يومياتي في أمريكا
يومياتي في أمريكا
بلاد الكلاب .. والخضرة .. والآيس كريم
أ.د/
جابر قميحةالحلقة ( 30 )
سلام على عبد الفتاح المليجي
الخميس 10 من يونية 1982
ما أشد الغربة على النفس ، وهي أكثر شدة إذا كان المغترب وحيدا فريدا ترك أسرته في وطنه ، وعاش بنفسه يعاني آلام الغربة ، فما من رفيقة عمر تخفف عنه ، وما من أبناء يسعده وجودهم معه ، ويتسلى بمداعبتهم ، ومضاحكتهم ، ومصاحبتهم في هذه البيئة الخضراء ، بيئة المتناقضات والمتوافقات .
من هنا يكتسب المغترب حساسية من نوع خاص في الشعور بالآلام والمنغصات ، وبتعبير آخر يعيش على ظاهرة " التجسيم والتضخيم " لما يصيبه أو يصيب الوطن " بالموجعات " .
وبالأمس تلقيت من أحد الإخوة الذين حضروا من أيام من الكويت ــ وهو الأخ خالد الصليهم ـ نبأ أفجعني وصدمني صدمة عنيفة وهو موت الأخ الصديق الأستاذ عبد الفتاح المليجي .
يا أخي الحبيب عبد الفتاح ما كنت أصدق أنه سيأتي اليوم الذي أبكيك فيه ، عزيز علي أيها الصديق المخلص أن أتحدث عنك بالفعل الماضي فأقول : " كان "... بدلا من " يكون "...
و" سيكون " . ولكن ماذا نفعل وهذه إرادة الله يا عبد الفتاح . رحمك الله ، وأنزلك فسيح جناته .
كنت بالأمس تملأ الدنيا فرحا ومرحا وسعادة ... كنت تضفي على كل جو تحل فيه البهجة والسرور . لقد رأيتك أول ما رأيتك في أواخر سبتمبر سنة 1970 ... في حجرة المدرسين بثانوية الجاحظ بالكويت ... كنت شابا ـ ولا أقول كهلا ـ في الأربعين من عمرك ، عملاقا طويل القامة ، تتدفق حيوية ، وتفيض بالقوة ، وجلست تنثر ضحكاتك وقهقهاتك هنا ... وهناك ، وتصب لذعاتك الساخرة على الزميلين " عابدين " و " عبد الله أبو النجا " ولم أرك يوما إلا ضاحكا وساخرا .
هل تذكر ـ ياعبد الفتاح ـ أننا كنا نشترك معا في " طبخ " المقالب لبعض الشخصيات من هيئة التدريس ، وأشهر هذه المقالب خطابان مزوران لكل من " عابدين وعبد الله أبو النجا " ، موجهين من وكيل الوزارة بمد إعارة كل منهما لمدة عام آخر ، وكانا في أخر شهر من إعارتـهما وانطلى الملعوب عليهما ، ونزلت " المشاريب " على حسابـهما بمناسبة هذا " التجديد " غير المتوقع . ولكن واحدا فقط هو الذي استطاع أن يكشف الملعوب بينه وبين نفسه ، ولم يستطع أن يملك نفسه من الضحك ، وغرقت عيناه ووجهه بالدموع ـ دموع الفرح طبعا ـ لنجاح المقلب وعجز عن مغالبة الضحك المتواصل فترك الحجرة .
***********
وعاش المليجي رجلا وفيا مخلصا في صداقته ، ولا أنسى له أنه هو الذي عرفني بمجلة "الرائد " الكويتية ، وفتح أمامي الباب للكتابة فيها ، فقد كان أحد محرريها الجديرين بالتقدير. ولا أنسى له أنه الزميل الوحيد الذي واصل الوفاء ، فوصلنا بعد انتهاء إعارته ... كان كلما نزل إلى القاهرة مر بنا وسأل عنا وراسلته ، وراسلني .
والموقف القريب الذى أذكره له أنه كان من الذين جاهدوا ، وجالدوا في جمعية المعلمين بالكويت حتى وصلت إلى قرار " صرف 4000" دينار لأسرة العضو المتوفى . كان عبد الفتاح متحمسا جدا جدا للقرار ، وكان يفخر دائما بإنه جالد وجاهد من أجل إصدار القرار ونفاذه . وأقر القرار ... ونفذ القرار ، ولكن نفذ فيك سهم القدر يا عبد الفتاح ، وفازت أسرتك بــأربعة الآلاف دينار ... وفزت أنت بجوار الله ، ومت في الغربة يا عبد الفتاح ، وأصبحت أنا بعدك أخشى الموت غريبا . وأدعو الله ألا يميتني في هذه الغربة الأمريكية الغريبة .
وكلما شعرت بألم في الناحية اليسرى من صدري ... وكلما شعرت بسرعة في دقات قلبي ، أو بثقل فيه ... قلت : إنـها النهاية . وكلما فتحت عيني في الصباح ساءلت نفسي : أحي أرزق أنا ، أم هي يقظة أموات ؟. رحمك الله رحمة واسعة يا عبد الفتاح .
**********
أما موقفك الخالد الذي لا ينسى فهو أنك ـ وأنت في مكتبك بمجلة الرائد ـ استدعيتني بالهاتف ، وقلت لي : تعال على عجل ... وبأقصى سرعة ، فهناك أمر خطير جدا .
ـ طيب يا عبد الفتاح ... فأنت لها !!
ـ يا جابر هذه صدمة لن يستطيع أن يتلقاها ويحطمها إلا أنت .
وانطلقت إلى مجلة الرائد بأقصى سرعة ، وقصدت عبد الفتاح في مكتبه . وقلت له :
فتح كتاب النصوص للسنة النهائية للمرحلة الثانوية وقال اقرأ هذا أولا .
ـ وما هذا يا عبد الفتاح ؟
ـ بحث من ثلاثين صفحة عن " أدب المقاومة " مقرر على طلاب السنة النهائية بالمرحلة الثانوية ـ وما في هذا ؟ ! كلنا نحب أدب المقاومة ، ونشجعه ونحفظ كثيرا منه .
ـ اقرأ أولا ، ثم احكم بعد أن تنتهي من القراءة .
وأخذت منه الكتاب وقلت له :
ـ سأسهر فيه هذه الليلة في البيت ، وآتيك بحكمي عليه غدا إن شاء الله .
ـ لا ... أريد أن تقرأه في مكتبي الآن ، وأصدر حكمك في كلمات . وأرجئ حكمك المفصل في مقال أو مقالات ترد بها على مضمون هذا البحث .
وعلى مدى ساعتين قرأت البحث ووجدته بحثا ساقطا ، مغالطا ، سطحيا يدل على أن من كتبه من الأساتذة لا يملك من آليات الأدب والنقد إلا أقل القليل .
**********
وكتبت ثلاث مقالات طويلة أنقض فيها هذا البحث الساقط ، بأدلة ، واقعية علمية دقيقة ، اعتمدت فيهاا
ـ بصفة أساسية ـ على الاستقراء الشامل . وقد نشرت هذه المقالات الطويلة في مجلة الرائد الكويتية بتاريخ ( 29 /11 / 1973 ، و 13 / 12 / 1973 ، و 7 / 2 / 1974 ) .
وآتت هذه المقالات ثمارها ، وحققت نتيجة باهرة ، وهي قرار من الوزارة بإلغاء هذا الموضوع تماما ، واستدعاني وكيل الوزارة ـ يعقوب غنيم ـ وكلفني بوضع بحث جديد عن" أدب التحرير والمقاومة " ، يطبع ويقرر على الطلاب في العام القادم . واعتذرت لأنني كنت أتأهب للعودة النهائية إلى القاهرة بعد أن انتهت مدة إعارتي .
الخميس 10 من يونية 1982
قطرات نفس
قطوف مما كتبته في نقض البحث المشوه
لقد سقط كاتب هذا البحث ضحية حماسته الجارفة لموضوعه ، فجرفته هذه الحماسة بعيدا جدا عن " الوقار العلمي " . وبلغت هذه الحماسة حد التزوير والتزييف والتلاعب بمادة البحث ، حرصا من الكاتب على دفع الحرج عن نفسه ، وعن شعر المقاومة الذى حصر أبطاله فى ثلاثة وهم : محمود درويش ، وسميح القاسم ، وتوفيق زياد .
ومن أمثلة التزوير ما أورده الباحث من قصيدة لسميح القاسم بعنوان " أتحدى " على النحو التالي :
واقتلوني أتحدى
أقتل الموت
وآتيكم حياة تتحدى .
مع أن هذا الحزء من هذه القصيدة جاء في ديوان سميح القاسم " قرآن الموت والياسمين " على النحو الآتي :
واقتلوني أتحدى
أقتل الموت
وآتيكم إلـها يتحدى .
ومن فضول القول أن أقرر أن استبدال كلمة " حياة " بكلمة " إلـها " ـ بصرف النظر عن هدف الكاتب ـ يعد تمردا على أبسط قواعد المنهج العلمي ، مع تسليمنا بأن استعمال الشاعر لكلمة "إلـها " في هذا المقام ، وبـهذه الصورة لا يتفق نع أدب الحديث مع الله ،وعن الله.
وهناك سقطات موضوعية فادحة ، منها ـ على سبيل المثال ـ الفصل النوعي الحاد بين أدب التحرير العربي ـ وهو سابق على أدب المقاومة ـ وأدب المقاومة الفلسطيني . مع أن هذا الفصل النوعي الحاد الذي شاءه المؤلف يصطدم بواقعين :
الأول : واقع تاريخي خلاصته أن فلسطين جزء لا يتجزأ من الوطن العربي ، والصهيونية إنما نمت وربت في ظل الاستعمار العالمي ، وتغذت بلبان الاستعمار الانجليزي الذي كان ذا وجود فعلي في أوطان عربية أخرى ، وإن اختلفت درجة المعاناة من وطن عربي إلى آخر . والاستعمار في شتى أسمائه يمثل جوهرا واحدا ، وإن تكيفت صوره وأساليبه اتساقا مع درجة القابلية ، وانطلاقا من الفرص المتاحة ، والثغرات المفتوحة .
وقد كان التخطيط الاستعماري دقيقا بارعا حتى تجمعت كل الشرائط والعوامل المطلوبة لإنضاج المأساة الفلسطينية،فكان ذلك المسخ غير الشرعي : إسرائيل.
هذا هو الواقع التاريخي .
أما الثاني : فواقع فني موضوعي ، فالدراسة الواعية المحايدة لشعر الـمقاومة تخلص بنا في النهاية إلى أنه يتفق مع شعر التحرير في " المنبع الملهم " ، وفي كثير من المضامين الثورية ، والإنسانية ، وإن اتخذ شعر المقاومة ـ في كثير من قصائده ـ وجهة ماركسية حادة ...........
**********
ونكتفي بهذه القطوف من المقالات التى كتبتها في " الرائد الكويتية " . مع ملاحظة أن أهم مضامين هذه المقالات سجلته في صدر كتابي " الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود " من صفحة 9 إلى صفحة 16 .