مشاهدات مصرية
مشاهدات مصرية
أتوبيس القاهرة
م. محمد يوسف حسنة
تصل مصر فتجد الحياة تدبّ في أرجائها، تنوع غريب في شوارعها وفي وجوه شعبها، تنوع يجمع ما بين صخب الحياة وهدوئها، بين تعقيدات تحياها فئة وبساطة فئة أخرى، بين غِنى فاحش وفقر مدقع، تُبهرك العمارة فيها وتزاد إعجاباً بشبكة الأنفاق والقطارات والجسور، لتزداد يقيناً أنه شعب لو قُدر له أن يستغل قدراته البشرية والعقلية بجانب موارده الطبيعية لأحدث فرقاً وسيُحدث، فالمستقبل لمصر إن حسن البناء وبدأ الشعب يلتفت ليبني أمجاد ما بعد الثورة بعد أن طهّر ما كان سابقاً.
يُسحرك نيلها الخلاب في ساعات الصباح الأولى والمساء، تجد المصريين وقد أقبلوا ليجددوا فوق مياهه وعلى جانبيه نذور الحب واستنشاق العليل من الهواء، يمارسون ببساطتهم حياة تُدلل على طيبة منقطعة النظير وإن اعتراها بعض من السلوكيات واجبة التعديل كي تتماشي مع قيم الإسلام في بلد خير أجناد الأرض.
وخلافاً لغزة، فشبكة من المواصلات العامة تتنقل في أرجاء القاهرة وتربط المحافظات والمدن بشكل دقيق يبعث على الإعجاب، ففيه تخفيف عن المواطنين أجرة المواصلات الخاصة، وتنظيم لحركتهم بما يتوافق مع احتياجاتهم، وهى جديرة بالدراسة ومحاولة تطبيقها في غزة وفق الإمكانات إن كانت متاحة.
المواصلات العامة تجربة رائعة لزائري القاهرة، ففي أتوبيس القاهرة تجتمع مع الشاب والكهل مع المثقف والجاهل، في تنوع يعكس طبيعة هذا الشعب، وحديث السياسة سيد الموقف، وكأن الشعب المصري يريد تعويض سنين عمره التي مضت في قتل روحه ومشاركته السياسية بل وقتل الإنسان وتحويله لماكنة تحيا وتموت دون أن يكون لها إسهامٌ حقيقي في تنمية الفكر وإعمال العقل.
لوحة لا تخلو من صور التكافل التي تراها، حين تجد شاباً يقوم ليُجلس كهلاً أو فتاة بدلاً عنه، ولا تخلو من طرائف الحديث في السياسة، أذكر أني استمعت لحديث مواطنين حول البرادعي وكونه أمريكياً جاء ليُتاجر بهموم الشعب وأنهم يرفضون وجوده كرئيس أو مرشح للبلاد، فما كان من أحدهم إلا أن بادر بالقول " البردعي ده حرامي وأنا عارفه، هو طاقة ذرية، وأنا بشتغل بالكهربا، أومال إيه"، لست أدري ما الرابط ولكن تبسمت وضحك الجميع.
وإن كنتَ سعيد الحظ فتستمع للقضايا التي تهمهم كمواطنين من فقر وبطالة وضرورة تحسين الأوضاع المعيشية، وأملهم في الحاكمين الجدد بنقل مصر نقلة نوعية تُعيد لها دورها الريادي الذي طالما تميزت به مصر خلال التاريخ.
لا يخلو الأمر من معاكسات للفتيات، وصوت الأغاني المزعج، فكما قلت في البداية "مصر تعجّ بالمتناقضات والتنوع" والأتوبيس كأنه مجتمع متحرك.
فلسطين ذلك الشغل الشاغل الذي يتمركز في عقل ووجدان المصري وإن جهل التفاصيل، تجدهم إن علموا أنك فلسطيني متعطشين لسماع أخبار قطاع غزة، وسؤالك عن أحوالها والمصالحة بين فصائلها، حبٌ جارف لفلسطين وقضيتها وإن جهل الشعب تفاصيلها، وهنا لا أتحدث عن الطبقة المثقفة أو عن من يعرف فلسطين وجغرافيتها أكثر من بعض الفلسطينيين، بل أتحدث عن عامة الشعب الذي تم تغييبه عن القضية الفلسطينية وحقيقة الصراع وتزييف الحقائق خصوصاً فيما يتعلق بوضع قطاع غزة وتوصيف من فيه بمهددي أمن مصر وناكري الجميل، والصورة الأخيرة للأسف ينقلها فلسطينيون إما جهلاً أو تقصداً، وإما عبر ممارسات سلبية خصوصاً للوافدين من غزة لمصر.
أتوبيس القاهرة ومواصلاتها العامة ونيلها أدوات سهلة وميسرة للتواصل مع المصريين، وهى فرصة نادرة لمن أراد أن يبقى قريباً من نبض الجماهير ويُغير فيهم بما يُعزز ثقافة المقاومة ويرفع الوعي بدور مصر الأممي ويُعيد لها الدور الريادي في حماية المقدسات والدفاع عن قضايا الأمة.
أتوبيس القاهرة ممرك السهل لقلوب المصريين والاحتكاك بهم، جُلّ ما يريدون توضيح الصورة وإزالة اللبس وتعزيز القيم وتوضيح المفاهيم، أتوبيس القاهرة وسيلتك للقضاء على جهل غيّم على عقول بعض العامة فيهم وإحياء ما مات في عهد بائد، أتوبيس القاهرة شريان الحياة والقلب الذي سينبض ليحمي أي مشروع قادم لمصر وعموم المنطقة.
من يُريد أن يُعجب بمصر عليه أن يتوجه لكنزها المباشر وهو المواطن رغم جمال حضارتهم الفرعونية وعظمة أجدادهم، ولكن لن يأسرك أبو الهول وأهراماته المجاورة كما سيأسرك طيبة المصريين وبساطة عيشهم.
ذلك الشعب الذي يأمل بحياة أفضل وغد أجمل، لينهض ويبني مجده ويعيد تصويب بوصلته، إلا أن الشعب تلزمه أن تكون قيادته الجديدة على قدر طموحاته وأحلامه وقادرة على مواجهة ما ينتظرها من تحديات.
جميلة هي القاهرة بأتوبيسها ومواطنيها، ينتهي تسجيل المشاهدة لهنا وأبقى أسير صمت يُطلق العنان للفكر كلما تنقل بين جنبات القاهرة.