرقام ولم يفرج عن جثمانه، وقد تمت تسمية الشارع الذي يبدأ بالنصب باسم الشهيدين أبو جلدة، والشهيد أبو جلدة ممن تأثروا بالمجاهد الشهيد عز الدين القسام والاستاذ المثقف سليمان العامري فشكل مع صديقه صالح العرميط من بلدة بيتا والذي أعدم معه وارتقى شهيدا مجموعة نضالية شنت الهجمات على الاحتلال البريطاني وقتلوا العديد من جنوده وضباطه واستولوا على أسلحتهم، وكان يدعمهم الفلاحون الفلسطينيون ويوفرون لهم الحماية والتموين وبعد عامين من الملاحقة تمكن الاحتلال البريطاني من محاصرتهم في مغارة وأسرهم واعدامهم، وكان الاحتلال وعملاؤه يطلقون عليهم الاشاعات أنهم مجموعة من اللصوص وقطاع الطريق لتشويه صورتهم النضالية، ولكنهم خلدوا بالأهازيج الشعبية الفلسطينية ومنها: "قال أبو جـلـدة وأنا الطموني.. كـل الأعادي ما بهموني، قال أبو جلدة وأنت العرميطي.. وأنا إن متت بكفيني صيتي، قال أبو جلدة يا خويا صالح.. اضرب لا تخطي والعمر رايح".
من النصب التذكاري كنا نتجه لمضافة آل القطيشات وهي من أجمل ما تبقى من بيوت تراثية بنيت في الفترات السابقة التي عاشها الأجداد في طمون، والمضافة مبنية على نظام العقود المتصالبة ومكونة من جناحين وبوابة من ثلاثة أقواس حجرية متداخلة يفصل بين القوسين الحجريين المتلاصقين بالأعلى مساحة من ثلاثة مداميك من الحجارة وعلى رأس القوس الأسفل وهو قوس البوابة حجر منقوش عليه أزهار بشكل جميل، وعلى اعلى القوس ما تحت العلوي نقش حجري جميل يحمل اسم الله وتاريخ البناء ولكن كسر عابر مع تأثيرات الطبيعة أخفت تفاصيل الكتابة ولم يتبقى الا كلمات قليلة واضحة، والبوابة التراثية الخشبية ما زالت بوضع جيد، والمبنى على يمين الباب بالنسبة للمشاهد له بوابة مستقلة وعلى اليسار نافذة عريضة وأعلاها طاقتين قوسيتين من الأعلى، وهذا نمط غير مألوف بالنوافذ التراثية التي تعتمد على الارتفاع الطولي والقليل العرض واذا وجدت نافذتان متجاورتان فيفصل بينهما عمود من الحجارة، ومن الداخل وعلى جوانب الجدران فجوات أحدها كبيرة وكانت تستخدم "مصفط" لرفع الفراش فيه بعد انتهاء النوم، وبجوار هذه الفجوة فجوات صغيرة لاستخدامات أخرى، وواجهة المبنى على يمين المشاهد بها فتحة للصعود الى السطح ولكن من خلال استخدام سلم خشبي متحرك، والمبنى رغم اهماله وتعرضه للتشققات وسقوط بعض الحجارة، إلا أنه لا يزال في حالة جيدة نسبيا ويحتاج بعض من الجهد للترميم قبل أن يأتي الزمان عليه ويتهدم.
من أمام هذا الديوان سرنا في شارع الشهيدين أبو جلدة وهو شارع رئيس في البلدة، حيث جذر البلدة التراثية لمشاهدة ما تبقى من بيوت تراثية، حيث كان أول ما شاهدته بقايا جدار من بيت وبيوت هجرت ومعظم ما شاهدته هي بيوت تقليدية فقيرة المستوى بالبناء، وبيوت لم يتبق منها إلا الأسوار والجدران الخارجية، وفي ساحاتها بنيت بيوت من الاسمنت تفتقد ذاكرة التراث وحكايات الأجداد، ولم أشاهد الا بيتا واحدا بني بطريقة جميلة ومتعوب عليها ببوابة قوسية الاعلى ونافذة تقليدية ضيقة وطولية وقوسية من الأعلى، وأعتقد أن هذا البيت ما زال مأهولا بالسكان، وما عدا ذلك فهي بيوت او بقايا بيوت أكل الدهر عليها وشرب بين بيوت جديدة غالبيتها من الاسمنت والقليل من الحجارة، فالبلدة مع التوسع السكاني فقدت مبانيها التراثية الجميلة التي هدمت لصالح العلب الاسمنتية التي تفتقد الجمال والجماليات وفي غالبيتها علب مخنوقة، وطمون تقع على ارتفاع 332م فوق سطح البحر لذا تتميز بطقس جميل وتبلغ مساحتها 81000 دونم بما يمثل 15% من مساحة محافظة طوباس ومنها ما يزيد عن 1500دونم كمنطقة عمرانية وسكن والباقي مناطق زراعية ورعي مواشي أو غابات.
أكملنا الجولة في طمون حيث تتداخل الاشجار والمزروعات مع الأبنية ومنها مساحات مزروعة بالصبار، ولعل هذه المساحات الخضراء هي التي حافظت على جمالية المشهد العام لطمون بشوارعها ومساجدها وما تبقى من تراثها المعماري، لنتجه بعد هذه الجولة السريعة إلى خربة عاطوف حيث الجمال الطبيعي والمساحات المزروعة والقليل من البيوت في بداية الخربة مع مسجد صغير، وخربة عاطوف مساحة كبيرة من الأراضي الزراعية والرعوية حيث سهل البقيعة وهو ثالث أكبر سهول فلسطين الذي يمتد من طمون إلى نهر الأردن، ويسكن عاطوف الحديثة بعض من أهالي طمون الذين يعملون بالزراعة وتربية المواشي، وقد تم انشاء مدرسة فيها بعد زيادة عدد السكان اضافة لمجلس محلي لرعاية شؤون السكان، وعاطوف بسكانها وأراضيها تتعرض دوما لاجراءات الاحتلال من مصادرة وهدم وتخريب وطرد السكان ومنعهم من استغلال أراضيهم للزراعة والرعي تحت حجة أنها مناطق عسكرية مغلقة، وقد صادر الاحتلال حوالي 80% من أراضيها الخصبة لإنشاء ثلاث مستوطنات زراعية اضافة لمعسكر كبير لجيش الاحتلال، ومن ايام فقط جرى هدم وتجريف كوخ زراعي كوسيلة للتضييق على اصحاب الأراضي واجبارهم على الرحيل، ولكنهم صامدون رغم كل المصادرات والمضايقات.
وصلنا للأراضي الزراعية التي يمتلكها أهل الأستاذ سائد بشارات "أبو كنان" مضيفنا الشاب، حيث السهول الممتدة بين الجبال والتي لا يشوهها الا مشهد أحد المستوطنات، وبدأت فورا بالتجوال في هذا المشهد الساحر فقد كانت زيارتنا وجولتي في بداية ربيع 2019 وتحديدا في اليوم الثاني والعشرون من آذار، فكان احتفائي بجمال الربيع في عاطوف حيث سحر الطبيعة، ومشهد الورود والأعشاب النامية بجمال لا يعادله جمال آخر، والتقطت عدستي للمنطقة ما يزيد عن 300 لقطة، ومنها عشرات اللقطات لأزهار برية ساحرة وفراشات في غاية الجمال وخاصة التي تحلق داخل الدفيئات الزراعية وعلى أزهار الطبيعة، وتذوقت العديد من النباتات البرية التي عرفوني عليها ومنها نبتة تنمو بالطبيعة اسمها "الدريهمة" وهي طيبة الطعم جدا وجميلة الشكل وأخذت اسمها من شكلها المشابه للدراهم، ثم تناولنا الغداء من المشويات وشربنا القهوة والشاي على الحطب قبل ان نعود لطولكرم في المساء، فليس مثل هذه الطبيعة من سحر وجمال، وليس مثل الحقول المزروعة بتعب المواطنين من روعة، ومشاهدة الرعاة مع قطعان المواشي وتنشق الهواء الطلق النقي بدون ملوثات المركبات.
صباح بارد نسبيا في عمَّان التي عدت اليها بعد غياب، أتنشق الهواء البارد مع زقزقة العصافير والحمام التي تحط على حواف الشرفة لتتناول ما أضعه له في الليل من أطعمة، استذكر جولتي في طمون وسهولها وسهول خربة عاطوف، استمتع بفنجان قهوتي مع شدو فيروز وهي تشدو: "سوق القطيع إلى المراعي و أمضي إلى خضر البقاع، ملأ الضحى عينيك بالأطياف من رقص الشعاع، وتناثرت خصلات شعرك للنسيمات السراع، سمراء يا أنشودة الغابات يا حلم المراعي، من فتنة الوديان لونت مراميك خصابا، وملأت هذا المرج ألحانا و أنغاما عذابا"، فأهمس وعيناي ترنو للغرب: صباحك أجمل عمَّان.. صباحك أجمل يا وطني.
وسوم: العدد 905