أيام في ليبيا
د. محمد موسى الشريف
شددت الرحال إلى ليبيا عام 1415/1995 وذلك لزيارة بعض الأقارب، وقد كان الحظر الجوي سارياً مشدداً على الأجواء الليبية، فذهبت إليها بالحافلة "سوبرجيت" من القاهرة إلى الإسكندرية ثم إلى السلوم فمنفذ "المساعد" الليبي، وكانت رحلة شاقة ذهاباً وإياباً لكني احتسبت هذه الخطوات صلةً للرحم، وأرجو ثوابها إن شاء الله، خاصة أني قد أصابتني محنة عقب عودتي من هذه الرحلة عانيت من آثارها طويلاً وقد سألت الله أن تكون نصيبي من البلاء وممحصة للخطايا، ورافعة للدرجات.
ومن الطرائف في رحلة الذهاب أني كنت جالساً في الحافلة بجوار رجل عربي قح من قبيلة أولاد علي وهو مصري بدوي السحنة والسمت والكلام، قد حنكته التجارب والأيام، فأنست به وأنس بي، وكان قد رأى بين يدي كتاباً فنصحني بأن أرميه!! فتعجبت وسألته عن السبب، فقال إنهم - في ليبيا- لن يرحبوا به، فقلت إنه كتاب في التاريخ القديم وليس بكتاب سياسة ولا خطر فيه، فلم يقتنع بإجابتي، فقلت له: إذا لم يعجبهم فليرموه هم، فقال لي: أخشى أن يرموا بك معه !! فعجبت من وجله، وتأثرت من بعض النظم العربية التي زرعت الخوف في قلوب الناس إلى هذا الحد وحدت من حرياتهم إلى درجة قد لا تصدق أحياناً، فأنهيت الحديث معه بأن قلت له إن هذا الكتاب مؤنس لي في سفري، ولا سبيل إلى التخلص منه، وليكن ما يكون، أما الكتاب فهو كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين" للإمام أبي شامة المقدسي عليه رحمة الله، ويعني بالدولتين: الدولة الزنكية والدولة الأيوبية، وهو الكتاب الذي لم أقرأ مثله في موضوعه في حياتي بل لم أقرأ مثله مطلقاً، وأثر في تأثيراً بالغاً، وسأتحدث عنه في مكان آخر إن شاء الله تعالى، وقد شرفت باختصاره ولله الحمد والمنة.
وقدمنا على الحدود المصرية: السلوم، ومكثنا فيها مدة ليست بالقصيرة حتى فرغ موظفو الجمارك والجوازات مما يريدونه منا، هذا والحافلة مليئة بالناس، ودخلت الحافلة الحدود الليبية ، وقبل أن تصل إلى "المساعد" صعد إليها رجل بلباس مدني فجمع جوازات غير الليبيين، فغاب قليلاً ثم عاد مكفهراً وجهه، عابساً إلى الغاية، وجاءني فبادرني قائلاً: لماذا جئت إلى بلادنا وأنت عسكري؟! فعلمت أنه قد نظر إلى نجمة قائد الطائرة على كتفي في صورة الجواز لكنه لم ينظر إلى خانة المهنة، فبينت له أني طيار مدني وليس لي علاقة بالعسكرية، لكنه بقي على اكفهراره وعبوسه، ثم قال لي: لم جئت؟! فقلت: جئت لأزور بعض قرابتي، فقال: سم لي بعضهم، فسميت له أحدهم وهو في مكان قصي في جنوب ليبيا فما إن سمع بالاسم إلا وانفرجت أساريره، وابتسم وليس له عهد بالابتسام منذ صعد إلى الحافلة أول مرة، ثم قال: مرحباً بك في بلدك وبين أهلك!! فعجبت والله، من سرعة تحوله، ومن معرفته بقريبي هذا على أنه في مكان قصي، ورحمت من كان في مثل موضعي وليس له قريب تنفرج به أسارير أخينا هذا، غفر الله له وهداه.
ثم دخلت الحافلة "المساعد" ونزلنا، وبينا أنا واقف مع الناس في الصف إذا برجل يقترب مني قائلاً: فلان؟ فلما أجبته بالإيجاب حضنني بقوة وأنا لا أعرفه، وقال: أهلاً بابن عمي!! فإذا به قريب لقريبي هذا الذي جئت من أجله، وقريب قريبي قريبي، هذا وأنا لا أعرف أحداً منهما إنما جئت مجدداً العهد الذي انقطع منذ أكثر من مائة سنة!!
وذلك لأن قرابتي هؤلاء قد انقطعت الصلة بين أجدادي وأجدادهم من قبل الحرب الإيطالية الليبية سنة 1911 بل قبل ذلك بأكثر من نصف قرن!! فكلمة ابن عمي التي خرجت من فم قريبي هذا هي كلمة مجازية، وعلى أي حال فقد أخرجني من الصف وجاء بي إلى نافذة فيها موظف الجوازات وختم لي جوازي، ثم أخذني إلى الجمارك لتفتيش حقائبي فبادرهم بالقول: إن هذا هو ابن عمي الشريف الذي قد حدثتكم عنه، فجئته بالحقائب لتفتيشها فما كان من الموظف إلا أن قال لي: أنتم أسياد البلاد فلا نفتشكم، فتفضل بالدخول!! فتذكرت صاحبي المصري الذي في الحافلة ونصيحته لي برمي الكتاب!!
وحمدت الله على ذلك، وخرجت فإذا بقريبي هذا قد جاء وجاء معه عدد آخر من قرابتي البعيدين جداً، وهنا يمكن اجتماع النقيضين البعد والقرب!! فراعني منهم إخباري بأن لهم أربعة وعشرين ساعة في الحدود ينتظرونني، والسبب هو حدوث خطأ في إبلاغهم موعد وصولي إذ قد ضربت لهم بالهاتف من جدة موعداً وسمعوا مني غيره أو أني نطقت به خطأ فالله أعلم، فخجلت منهم لأن الهواء بارد، وهم قد ناموا في السيارة التي في الخلاء، فجزاهم الله خيراً.
وكان وصولي الحدود في الليل، واصطررنا للمسير مباشرة إلى بنغازي في رحلة مسافتها ثمانمائة كيل!! وهذا الذي لم أكن أريده بعد تعب الحافلة لكن ما باليد حيلة، فما وصلت بنغازي إلا قرب الفجر وقد كان الطريق ذا حواجز أمنية متعددة، وذلك لأن ليبيا آنذاك قد حصل فيها مواجهة بين الحكومة والإسلاميين، وكان العسكر يوقفون السيارة فإذا عرفوا مَن معي سمحوا لها بالمرور وإلا أخذوا مني الجواز وأبقوني بالسيارة ودلفوا إلى قسم الشرطة مع قرابتي، وغابوا قليلاً ثم عادوا معتذرين خجلين، فجزاهم الله خيراً.
وقد وصلت بنغازي قرب الفجر فانتظرت الصلاة فصليت ونمت وأنا بأمس الحاجة للراحة، ففوجئت بقريبي هذا الذي جئت من أجله ومن أجل سائر القرابة يوقظني قرابة التاسعة صباحاً وينحي علي باللائمة مازحاً، ويقول لي إنك لم تأت هنا لتنام وقم للإفطار ياسي محمد، فاستيقظت مكرهاً ولم يمكنني مخالفته، وهنا يحسن إيراد قول الشاعر:
قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه فقلت اطبخوا لي جبة وقميصاً
فما كان لي من حاجة بالإفطار، وكنت أريد النوم لكن ما باليد حيلة.
وقد بقيت في ليبيا ستة أيام فلا أكتمكم القول بأنها كانت من أجمل الأيام التي عشتهـا لا لجمـال البـلاد فهـي -في الغالب- صحراء مثل بلادي، ولا لجمال المباني فقد كانت تذكرني بمباني جدة قبل أربعين سنة، ولا لشيء إلا لأرْيَحية القوم وحسن استقبالهم الضيف، وعنايتهم به إلى الغاية، ولسهولة طرائق عيشهم وعدم تكلفهم لشيء يفعلونه، فما هو إلا اليسر والسهولة والرفق، وقد زرت كثيراً من الناس، وزارني الكثير، فلم أجد عند أحدهم كبراً ولا انتفاخاً ولا استعلاء على الآخرين هذا على كثرة من رأيتهم واجتمعت بهم، والقوم يحبون الجلوس على الأرض، وهذا دال على التواضع ولاشك، وقد كان هذا دأب سيد المتواضعين رسولنا صلى الله عليه وسلم ويجلسون الساعات الطوال فلا يلحقهم كلال ولا ملال ولا تبرم بشيء إنما هو الرضى والسكينة، وهذا مما لم أره في شعب قط إلا أن يكون شعب اليمن ففيهم قرب من الليبيين في هذا الأمر.
وقد سافرت مسافات طويلة في سيارة متوسطة لا فارهة ولا سيئة، ذات مقاعد سبعة غير مقعد السائق، وكانت السيارة مليئة بقرابتي هؤلاء فإذا أركبوني السيارة وسألتهم عن وجهتهم قالوا: قريبة هي ياسي محمد، فإذا بها تبلغ في بعض الأحيان ثمانمائة كيل!! فعجبت من صبرهم وبعدهم عن الملل، وكان الملل يصيبني في بعض الأحيان ولم أره قط يطرقهم، وإذا ركبوا في السيارة حدث بعضهم بعضاً حديثاً طويلاً أفهم بعضه ويغيب عني أكثره، وأراهم يحدثون السائق ويجاذبونه أطراف الحديث، ويتحببون إليه ويدخلون عليه السرور كأنه واحد منهم لا يختلف عنهم بشيء، فإذا نزلنا للطعام طعم معنا، وإذا رقدنا رقد بيننا، فتذكرت السائقين عندنا في الخليج وكيف نتعامل معهم!! وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
المصدر (موقع التاريخ) -عند النقل ذكر المصدر-