العلامة الداعية والشيخ المجاهد عبد الفتاح أبو غدة
ولد الشيخ عبد الفتاح بن محمد بشير بن حسن أبو غدة في مدينة حلب الشهباء، شمالي سورية سنة 1917م، في بيت ستر ودين، فقد كان والده محمد رجلاً مشهوراً بين معارفه بالتقوى والصلاح والمواظبة على الذكر وقراءة القرآن. وكان يعمل في تجارة المنسوجات، التي ورثها عن أبيه، حيث كان الجد بشير من تجار المنسوجات والقائمين على صناعتها بالطريقة القديمة. ينتهي نسب الشيخ رحمه الله تعالى إلى الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان لدى أسرته شجرة تحفظ هذا النسب وتثبته.
التحق الشيخ، متأخراً عن أقرانه، بالمدرسة العربية الإسلامية في حلب، ثم بالمدرسة الخسروية العثمانية، التي بناها خسرو باشا، والتي تعرف اليوم باسم الثانوية الشرعية، وتخرج منها سنة 1942م، وانتقل إلى الدراسة في الأزهر الشريف، فالتحق بكلية الشريعة، وتخرج فيها في الفترة ما بين (1944 ـ 1948م)، وانتقل منها إلى التخصص في أصول التدريس في كلية اللغة العربية في الأزهر أيضاً وتخرج فيها سنة 1950م.
بعد أن أكمل الشيخ دراسته في مصر، عاد إلى سورية وتقدم سنة 1951م لمسابقة اختيار مدرسي التربية الإسلامية لدى وزارة المعارف فكان الناجح الأول. ودَّرس أحد عشر عاماً مادة التربية الإسلامية في ثانويات حلب، كما شارك في تأليف الكتب المدرسية المقررة لهذه المادة. ودرَّس إلى جانب ذلك في (المدرسة الشعبانية) وهي معهد شرعي أهلي متخصص بتخريج الأئمة والخطباء، ودرَّس في الثانوية الشرعية (الخسروية) التي تخرج فيها، ثم انتدب للتدريس في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ودرس فيها لمدة ثلاث سنوات (أصول الفقه)، و(الفقه الحنفي)، و(الفقه المقارن بين المذاهب). وقام بعد ذلك بإدارة موسوعة (الفقه الإسلامي) في كلية الشريعة بدمشق لنحو عامين، أتم خلالها كتاب (معجم فقه المحلى لابن حزم) وكان قد سبقه للعمل فيه بعض الزملاء فأتمه، وأنهى خدمته، وطبعته جامعة دمشق في ضمن مطبوعاتها في مجلدين كبيرين.
أُدخل السجن سنة 1966م مع ثلة من رجال العلم والفكر في سورية، ومكث في سجن تدمر الصحراوي أحد عشر شهراً. وبعد كارثة الخامس من حزيران سنة 1967م اضطر الحاكمون إلى الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، وكان الشيخ رحمه الله من بينهم.
انتقل إلى المملكة العربية السعودية، متعاقداً مع جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض حيث عمل مدرساً فيها، وفي المعهد العالي للقضاء، وأستاذاً لطلبة الدراسات العليا، ومشرفاً على الرسائل العلمية العالية، فتخرج به الكثير من الأساتذة والعلماء. وقد شارك خلال هذه الفترة 1965ـ 1988م في وضع خطط جامعة الإمام محمد بن سعود ومناهجها، واختير عضواً في المجلس العلمي فيها، ولقي من إدارة الجامعة كل تكريم وتقدير.
انتدب الشيخ أستاذاً زائراً لجامعة أم درمان الإسلامية في السودان ولمعاهد الهند وجامعاتها، وشارك في الكثير من الندوات والمؤتمرات الإسلامية العلمية، التي تعقد على مستوى العالم الإسلامي. وكانت له جهود طيبة في جميع هذه المجالات. ثم عاد للعمل مع جامعة الملك سعود في الرياض وقبلها مع جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض كذلك.
كان رحمه الله شديد الاهتمام بأمر المسلمين، وظف كثيراً من وقته وجهده لخدمة الشأن العام، وعندما أنهى إليه بعض العلماء في سورية أنه من الممكن إذا عاد إليها في ظل الظروف القائمة، أن يكون مفتاحاً للإفراج عن ألوف المعتقلين السياسيين هناك، وبذل له وعداً بمقابلة الرئيس حافظ الأسد لحل الأزمة العالقة بين الحكومة والحركة الإسلامية، فقبل أن يقوم بالمهمة رجاء تحقيق شيء للمصلحة العامة. وبعودة الشيخ إلى سورية استقبل استقبالاً حافلاً على المستويين العلمي والشعبي ولكن دون أن يتحقق له ما عاد من أجله.
وفي شهر كانون الأول عام 1996م شعر الشيخ بضعف شديد في نظره فعاد من حلب إلى الرياض ليستأنف علاجه، في أواخر رمضان من العام نفسه اشتكى الشيخ من ألم في البطن، أدخل على إثره مستشفى الملك فيصل التخصصي وتبين أنه ناتج عن نزيف داخلي بسبب مرض التهابي، وما لبث أن التحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد 16 من شباط 1997م عن عمر يناهز الثمانين عاماً فرحمه الله رحمة واسعة . ودفن الشيخ قي المدينة المنورة في جنازة حافله من تلامذته ومحبيه.
تتملذ الشيخ في بداياته على كبار علماء مدينة حلب، ثم على رعيل من كبار علماء مصر، وكانت بداية تفقهه على مذهب أبي حنيفة، سبر غوره وبرع فيه، ثم درّس مع تضلعه بفقه المذهب الفقه المقارن، فنال حظاً وافياً من فقه المذاهب الأخرى. كما درّس في جامعة دمشق علم الأصول وبرع فيه. واشتغل بالموسوعة الفقهية الإسلامية. وانتقل في مرحلة تالية للاشتغال بكتب الحديث الشريف فحقق جملة منها حتى برّز في علم الحديث واحتل مكانة متقدمة فيه.
قام الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى بالعديد من الرحلات العلمية والدعوية رحل إلى عدد من الأقطار الإسلامية، مفيداً ومستفيداً، فإلى جانب إقامته في مصر، رحل إلى الهند وباكستان والسودان والمغرب والعراق والتقى بعلماء هذه الأقطار، وطلاب العلم فيها، فأفاد منهم وأفادوا منه. ولقد حمل في زياراته المتعددة إلى الهند وباكستان كثيراً من علم القارة الهندية إلى المشرق العربي، وحقق العديد من الرسائل والكتب وشهرها بين أهل العلم، فنالت استحسانهم وإعجابهم.
يعد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من العلماء الثقاة، الذين يفخر بهم العالم الإسلامي في القرن العشرين، وقد أحاط بالعلوم الشرعية، وتبحر في علمي الفقه والحديث، حيث أكب منذ بداية حياته العلمية على تحقيق ونشر الكتب النفيسة في هذين الفنين.
ويمتاز تحقيق الشيخ عبد الفتاح بأنه يقدم مع الكتاب المحقق، كتاباً آخر مليئاً بالفوائد النادرة والتوضيحات النافعة، التي توضح الغامض، وتسدد وتصوب وترجح وتقرب العلم إلى طالبه وتحببه إليه.
وللشيخ رحمه الله تعالى ولع شديد بكتب العلم، يتتبعها في مظانها، مطبوعة ومخطوطة، ويصرف وقته وجهده وماله، في سبيل اقتنائها وخدمتها، وتقديمها للقارئ، غنية بمضمونها، راضية في شكلها، تنم على إحساس عال لدى الشيخ في تكريم الكتاب، وعلى ذوق رفيع في طريقة إخراجه. وللشيخ عشرات الكتب المؤلفة والمحققة.
كان الشيخ رحمه الله تعالى معلم أجيال، ومؤسس مدرسة علمية في مدينته حلب الشهباء، قامت على الوسطية والمنهجية والانفتاح. وعلى الرغم من أن الشيخ حنفي المذهب، ويعيش وسط بيئة يسود فيها المذهب الحنفي، إلا أنه أسس بمنهجيته العلمية لموقف علمي شعبي منفتح يتجاوز كثيراً من العنعنات والتعصبات المذهبية.
كان يصر في منهجيته على اعتماد الدليل، والمقارنة بين المذاهب، يربط الحكم بدليله، ويقارن بين أقوال العلماء وأصحاب المذاهب..(لا تقولوا قال الشيخ..) كانت تلك عبارته وإنما احفظوا الدليل لتقولوا (قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم).
في تعليمه وتربيته كان يذكر سلف الأمة أجمع بالخير والتقدير، ويغضي عن كل الخلافات التي كانت تكون في العصور.. كان ابن تيمية رحمه الله تعالى موضع ازورار البيئة العلمية التي يعيش فيها الشيخ، وكان مشايخ الدولة العثمانية الشيخ مصطفى صبري والشيخ محمد زاهد الكوثري من أشد الناس ازوراراً عن ابن تيمية، ولكن الشيخ أبا زاهد أماط كل هذا عن شخصية ابن تيمية، وقدمه لتلامذته عالماً عاملاً مجاهداً له مكانته (الإصلاحية) و(الفقهية) و(الجهادية). يقول في هذا راداً الفضل لأهله (والذي نبهني إلى مكانة ابن تيمية وعلمه وفضله شيخي الشيخ نجيب سراج الدين رحمه الله..) والشيخ نجيب سراج الدين من علماء حلب، بل عالم حلب في وقته، وقد ورّث العلم من بعده لولده عبد الله سراج الدين رحمهما الله تعالى.
كان الشيخ رحمه الله تعالى متواضعاً في تعليمه، متألفاً لقلوب متابعيه وتلامذته، فكان إذا شعر أن مسألة ما غمضت عليهم، وعجزوا عن استيعابها قال (أنا لا أُفهم.. أنا لا أُفهم، أُعيد)، ثم يعيد المسألة، فينسب التقصير لنفسه، ويبرأ منه تلامذته.
وإلى جانب هذا التواضع كان يقرن اللطف بالتنبيه والإرشاد.. كان كثيراً ما يروي حديث الأعرابي (الذي تكلم في الصلاة) وقول هذا الأعرابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (فما زجرني وما نهرني وما زاد على أن قال إن الصلاة عبادة لا يصح فيها شيء من أمور الناس..)
إذا لحظ أن أحد المصلين لا يعطي الركوع حقه سأله بلطف: (هل تشتكي من ألم في الظهر..) وإذا رأى عالماً على غير مذهبه يخالف المشهور مما عليه العمل سأله برفق (هل عندكم في هذا الأمر شيء؟!)
وكان رحمه الله في فتواه معلماً وواعظاً، يتصدى لعادات المجتمع البالية بروح نقدية لاذعة. كانت (أيمان الطلاق) من أشد ما يحمل عليه الشيخ ويقرع الحضور من أجله محذراً ومستهجناً (يحلف أحدهم بالطلاق عدد حبات كيس الأرز ليمارس رجولته..) ثم يقف أمام الشيخ (دبرني..) وبعد أن يشدد النكير يطلب المستفتي ليلقاه على انفراد.
أسلوبه التعليمي المتفرد، ومزجه الجد بشيء من اللطائف المحببة، واستشهاده بالأبيات السائرة، جعل خطبه ودروسه قبلة الشباب والمثقفين، فربى جيلاً، وفتح أعيناً وقلوباً على مقاصد الشريعة، وقواعد العلم، وحقائق العصر ،من غير إفراط ولا تفريط. كان يعجبه أن يردد أمام (المقصر) و(الغالي): (هوناً ما..) مكرراً قول الإمام علي رضي الله عنه: (أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون عدوك يوماً ما. وابغض عدوك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما..).
كان يؤكد على السمو العقلي المتفتح في شخصية المسلم، وألا يترك نفسه تنحاز به إلى السفاسف والصغائر، حمل إليه أحد الخلطاء يوماً صورة لمقطع حبة بندورة ارتسم فيها صورة للفظة (الله)، وقد احتفت بها إحدى الصحف، ونسخت صوراً عنها ووزعتها.. قال الشيخ معلقاً (إن المسلم ينبغي أن يكون أعقل من أن يؤخذ بمثل هذا!! وإن الإسلام أعظم من أن يستدل على صحته بهذه الصورة !!)
وبين العقل والشرع يؤكد الشيخ على وزن الأمور بميزانها ويكثر من الاستشهاد بقول القائل..
وزن بميزان الشرع كل خاطر.
وقول الآخر:
رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع.
العالم العامل، من الألقاب العزيزة في عصر قل فيه العلماء، وندر العاملون. فعلى الرغم من استغراق الشيخ رحمه الله تعالى في تحصيل العلم ونشره تأليفاً وتدريساً ومتابعة ؛ إلا أن ذلك لم يمنعه أن ينخرط في صفوف الدعاة العاملين، فكان منذ مبتدأ أمره أحد أركان دعوة الإخوان المسلمين في سورية. يمنحها وقته وجهده ومشورته وتأييده وتسديده وكلَّ ما تطلبه منه.
كان انتسابه إلى هذه الجماعة، وإيمانه بدورها، ومكانتها لا حدود له. يقول عنها أمام بعض إخوانه وقد دب إليهم النَّصَب وعوامل اليأس أثناء محنة طويلة (.. إنها غرسة يد مباركة هي يد الإمام الشهيد حسن البنا، وهي غرسة يجب أن تستمر..)
في إطار العمل الدعوي يلقى الداعية من إخوانه أحياناً بعض ما يذكر بحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال (رحم الله أخي موسى فقد أوذي أكثر من ذلك فصبر). ولقي الشيخ رحمه الله تعالى في هذا الإطار الكثير. واحتسب ذلك عند الله تعالى من غير شكوى ولا هجر. كما لقي من أعداء الدعوة السجن والتشريد والإبعاد عن الوطن فاحتمل كل ذلك راضياً محتسباً.
في إطار العمل الدعوي وكان الشيخ رحمه الله تعالى خلال إقامته في سورية مدرسة دعوية حية متحركة، تتلمذ عليه فيها ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين، كلهم يفخر بأنه قد نال شرف الاغتراف من بحر فضيلة الشيخ عبد الفتاح.
وكانت له في مدينة حلب إلى جانب خطبة الجمعة الأسبوعية، التي كان يلقيها على منبر الجامع الحموي أولاً، وجامع الثانوية الشرعية ثانيا، ثلاثة دروس أسبوعية: مجلس للتفقه في الدين بعد خطبة الجمعة فيها أسئلة وأجوبة، تغطي حياة المسلمين الخاصة والعامة، يجيب الشيخ فيها على جميع التساؤلات بمنهج رشيد سديد، يربط الفتوى بدليلها الشرعي، وبالعصر الذي يعيشه المسلمون، ممعناً في الترغيب والترهيب والتوجيه. ودرس للفقه يوم الاثنين، حيث كان الشيخ يغمر الحاضرين بواسع علمه، في المقارنة بين المذاهب، وذكر الأدلة، والترجيح بين الأقوال. ودرس ثالث في الحديث والتربية والتهذيب يوم الخميس، وجمهور كبير من الشباب يواظب على هذه الدروس، يستفيدون من الشيخ تربية وتهذيباً وعلماً.
على ساحة العمل العام وصل الشيخ إلى مجلس النواب في أوائل الستينات. وكان رحمه الله في الحقل العام مثال السياسي المتبصر الجريء. وقد تشكلت يومها القائمة التعاونية في حلب، وكان في القائمة مسلمون ومسيحيون. وخطب الشيخ في المساجد كما في الكنائس مدللاً على رؤية وطنية شمولية راسخة. وكان تفاعل الشيخ وإخوانه في المجلس النيابي مؤكداً منهج جماعة الإخوان المسلمين الوطني، بالقبول بالتعددية السياسية، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
وفي إطار الجهد العام أيضاً سعى الشيخ أكثر من مرة لجمع كلمة العلماء في حلب، ولتشكيل رابطة حقيقية للعلماء تجمع شملهم وتوظف جهدهم في خدمة الشأن الإسلامي. ولكن هذا المنحى لم ينجح لأسباب وظروف عامة.
في بدايات عهد الاستبداد كان للشيخ جولات في صراع الباطل والتصدي للهجمة الانفعالية المضادة للإسلام، والتي مثلها فريق من الموتورين بطروحات وشعارات مغرقة في الكفر والاستفزاز لمشاعر الشعب العربي السوري. وكان يردد في مسامع الذين يتهددونه في شخصه صباح مساء:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي
في شخصيته القيادية كان الشيخ رحمه الله تعالى قائداً حازماً بصيراً، واضح الرؤية، بعيد الغور، حكيماً لا تستخفه المطامع القريبة، ولا المصالح العاجلة، امتلك ناصية فقه المصالح والمفاسد الذي لا يكون المرء فقيهاً إلا به، على ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (لا يكون الرجل فقيهاً حقاً إلا إذا عرف أكبر المصلحتين ففوت عند التعارض أدناهما، وعرف أعظم المفسدتين فدرأ عند التعارض أعظمهما).
في مرحلة التأسيس الدعوي في الستينات والسبعينات في حلب الشهباء كان الشيخ يأمر بالالتفات إلى العمل والبناء والجدّ، وينهى عن إضاعة الوقت والقيل والقال والانشغال بالصغائر، وافتعال المعارك الجانبية التي تستقطب الجهد وتضيع الوقت بدون طائل. وكان يرى أن الأمة بحاجة إلى البناء، وأن الشخصية المسلمة وقد حطمت من عهود الانهزام الطويلة بأمس الحاجة إلى استعادة الثقة بنفسها، وأن على قادة الجماعة أن يضعوا الخطط والبرامج لبناء الشخصية الإسلامية العامة الواثقة بنفسها.
كان يشدد النكير على الغلو والغالين ولاسيما من الذين يتنطعون بالحديث عن تقمص مكانة (جماعة المسلمين) قال لسائل ادعى أمامه يوماً أن (جماعة الإخوان المسلمين) تمثل جماعة المسلمين راداً قوله (إن جماعة المسلمين أنا وأنت وهذا الحداد وذاك النجار والخباز.. كل هؤلاء الناس هم جماعة المسلمين)
وعلى الصعيد التنظيمي ومع رغبة الشيخ الملحة في الانصراف بكلّيته إلى الجانبين العلمي والدعوي، اضطر أكثر من مرة أن يستجيب لرغبة إخوانه فيتحمل منهم بعض المسؤوليات التنظيمية، فكان أن تولى منصب المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، ثم سريعاً ما تخلى عنه، عندما وجد من يتولاه، ثم ألجئ مرة أخرى إلى تولي هذا المنصب سنة 1986م عندما عصفت بالإخوان ريح الخلاف الداخلي.
من كان اغترافه من بحر أكمل الخلق كيف تعدد خصال كماله؟!!. فقد كان الشيخ أبو زاهد رحمه الله تعالى دمث الأخلاق لطيف المعشر حلو العبارة أنيق المظهر، يتأنق في لبسه وهيئته ومجلسه ويأخذ من حوله بذلك إلى تواضع العلماء وأدب جم. ويمثل الشيخ عبد الفتاح أبو غدة بشخصيته القوية المتميزة، شخصية العالم المسلم العامل المجاهد، فهو واسع العلم، رحب الاطلاع، يعيش قضايا أمته وعصره، يضع هموم المسلمين نصب عينيه، مدركاً كل الأبعاد التي تحيط بهم، وهو مع اتصافه بكل ما تقتضيه شخصيته العلمية، من رزانة وهيبة ووقار، حلو الحديث، رشيق العبارة. قريب إلى قلوب جلسائه، يأسرهم بحسن محاضرته، وطيب حديثه، وبعد غوره، مع حضور بديهة، وحسن جواب، فلا غرو بعد ذلك أن تلتقي عليه الجموع، وتتعلق به النفوس وأن يكون موضع الحب والتقدير، والثقة لدى جميع من خالطه من إخوانه وأحبابه، وهو إلى جانب ذلك بعيد عن الغلو والانفعال يزن الأمور بميزانها الشرعي الدقيق، وقد أخذ بذلك نفسه وتلامذته.
لا يستقبل أحداً من جلسائه بما يكره، وإن استُقبل بذلك أغضى وأعرض، لا يسمع نميمة، ويصرف وجهه إذا لم يعجبه الحديث، أو يشير بيده إلى محدثه أن تعداه.
كان في فتواه العامة رحمه الله تعالى آخذاً بالعزائم يشدد في أمر الدين والورع، فإذا ما شعر أن المستفتي بحاجة إلى رخصة دعاه إلى لقاء منفرد يرخص له ما ييسر عليه أمره.
كان الوقت أغلى عنده من المال على قلب الشحيح، يقول وهو يشير إلى ما وضع في جدول أعماله من كتب وأبحاث (أنا رأس مالي قليل) يقصد السنوات الباقية من عمره فقد كان يعدها رأس ماله الحقيقي.
وكان غضبه لله وفي دين الله، دون أن يكون لنفسه، وعندما افتتح بعض الصحفيين ملف المعارضة السورية، ووصف بعض الناس الشيخ بما يقبح، ونالوا منه ومن جماعة الإخوان المسلمين ما نالوا، كان له فضل الإشراف على وضع الرد على ما جاء في الملف، فما أشار إلى الدفاع عن نفسه بكلمة وإنما ترك الأمر لله تعالى. وكان شديد الحمية لدين الله بالحق.
كان كثير الصمت، ندر الكلام، غزير الدمعة حاضرها، ولاسيما عندما اشتدت محنة إخوانه وكانت تأتيه الأخبار عما يحدث للمعتقلين في سجون الظالمين.. حتى أخذ من حوله الإشفاق عليه، فأمسكوا عن الحديث أمامه. كان يردد والدمعة في عينيه (لو كان لي الأمر لفديت إخواني بنفسي..) (أنا أفدي إخواني بنفسي..) وعندما ألح عليه بعض الإخوان ليقوم بالمبادرة التي قام بها.. لم يكن باعثه على ذلك إلا رغبة منه بفكاك أسر الأسير، وجبر كسر العاني من الإخوان. لا ما تعلق به أقوام من هنا وهناك..
ولقد لقيناه بعد محاولته تلك، وشعوره أن المقصد قد أحكم الإغلاق عليه، فكان يأمر إخوانه بالصبر والمصابرة، وينظر إلى من يزعم أنه يريد أن يقتدي به في نزوله نظرات تحمل معناها.
وكان في تعاطيه السياسي قاصداً يكره الغلو والتطرف، في بناء سياسة الإخوان الإعلامية مال إلى الكف عن الخوض فيما لا يحمد ولا يليق بالداعية من الألفاظ والأوصاف ونبذ الآخرين بما لا يجمل ومقابلة الذين يصفون الإخوان بالأوصاف الردية بمثلها.
وسوم: العدد 778