رحلة صيد في بحر عُمان
من تُرعة رأس غيطنا (حَقْلِنا) كنت أصطاد أمشاط البُلْطِيّ (أشباه المُشْط من سمك النيل المعروف)، وأنا في الثالثة عشرة تقريباً (1979م).
يحمل فأسه محمدٌ ابن عمتي فاطمة، ليضرب موضعاً رطباً من الأرض، فتنكشف ديدانه من أرجائه كاملة أو ناقصة، فنسحبها إلى علبة الطُّعم (طعام إغراء السمك)، ثم على شط الترعة يخرج كلٌ منا دودةً، ويضربها بين كفيه حتى تخمد حركتها، ويلقمها صِنَّارته (خُطَّاف الحديد) المعلقة من قصبة طويلة بخيط طويل ثخين قليلاً معقودٍ بغماز (خشبة طافية تدل حركتها على تعلق السمك بالطعم)، بعد مسافة من الصنارة راسبة مناسبة، ثم يرمي صنارته بطعُمها من غير ثِقلٍ على أبعد مدى ممكن وينتظر.
لم يكن أروع لديَّ منظراً من أن ينجذب الغماز إلى جوف الماء!
ذاكم حوار خاص جداً بيني وبين سمكتي، أدعوها إلى الصعود وتدعوني إلى الهبوط! وكثيراً ما لبَّيْتُ دعوتها، ولكنني كنت أُنيب عن نفسي طُعم صنارتي! وقليلاً ما لبَّت دعوتي، وانخدعت للطعم؛ فانجذبت به إليَّ، وابتهجت في جَوِّ الترعة بهجةً لم أرَّ مثلها قط!
ولقد كنت أحياناً محظوظاً دون محمد ابن عمتي فاطمة، حتى كانت السمكة تلبي دعوتي بالصنارة في زِعنِفَتها لا خَيشومِها، وحتى أحفَظتُ جارتنا من العُدوةِ الأخرى من الترعة (أَغَرتُها) فسألتني لابنها أو ابنتها شيئاً مما اجتمع لي! ثم كانت ابنتها بعد سنين زوجة محمد ابن عمتي فاطمة نفسه، بُلطِيَّة بِبُلْطِيَّة!
واليوم (الخميس 11/10/2012م)، رحلتُ صيدا من بحر عمان ثلاث عشرة ساعة، أنا وعلي بن حمد الفارسي الدكتور – إن شاء الله – ومحمد بن عبد الله الغيلاني المهندس. كلا الفارسي والغيلاني من صور (ولاية ساحلية عزيزة كريمة باهرة يلقبها العمانيون "العَفِيَّة")، مشرق الشمس العربية بمحافظة الشرقية المطلة على بحر العرب من المحيط وبحر عمان من الخليج. أما الفارسي داعيَّ الكريم فصيادٌ مفتون بالصيد من كل وجه في كل وقت، وأما الغيلاني صاحب داعيَّ الكريم فبحارٌ مغامر سبقت له رحلة من صور إلى فرنسا، تلبَّثَ فيها قليلاً بالسويس والإسماعيلية من محافظات القناة المصرية!
مرَّ عليَّ الفارسي بجامعة السلطان قابوس بُعيدَ السابعة والنصف، وذهبنا نصعد ونهبط بطريق جبلي مخيف، إلى منتجع السيفة بولاية مطرح من محافظة مسقط (منتجع مترامي الأطراف مُتسولٍ على جانب مناسب من بحر عمان، لتاجر مصري كبير رجل أعمال، زعموا أن له مثله بمدينة الغردقة على شاطئ البحر الأحمر، فصدَّقت المزاعم المعالمُ)، حيث حملنا أدواتنا إلى قارب الغيلاني الراسي بالمنتجع مجاناً ترويجاً لمكان باهر لم يهتد إليه السياح، وربما حاروا بين الأشباه الكثيرة المنتشرة المُستولية على السواحل العمانية!
أعطاني الفارسي شريطي حبوب قائلاً: إذا وجدت الدُّوار والقيء فخذ من هذا حبتين ثم من هذا حبة! وألبسني سترة نجاة، فقلت "إنا لله وإنا إليه راجعون"! بقينا نعالج أحد محركي القارب حتى انطلق يقوده صاحبه الغيلاني، على حين يجهز الفارسي أدوات الصيد وأساعده أنا، فيُخرجُ نوعين من الخيوط الثخينة القوية جداً، أحدهما شفاف يربط به صنارة أو أكثر على مسافة ثم يعقده بأثقال من الرصاص على مسافة أخرى، ثم يربطه بالخيط الآخر الأسود الذي يسميه الزَّانَة.
الله الله الله أكبر!
تبارك الله أحسن الخالقين!
ما أهون الإنسان إلى ما أبدع الرحمن!
أوغلنا في البحر شيئاً حتى أدهشنا سربٌ ضخمٌ بديعٌ من أسماك الدولفين، يتقافز أقواساً على وتر سطح البحر، وخلفه قوارب الصيادين لا يريدون إلا أسماك التونة المُتيمة بأسماك الدولفين؛ فهي تتبعها حيث ذهبت، نافثةً وراءها في جو البحر من حر صدورها! قلت للفارسي: ولمَ لا يصيدون أسماك الدولفين أنفسها؟ قال: لأنها أذكى من أن تصاد! قلت: وهل هم أغبى من أن يصيدوها! ولكنه شرح لي فيما بعد، كيف يحتاج صيدها – وإن كان ممنوعاً – إلى محاصرتها كما يحاصر المطاريد!
أوقف الغيلاني قاربه، فَصَفَر، وتبين أن أحد محركيه قد تعطل، فرأى أن نلجأ إلى بندر الروضة (أقرب موائل الصيادين والبحارة والمتشبهين بهم)، لنملأ خزان الوقود اطمئناناً، ونطلب من يصلح المحرك، فإذا صفٌ مصْطفٌ، كل يريد الوقود مثلما نريد، وإذا مستودعه على مرتفع، تنزل منه الخراطيم الطويلة إلى مرسى خاص يحاذيه القارب بعد القارب.
التزمنا حدَّنا ولا سيما أننا مضطرون إلى انتظار من يصلح المحرك، وملأنا خزان القارب بمئة وعشرين لتراً، وصببنا عليها قارورتي زيت، وحفظنا إلى حينٍ قارورة ثالثة ومعنا أوعية وقود مستقلة (جَرَاكِن كبيرة)، ثم تحركنا إلى جانب ننتظر حتى حضر ثلاثة فنيين ولم يفلحوا في إصلاح المحرك، فاكتفينا بالآخر.
لم نذهب عن بندر الروضة حتى تجوَّلْتُ فيه فإذا قصر السفير الإنجليزي على مرقبة، يرفرف في سماء المكان العزيز عَلَمُه – وصورت مناظره، واسترحت إلى حمام مستراحه الأعجمي الفخم، وتوضأت، ثم صليت الظهر بالقارب، وكذلك صليت من بعدُ العصر والمغرب، وإن لم أستطع أن أكمل صلاة العصر واقفاً والقارب إعصار على صفحة البحر، فلم أكد أقعد من الركعة الأولى حتى أكملت الصلاة قاعداً سعيداً جداً بالثبات على أرضه من بعد القلق في هوائه!
أبحرنا من بندر الروضة، حتى استحسن الغيلاني موضعاً من البحر، فأوقف قاربه، ثم أقبل هو والفارسي الذي كان قد صنع صنارتين على النحو نفسه، يطعمان صنارتيهما مما معهما من أسماك السردين الميتة، يقسم كلٌ منهما السمكة على نصفين، فيتصدق بنصف الرأس على هوام البحر الطافية، ويغرز في نصف الذيل صنارته من جنب إلى جنب حتى تتمكن ولا تفلت، ثم يلقيها في الماء، ويملي لها من الخيط الطويل ما شاءت حتى تطمئن على قاع البحر – فلو لم تطمئن على القاع لانجذبت بتيار الماء إلى السطح، ولم تدرك السمك – وينتظر، وكل حين يقول: صاحبي، هل عَلِقَت زانتك؟ حتى ملَّ الغيلاني، فتحرك إلى موضع ثانٍ – فكان مثل الأول – وثالث، فإذا الفارسي يصيح: علقت! وجذبها حتى خرجت بسمكة غَزوان صغيرة، فلم يرتح كثيراً، وملَّ الغيلاني، فأعطاني صنارته، وذهب على مهلٍ يجهز صنارة أخرى، من بعد أن علمني كيف أنتبه إلى السمكة حين أجد انجذاب الزانة شيئاً فشيئاً.
أخفقتُ مرات، ثم شعرت مرة بما نبهني الغيلاني مثلما كنت أشعر صغيراً بحديث الغماز الخاص جداً، فجذبت زانتي سريعاً، فجاءتني بسمكة جرشة فاخرة أثنى عليها الغيلاني بأنها أثمن مما اصطاد الفارسي، ثم جاءتني بسمكة أبو عُرم شائكة حذرني الفارسي أن أمسكها حتى أخمد بالضرب حركتها، وكذلك فعل ببعض سمك القدّ والسِّيَّة الذي اصطاده، واصطاد الغيلاني سمكة جَرْشَة، وظهر أن الموضع مُسمِك، لولا اضطرار نُوخَذَتِنا (قائدنا) الغيلاني إلى الذهاب.
وكما حملنا إلى القارب أدواتنا حملناها منه، ثم نظفناه، وأبى عليَّ الغيلاني والفارسي إلا أن آخذ السمك، فأبيت عليهما بألا علم لي بطهوه ولا سبيل إليه، فأخذ الفارسي سمكة السِّية فقط، وترك سائر السمك لأحد موظفي منتجع السيفة! فعجبت له يستغني عن مثل هذا السمك الطازج الثمين ولو رأى بُلطِيَّ نهر النيل أو بُورِيَّ البحر المتوسط، لأقام له متحفاً يزوره المصريون صباح مساء!
عدنا من حيث جئنا، بوَيْلَيْنِ: ويل الليل الطويل البهيم، وويل الطريق الجبلي المخيف، فأفلتناهما بجريعة الذَّقنِ، من بعد أن كدنا ننخدع ببعض المهاوي الجبلية فنهوي إليها، وببعض الثعالب المكَّارة فندوسها، والفارسي مطمئن يصيح: انظر إلى عيون الثعالب المشتعلة، فأقول: لقد ذَلَّ من بالت عليه الثعالب!
أسرعت في البيت إلى الحمام أخلع عن نفسي عذاب اليوم وألبس نعيمه، ثم صليت العشاء واطمأنتُ أُم براءٍ التي خالفتُها إلى هذه الرحلة حتى أوصيت براءً – إن لم أكلمهم – أن يسألوا عني موج البحر أو أن يسألوا فيروز الشطآن، فلولا أنه طمأنها بأنني سأخاف أن أفعل بالبحر ما فعلته من قبل بالنيل، ما قرَّ لها بمصر قرارٌ!
وسوم: العدد 633