بلادنا فلسطين- في دير مار سابا 2
جمال دير مارسابا في براري العبيدية قرب بيت لحم، والمنطقة المحيطة به الذي يأسر القلوب، يدفع المرء أن يتردّد على المنطقة مرّات ومرّات؛ ليتغنّى بجمالها، وزيارتي لهذا الدّير العريق أثارت ذاكرتي من جديد، فتذكّرت دير قرنطل الرابض في قمّة جبل قرنطل الذي يحتضن مدينة أريحا من شمالها الغربيّ، ومرّت في مخيّلتي تلك الأديرة والكنائس القديمة المقامة في وادي القلط بين القدس وأريحا، عدا عن الكنائس والأديرة الأخرى والتي تعدّ بالمئات في أماكن أخرى، والتي تعتبر تحفا هندسيّة، وهذا الجمال الأخّاذ جعلني أطلق دعوة بضرورة دراسة المختصّين للفنّ المعماري للأديرة والكنائس القديمة في بلادنا فلسطين وضرورة توثيقه، فهذا الفنّ المعماريّ شاهد على كنوز بلادنا التّاريخيّة، وشاهد لا يقبل الشّك بأنّها مهد الدّيانات السّماوية كانت ولا تزال وستبقى تعجّ بالحياة، وأنّ شعبها قد ساهم ولا يزال في بناء الحضارة الانسانيّة، بحيث يصدق القول على وطننا فلسطين بأنّه متحف كبير، وما دير مارسابا سوى دليل على أنّ البراري في بلادنا كانت تعجّ بالحياة.
ومن إيماني المطلق بأنّ وطننا بلد التّعدّديّة الثقافيّة، فقد بقيت على اصراري بزيارة ديرمار سابا، خصوصا، وأنّ لي ذكريات مع هذا الدّير منذ طفولتي المبكّرة.
البداية: كنت في التّاسعة من عمري، عندما قرّرنا أنا وثلّة من أقراني أن نقوم برحلة إلى البحر الميّت سيرا على الأقدام! بعد أن سمعنا من الكبار بأنّ المياه السّائبة في وادي النّار الذي يقسم قريتي "السّواحرة" إلى قسمين يصبّ في البحر الميّت، فمشينا مع الوادي نتراكض بصبيانيّة شقيّة، مشينا بجانب الوادي الذي كانت تزرع على جانبيه أنواع مختلفة من الخضار، التي كانت تباع في أسواق المدن مثل القدس وعمّان وغيرها، وتنتهي زراعة الخضار عند جسر الشّارع الذي يصعد منه الشّارع الجبل شديد الانحدار الذي يصعد إلى بلدة العبيديّة، وذلك المنحدر يسمّيه العامّة "دَبّة الخنزيرة" لوعورته، ذلك الشّارع الذي يربط شمال الضّفّة الغربيّة مع جنوبها منذ العام 1993، عندما أغلق الاحتلال مدينة القدس أمام أبناء شعبها الفلسطينيّ، مع أنّ هذا الشّارع لا يصلح لسير المركبات –حسب المواصفات العالميّة للشّوارع- لشدّة انحداره، ولتخفيف خطورة سير المركبات فيه، فقد عمل متعرّجا كما الأفعى العظيمة الأسطوريّة.
مشينا بعد جسر "أمّ عِراق" عند نهاية منحدر "دبَّة الخنزيرة"حوالي كيلو متر، وفي إحدى المنعطفات مررنا ببيوت حجريّة قديمة تظهر على يسارنا، عرفت لاحقا أنّها تعود لعائلات من "العبيديّة"، كانت تعتاش على تربية المواشي، وهناك يزداد الجبلان المحيطان بالوادي انحدارا، وتقلّ أو تتلاشى الأراضي الزّراعية على ضفّتي الوادي، واصلنا طريقنا مع الوادي نغنّي ونصرخ ونتراكض بشقاوة طفولتنا الذّبيحة، وكان الوادي يتعرّج هو الأخر مع تعرّج الجبلين المحيطين به، وفي انحناءة الجبلين المحيطين بالوادي، وبعد البيوت التي مررنا بها، ظهر على يميننا مجموعة أبنية متلاصقة، يحيط بها سور عظيم، فدهشنا من جمال ذلك المكان، وقرّرنا تسلّق الجبل لاستطلاعه، وبقينا نصعد حتّى وجدنا بوّابة حديديّة عند أعلاه، وأمام تلك البوّابة وجدنا راهبا يتمشّى أمامها، كنّا في فصل الرّبيع، ورآنا ذلك الرّاهب نلهث ويسيل العرق من أجسادنا، وسألناه عن ماء للشّرب، فأشار إلنا بأن نتبعه، فتبعناه عبر ممرّ واسع فيه درجات متباعدة، وعند أوّل غرفة على يميننا أجلسنا على مقاعد خشبيّة، وأحضر لنا ماء في كوب معدنيّ، فشربنا حتّى ارتوينا، وسألنا: من أين أنتم؟ فأجبناه: من السّواحرة، وعاد يسألنا: هل أنتم جائعون؟ فأجبناه بنعم، فأحضر لنا خبزا وزيتونا، فأكلنا حتّى شبعنا، وبعدها سألنا: هل أنتم مسيحيّون أم مسلمون؟ فأجابه واحد منّا كاذبا بأنّنا مسيحيّون. فأحضر لكلّ منا صحنا فيه مادّة لزجة حتّى التّجمد غرفها من "زير" فخّاريّ مجاور مع ملعقة صغيرة، فالتهم كلّ منّا صحنه بشراهة على اعتبار أنّها "هريسة"، ولمّا ابتعد الرّاهب قليلا لسبب لا نعرفه، سطونا على الزّير مرّة أخرى، وعبّأنا صحوننا والتهمنا "الهريسة" بشراهة، جلسنا في الدّير أقلّ من نصف ساعة، وخرجنا نترنّح دون أن نعرف سببا لذلك، وكنّا نضحك بشكل متواصل، وجلسنا على تلّة فوق الدّير لحوالي نصف ساعة أخرى، فشعرنا بأنّنا لن نقوى على الوصول إلى البحر الميّت، وعدنا أدراجنا إلى بيوتنا ضاحكين متكاسلين، فظنّتني أمّي مريضا، ولجأت إلى الفراش ونمت لأكثر من عشرين ساعة، وتبيّن لنا من خلال الكبار أنّ "الهريسة" التي تناولناها في الليل ما هي إلا مجرّد نبيذ معتّق! ويبدو أنّ الرّاهب الذي لم يكن يتكلّم العربيّة بطريقة جيّدة قد ظنّ أنّنا مسيحيون من مدينة بيت ساحور، وهذا ما فسّرناه بعد أن كبرنا.
وهذه هي المرّة اليتيمة التي زرت فيها دير مارسابا حتّى العام 2000، عندما زرنا الدّير مرّة أخرى بصحبة محافظ القدس السّابق جميل عثمان ناصر، أبو العبد عريقات وعناد السّرخي، عندما كنّا في ضيافة السّيّد خلف العبيدي الذي يسكن وادي حُجر على بعد 2 كيلومتر إلى الشّمال الغربيّ من الدّير، والذي أسّس ناديا للخيول في ذلك المكان عام 1999 إن لم تخنّي الذّاكرة. وها أنا أعود لزيارة الدّير مرّة أخرى.
وسوم: العدد 745