السياسي والوزير فيضي الأتاسي

رجالات سورية

clip_image002_921f2.jpg

ولد فيضي الأتاسي عام 1899م في الكرك حيث كان والده قاضيها، فشب في بيت العلم، ثم أرسله والده إلى مدرسة جَلَط سراي في اسطنبول، فالتحق بالقسم الفرنسي، وكان يؤم تلك المدرسة آنذاك أولاد الأعيان والحكام في الدولة العثمانية لرقي العلوم ومدرسيها فيها.  ثم أكمل الأتاسي دراسته الثانوية في مدرسة الآباء البيض في القدس، وبعدها سافر إلى جنيف ليصبح طالب حقوق في جامعتها ولم يتجاوز عمره السادسة عشرة، إلا أن الحرب العالمية الأولى سرعان ما اشتعل وطيسها، فاضطر والده طاهر الأتاسي لأن يستدعيه إلى بلاد الشام، وهناك أكمل دراسته في جامعة دمشق، فأخذ دروسه في الحقوق عن الأستاذ فارس الخوري، كما أنه نال إجازة في العلوم السياسية بالإضافة إلى إجازته في الحقوق.  وحضر الأتاسي مجالس أبيه العلمية الأسبوعية، والتي كان يقصدها علماء بلاد الشام آنذاك لتدارس الأمور الشرعية الفقهية واللغة العربية، فكان نتاج ذلك أن خرج منها بعلم وافر في آداب اللغة العربية الأصيلة وعلوم الشريعة والفتوى.  وبعد أن أتقن الفرنسية والعربية والتركية إتقاناً كاملاً أضاف إليهم اللغة الإنجليزية والتي علم نفسه إياها حتى أجادها.

بدأ الاستعمار الفرنسي بمغادرة الملك فيصل البلاد في 29 تموز 1920م.  وقد أرادت سلطة الاحتلال الفرنسي أن تقسم القطر السوري إلى دول عديدة، مستقلة عن بعضها البعض، بحسب طوائف ساكنيها، باثة بذلك الفرقة في صفوف السوريين وممهدة الطريق إلى انتداب طويل الأمد،  فأقرت حكومات لست دويلات: لبنان الكبير، دويلة دمشق، دويلة حلب، دويلة العلويين، دويلة الدروز، وسنجق الإسكندرونة.  وبدأ الفرنسيون يشيعون في كل دويلة أن سكان الدويلات الأخرى راغبون بالاستقلال بدويلتهم.  وكادت حيلة السلطات هذه تؤدي إلى انقسام مؤبد لو لم يتنبه لها السيد فيضي الأتاسي، فأتى بفكرة انتخاب ممثلين خمسة عن كل دويلة من الثلاث: دمشق، وحلب، والعلويين، يمثلون الشعب، ويشرفون على اقتراع يحدد رغبات المواطنين.  ولم تجد السلطات مفراً من الإذعان إلى هذا المطلب العادل والديمقراطي، فجرى الانتخاب، وفاز عن دويلة حمص والد فيضي الأتاسي، العلامة طاهر الأتاسي، من ضمن الممثلين الخمسة، وقد استمر انعقاد هذا المجلس التمثيلي من كانون الأول عام 1922 وحتى كانون الثاني عام 1923م.  وتبين أن خيار السوريين على اختلاف طوائفهم كان في اتجاه الوحدة، وبذلك أنقذت فكرة العلامة فيضي الأتاسي سوريا من قسمة محتملة. 

بدأ فيضي الأتاسي عمله السياسي كمتصرف (محافظ) لحماة في منتصف العشرينيات، وأثناء قيام الثورة السورية عام 1925، وقد كان آل الأتاسي، كما ذكرنا، قد بدأوا يتحولون من مناصب الرئاسة العلمية والدينية (مع احتفاظهم بها حتى السبعينات من القرن العشرين) إلى المناصب السياسية في أواخر العهد العثماني، ففي فترة غير بعيدة كان عمه، الرئيس الجليل هاشم بك الأتاسي، قائمقاماً في مدن عدة، وكان ابن عم والده، عمر بك الأتاسي، زعيماً لحمص ومتسلماً لها، بينما كان أبوه طاهر أفندي الأتاسي مفتيها. 

ولما اندلعت ثورة حماة في أوائل عام 1928م رد الجيش الفرنسي المحتل بقصف المدينة بالمدافع والطائرات، فتقدمت سورية بالشكوى إلى عصبة الأمم في جنيف آنذاك، فما كان من المحتل الفرنسي المنتدب على سورية إلا أن كلف الأستاذ فيضي ليكتب تقريراً ممثلاً الطرف الفرنسي لرفعه لعصبة الأمم، ظناً منه، أي المحتل، أن متصرف حماة الأتاسي، والذي كان من أكثر أبناء البلاد ثقافة ومعرفة باللغة الفرنسية وتاريخها وآدابها، أميل إلى الجانب الفرنسي منه إلى جانب البلاد المنكوبة وأكثر تعاطفاً مع المحتل، فإذا بالتقرير يقرع بالسلطات ويفند مقالاتهم ويصف الغياهب التي ألمت بالمدينة والسكان من جراء القصف، على عكس مظنة السلطات الفرنسية، ولذا عُزل الأتاسي فوراً وصدر القرار بالقبض عليه، إلا أنه استطاع الهرب من حماة إلى حمص بمساعدة المرحوم الشريف نورس أفندي الكيلاني، وتوارى بعد ذلك عن الأنظار لمدة غير قصيرة إلى أن عين رئيساً لديوان المجلس التأسيسي للكتلة الوطنية التي ترأسها عم المترجم، فخامة الرئيس هاشم بك الأتاسي، وذلك في عام 1928. 

ولما استقلت سوريا عن الفرنسيين انتخب السيد فيضي الأتاسي نائباً عن مدينة حمص في المجلس النيابي مرات عديدة فمثل أهلها في انتخابات أعوام 1947 و1949 و1954 و1961، فكان سادس النواب الأتاسيين في التاريخ السوري الحديث، وكثيراً ما شارك العلامة أقاربه من آل الأتاسي مقاعد المجلس.  ولما قام مجلس عام 1949 التأسيسي بوضع الدستور الجديد كان الأتاسي أحد المشتركين في ذلك الحدث، ثم انقلب ذلك المجلس التأسيسي مجلساً نيابياً.

ولما انفك حزب الكتلة الوطنية، ذلك الذي تزعمه عمه، كبير الوطنيين، هاشم الأتاسي، شارك العلامة الأتاسي وابن عمه الدكتور عدنان الأتاسي وآخرون من وجهاء الأتاسي في تأسيس حزب الشعب مع السيدين رشدي الكيخيا وناظم القدسي، ووقف هؤلاء في وجه الحزب الوطني بزعامة القوتلي، وأصبح الأتاسي من أركان الحزب وزعمائه.  وكان فيضي الأتاسي خير ساعد لعمه هاشم الأتاسي، يعضده ويعينه في سياسته.  وقد كان لبعض مواقفه التي مالت في اتجاه المملكة العراقية والعائلة الهاشمية أثراً في تشكل خصوم له، ولكن وجهات نظره سرعان ما كانت تجد طريقها إلى التغلغل والانتشار، حتى أدت بعض خطبه العاصفة، والتي كان يلقيها في مجلس الوزراء والمجلس النيابي، إلى تقديم بعض رؤساء الحكومة استقالاتهم.  هذا، وقد استطاع أن يسخّر تمكنه من ملكات اللغة العربية وأن يعبدها في إيصال أفكاره إلى الجهات المختلفة.  

وفي تاريخ حياته النيابي اشترك العلامة الأتاسي في كثير من نشاطات المجلس ولجناته، فكان أحد أعضاء لجنة الشؤون السياسية والتي ضمت بالإضافة إليه في وقت من الأوقات عشرين عضواً كان منهم عبداللطيف اليونس وإحسان الجابري (وكان رئيس اللجنة) ومعروف الدواليبي وغيرهم من زعماء المجلس النيابي المرموقين، وشارك في وفود قامت بها اللجنة إلى بلاد عربية كالعراق والأردن لزيارة حكامها وأعضاء مجالس نيابتها.  كما انتمى العلامة الأتاسي للجنة الاقتصاد عندما شغل منصب النائب في الأعوام بين 1961م و1963م، والتي كان يرأسها الأستاذ أسعد الكوراني، وقد تم لهذه اللجنة أن درست مواضيع كثيرة تتعلق باقتصاد البلاد وأن نفذت مشاريع عديدة، وفي المجلس الذي انتخب عام 1961م كذلك انتخب الأتاسي رئيساً للجنة الشؤون الخارجية.

وفي أواخر آذار وأوائل نيسان عام 1948م مثّل العلامة الأتاسي بلاده في المؤتمر البرلماني العالمي الذي انعقد في مدينة نيس الفرنسية وقد كان نائباً آنذاك، ثم اختارته بلاده رئيساً للوفد البرلماني السوري ثانية في عام 1962 ليمثلها في اجتماع الدول ذات النظام البرلماني المنعقد في البرازيل من 22 تشرين الأول إلى الثاني من تشرين الثاني.

 تولى فيضي الأتاسي وزارات كثيرة في تاريخ حياته السياسي الحافل حتى بلغ عددها خمس عشرة وزارة أنيطت به في إحدى عشرة حكومة، وقد قل أن تمتع غيره بحقائب وزارية بهذا التنوع والكثرة. 

وقد اشترك العلامة الأتاسي مرات عديدة في وفود إلى بلاد عربية بصفته أحد أعضاء المجلس الوزاري السوري، ففي 23 آذار من عام 1949م كان الأتاسي أحد أعضاء الوفد السوري إلى الجامعة العربية، والذي ضم بالإضافة إليه السيد معروف الدواليبي وخالد العظم، رئيس المجلس آنها. 

كما أن العلامة الأتاسي مثّل سوريا بصفته وزير خارجيتها في وفد ترأسه الأستاذ العلامة فارس الخوري، رئيس مجلس الوزراء السوري آنذاك، وكان ذلك في اجتماع لزعماء الدول العربية في القاهرة في 22 كانون الثاني (يناير) عام 1955م، والذي عقد لبحث قضية "حلف بغداد"، وقد توافد إلى العاصمة المصرية الصلح من لبنان، وتوفيق أبو الهدى من الأردن، والأمير فيصل بن عبدالعزيز آل سعود عن المملكة العربية السعودية.  وفي نهاية الاجتماعات اختير الأتاسي في وفد إلى بغداد ليجتمع بنوري السعيد لنقاش ذلك الحلف، ثم مثل الأتاسي سوريا ثانية في القاهرة في شباط (فبراير) من العام ذاته لمتابعة بحث حلف بغداد.

وبالإضافة إلى تولي الأتاسي هذه الوزارات المختلفة فإنه سُمّي رئيساً للوزراء عام 1949م،  ففي آذار من ذلك العام قام الزعيم حسني الزعيم بالانقلاب الأول على الرئيس القوتلي، ثم أصدر الزعيم مرسوماً على إثره في 14 نيسان 1949م بتعيين فيضي الأتاسي رئيساً للمجلس الوزاري، وقبل الأتاسي بمهمة تشكيل الوزارة الجديدة دفعاً للحرج عن البلاد وحتى لا تبق بأيد العسكريين وحدهم يتحكمون بها.  ولكن تشكيل هذه الوزارة لم يتم لأن الأحزاب السياسية كانت متخوفة من العمل مع صاحب الانقلاب الجديد، وبالأخص أنه كان الانقلاب الأول من نوعه في تاريخ سوريا الحديث، إذ لم يسبق للجيش أن سيطر على مقاليد السلطة من قبل، ومن جانب آخر توالت طلبات حسني الزعيم على الأتاسي أن يترك له الاستئثار بوزارات الدفاع والداخلية والخارجية، فلما اعترض الأتاسي على ذلك قام حسني الزعيم بتشكيل الوزارة بنفسه. 

كما أن الأتاسي تولى رئاسة مجلس بلدية حمص مدة غير يسيرة من عام 1931 إلى عام 1945م. وبالإضافة إلى ذلك كان الأتاسي من المؤسسين لفرع محافظة حمص من منظمة الهلال الأحمر السوري حينما اجتمع رهط من رجالات حمص عام 1946م لهذا الغرض، وانتخب أول رئيس لفرع حمص ذلك العام وحتى عام 1949م. 

أنشأ الأستاذ فيضي الأتاسي جريدة "السوري الجديد" في حمص بعد أن اشترى حقوقها من الوزير السابق توفيق الشامي عام 1948م، وكانت صحيفة صغيرة فحولها إلى إحدى أكثر الصحف انتشاراً.

ولم تفتر همة العلامة الأتاسي في إصدار جريدته معبراً فيها عن قريحته وحتى بعد وقوع إنقلاب أديب الشيشكلي الأول في 19 كانون الأول عام 1949م والذي أحكم قبضته على السلطة لاغياً الحياة الديمقراطية والدستورية، ومسكتاً الأصوات المنددة بحكمه الحديدي بالقبض على صاحبيها ومنعهم من إبداء آرائهم.  وفي الوقت الذي اضطرت فيه وسائل الإعلام أن توائم سياسة الشيشكلي بعد أن أغلق دور النشر التي تحدت سلطته، استمرت جريدة السوري الجديد في أدائها للحق ونشرها للآراء المعارضة للحكم المستبد، وقد دعمها في ذلك زعيم سوريا الأكبر، هاشم الأتاسي، والذي كان محبوباً لدى جمهور البلاد من جميع فئات الشعب.  وبذلك أصبحت جريدة فيضي الأتاسي الوحيدة المناوئة لسلطة الشيشكلي، ولم يجرؤ هذا الأخير على منعها.  ولشدة الطلب على الصحيفة بلغ سعر العدد على عهد الشيشكلي مائة ليرة مقارنة بالليرات الخمس التي بدأ بها تسعير الجريدة.

وفي كانون الأول عام 1953م نشرت الجريدة أنباء المظاهرات التي قام بها الطلاب في حلب في اعتراضهم على مسرحية عرضت على خشبة، ولم تنته هذه الحوادث إلا بسقوط الشيشكلي في 25 شباط عام 1954، بعد شهرين من ظهور المدرسة الأمريكية كانت قد قللت من شأن العرب، ونقلت الصحيفة أنباء جرح السلطات للأساتذة والطلاب المتظاهرين، واعتقال المحامين الذين تصدوا للسلطات.  وكان لهذه الأخبار، والتي ما كان لها أن تأتي إلى حيز الوجود دون جرأة "السوري الجديد" وصاحبها الأتاسي، أن أغضبت الأهالي وأدت إلى مزيد من المظاهرات في حمص وحماة ودمشق، وهذه بدورها أدت إلى مزيد من الاعتقالات لأساتذة الجامعات والسياسيين.  ثم انتشرت شرارة الغضب الذي بدأه مقال الأتاسي إلى باقي أنحاء سورياذلك العدد من "السوري الجديد".

كأسلافه كان للأتاسي حظ من الاعتقال والسجن، وكان ذلك في سبيل الحفاظ على حرية الرأي ودعم حق التعدد السياسي، وقد مر علينا آنفاً قرار السلطات الفرنسية المحتلة القبض عليه لما ندد بتقريره إلى الأمم المتحدة بأفاعيلها عام 1928، إلا أن الأتاسي استطاع تلافي الاعتقال بالاختباء عن الأنظار.  وفي عام 1949 وافق الأتاسي على منصب وزارة المعارف والصحة والشؤون الاجتماعية التي عهد إليه بها صاحب الانقلاب الأول، حسني الزعيم، إلا أنه لما رأى الزعيم يرنو إلى الاستفراد بالحكم والعمل على تحكيم سيطرة الجيش، وكذلك ابتعاده عن سياسية التقرب من الحكم الهاشمي في العراق استقال الأتاسي معترضاً، فما كان من الزعيم إلا أن اعتقله ومعه ناظم القدسي ورشدي الكيخيا وميشيل عفلق، ولم يطل الأمر بالزعيم حتى وقع عليه انقلاب الحناوي في آب، فأعدم الزعيم ورئيس وزرائه البرازي، ثم عقد اجتماع في دار الأركان لبحث الموقف وتشكيل الحكومة الجديدة الانتقالية حضره زعماء البلاد كهاشم بك الأتاسي، وفيضي الأتاسي، وفارس الخوري، ومصطفى برمدا، ورشدي الكيخيا، وناظم القدسي، ومنير العجلاني، وصلاح البيطار، وسامي كبارة، وزكي الخطيب، والأمير حسن الأطرش، ومعروف الدواليبي، وأكرم الحوراني، والأمير فاعور، وعبدالقادر الأسود، وهاني السباعي، وحسن الحكيم، وعبدالرحمن العظم، وأحمد قنبر، وعبدالوهاب حومد، وميشيل عفلق، وصبحي العمري، وفهمي المحايري، ومحمود الشقفة، وعيسى السرياني، ومحمد السراج، وفريد أرسلانيان، ومحمد محمود دياب، ومحمد المفلح، ولطيف غنيمة، وتباحث هؤلاء بأمر الدولة، ثم عقدوا أمرهم على تأليف لجنة تتولى دراسة حال البلاد وتضع خطة لإعادة الحكم الدستوري، فاختير هاشم بك الأتاسي، وفيضي الأتاسي، وفارس الخوري، وناظم القدسي، ورشدي الكيخيا، ومصطفى برمدا، وسامي كبارة ونبيه العظمة، وحسن الأطرش، وميشيل عفلق أعضاءً لهذه اللجنة، وقامت اللجنة بالنظر في شؤون الدولة وقررت تكليف هاشم بك الأتاسي بتأليف وزارة مؤقته لإعادة الحياة الدستورية إلى البلاد، دخل فيها المترجم وزيرا للاقتصاد.

ثم وقع انقلاب الشيشكلي بعد انتخاب هاشم بك رئيسا للجمهورية في كانون الأول عام 1949، وفي الرابع من تموز عام 1953م اجتمع المعارضون لحكم الشيشكلي في منزل هاشم الأتاسي، ومن هؤلاء زعماء الحزب الوطني وحزب الشعب وحزب البعث وزعماء جبل العرب وغيرهم، وكان المترجم أحد المؤتمرين، وأحد الموقعين على الميثاق الوطني الذي تقرر فيه عدم الاعتراف بنظام الشيشكلي ومقاطعة انتخاباته.  فأبدى الشيشكلي سياسة القمع وقام باعتقال الأتاسي وغيره من الزعماء والنواب والرؤساء، ومن هؤلاء كان عدنان الأتاسي، ورشدي الكيخيا، وصبري العسلي، والأمير حسن الأطرش، ومنصور الأطرش، وعلي البوظو، وعبدالوهاب حومد، وميشيل عفلق، وصلاح البيطار، وأكرم الحوراني، ومنير العجلاني، ورزق الله الأنطاكي، وغيرهم، فزج الشيشكلي بزعماء سوريا الأحرار هؤلاء السجن المزي في 24 كانون الثاني عام 1954م، ولكنه سرعان ما اضطر أن يترك الحكم إثر الانقلاب عليه من مجموعة من الضباط الصغار في شباط من العام ذاته وقيام ثورة الجبل، وتم الإفراج عن المعتقلين.

وفي أواخر عام 1956م، وقد استتب للعسكريين التحكم بالدولة السورية، اتهم العلامة الأتاسي بالاشتراك بمؤامرة "حلف بغداد" والتي كان قد عقدته مملكة العراق الهاشمية بتدبير رئيس وزرائها، نوري السعيد، مع كل من بريطانيا وأمريكا وتركيا وإيران وباكستان، ودبر له تهمة محاولة الانقلاب، وأصدر العقيد عفيف البزري، وقد كان رئيس المحكمة العسكرية، قراراً باعتقال المترجم وابن عمه عدنان الأتاسي والسيد منير العجلاني وصبحي العمري وسامي كبارة واتهامهم بمحاولتهم ضم سوريا إلى الحلف وإخضاعها لسلطان العرش الهاشمي، وتم محاكمة الأتاسي غيابياً، والذي كان خارج البلاد، ثم برئت ساحته لعدم توفر الأدلة، وعاد الأتاسي إلى بلاده واشترك في التصويت للوحدة مع مصر.  وقد اضطر الأتاسي بعد ذلك إلى أن يلزم بيته وأسرته في حمص وقد ترصد له أعداء الحرية وناصروا الحكم التعسفي ومنعوه من مزاولة مهنته السياسية، وحتى عام 1961 حين تم انتخابه للمجلس النيابي للمرة الرابعة.

وفي 28 آذار عام 1962م زار الأتاسي سجن المزة مرة ثالثة بعد وقوع الانقلاب الثاني تالياً انقلاب الانفصال، وقد كان هذا الانقلاب بقيادة عبدالكريم النحلاوي، قائد الانقلاب الانفصالي في 28 أيلول 1961م، واللواء عبدالكريم زهر الدين، إلا أن اجتماعاً في حمص لبعض قيادات الجيش في 28 آذار عام 1962م أبعدت الأول وجعلت من الثاني الآمر الناهي.  ولما سيطر العسكريون على زمام الأمور نحوا الرئيس ناظم القدسي وأخذوا يعتقلون السياسيين المدنيين، فوجد الأتاسي نفسه في السجن مع خالد العظم ومعروف الدواليبي ولطفي الحفار وصبري العسلي وأحمد قنبر ومحمد عابدين وعدنان القوتلي وغيرهم من نواب ووزراء، حتى أن رئيس البلاد نفسه، السيد ناظم القدسي، كان قد اعتقل وأودع سجن المزة.  ولكن الضباط سارعوا بالإفراج عن هؤلاء عندما قرروا إعادة القدسي إلى منصبه شرط أن يبدل حكومته بأخرى جديدة، وحصلوا على تواقيع المعتقلين بذلك في 13 نيسان من ذلك العام.

اعتزل فيضي بن طاهر الأتاسي السياسة في منتصف الستينات، وعاد إلى حمص فكان بين أسرته وأصدقائه، واستغل خلو الجو ولذة صفائه، فتفرغ لقراءة الكتب، وقد خط بقلمه على القصاصات بيوت شعر، لم يكتب لها أن تُجمع فتُطبع أو تُنشر.  وظل الأتاسي في حمص حتى توفاه الله في تشرين الثاني عام 1982م.

وسوم: العدد 764