الفرحان: الغياب برسم الحكمة والوقار
غيّب الموت أمس الجمعة الشيخ التربوي الجليل اسحق احمد الفرحان (1934- 2018) بعد حياة حافلة قضاها في مواقع قيادية وتربوية مع خدمة المجتمع، وكان عنوان الحياة الرئيس التربية والتعليم.
وهو وإن انتسب للحركة الإسلامية مبكرا منذ 1948 ثم تطور دوره فيها فكان مؤسساً وفاعلاً في جماعة الإخوان المسلمين ومؤسساتها وبرامجها وهو آنذاك شاب لامع خريج أفضل الجامعات، لم يجد لاحقا ضيرا في مشاركة حكومة وصفي التل التي ابتعثت أبرز وجوه الإخوان ممن شاركوا في معسكرات الفدائيين للدراسة في الجامعات، ومنهم همام سعيد واحمد نوفل، ومحمد عويضة، وعبدالله عزام، والذين عمل أغلبهم فيما بعد في الجامعة الاردنية.
وافق هوى الراحل الفرحان رؤية وصفي التل السياسية، فدخل الحكومة معه العام 1970، ما جرّ عليه غضب المتشددين في جماعته، لكن الرجل الذي عرف عنه مقولته الشهيرة «البلد بلدنا والحكومة حكومتنا» كان يمارس انتماءه فيما يعتقد أنه اصطفاف وطني لإنقاذ الأمة من الهاوية، فالأوطان لا تصمد ولا تقام فقط بالمنابر، وإنما بالإيمان بها.
ترك الفرحان أثرا عميقا يوم كان موظفا ومؤسسا لدائرة المناهج في وزارة التربية، ثم يوم صار وزيرا للتربية والتعليم، وهو أثر ظل ولا يزال حتى اليوم محل جدال بين مؤيد ومخالف لتوجهاته، فالبعض يرى أنه أثقل المناهج بالفكر الإسلامي، وآخرون يرون أنه كان محمود السيرة في كونه حمى الوزارة من شطط الأفكار اليسارية التقدمية، ومهما اختلف الناس عليه في الحياة والممات إلا ان الفرحان سيظل صاحب السجل الأكثر تأثيرا في تاريخ التربية والتعليم، قبل أن تتغرب الوزارة وتدخل مصائر التحديث والاقتصاد المعرفي والتطوير التربوي الذي ما زال دون تحقيق المطلوب منه كما يجب.
دعوى البعض بسيطرة الإخوان على التعليم حين تولى الراحل حقيبة التربية والتعليم بين عامي 1970- 1973 ، تحتاج لتدقيق وفحص، فتديّن الوزارة ليس مرتبطا به وبفترة حمله لحقيبة التربية. والقضية أعمق وأوسع من أن تقاس بالزمن الذي ارتهن به التعليم في الأردن بيد ذوي توجهات ليبرالية أو محافظة من غير الإسلاميين، منذ تأسيس الدولة في العشرينيات وحتى اليوم. لكن المتابع لسيرة الفرحان في التربية ربما يجد أن الرجل كان وزارة متنقلة الخبرات، فقد خدم بها معلما في مدرسة السلط ثم في مع معلمي عمان ثم رئيسا لقسم اعداد المعلمين وتأهيلهم ثم مديرا للمناهج، هذه الخبرة التي سبقت توليه منصب الوزارة، مع شغله بالسياسة والحزبية، جعلته صعب التجاوز في تاريخ الوزارة التي كان فيها حاكما أمراً مهاباً لا تغيب عنه شاردة ولا واردة.
وُلد إسحق الفرحان في بلدة عين كارم، في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، يومها كانت القرية تعد إحدى ضواحي القدس، وكان عليه أن يشهد القدس وهي في النفس الأخير مع النكبة والضياع الكبير، ليكون ذلك الحدث تأسيسياً وفارقاً في حياته.
ومن القدس لعمان لم تستغرق المسافة وقتاً طويلاً، فسرعان ما انتقلت الأسرة شرقاً، وكان على الفتى أن يتمّ دراسته، وتكون مدرسة السلط ركنه الأول، فيلتحق بها ويتخرج منها متفوقاً، ليلقى نصيبه مبتعثا أردنيا إلى الجامعة الأميركية في بيروت العام 1953، لدراسة الكيمياء، وبعد أن تخرج في مستوى البكالوريس أتم الماجستير العام 1957.
لسبب او لآخر تقاطع الخط العلمي للفرحان بين الكيمياء واللغة العربية والتربية، وهذه الخلطة العلمية العجيبة أمنت له موقعا فاعلا في عضوية مجمع اللغة العربية الأردني حتى الممات، وربما كانت الكيمياء دليلا له في الحياة المتوازنة كما معادلات العناصر عن خلطها، فألقت الكيمياء بظلالها على شخصيته التي توصف بطول الأناة وتحاشي الاندفاع في أي معارك سياسية كان يمكن لها ان تجعله جزءاً من وقودها في علاقة الحركة الإسلامية بالدولة، بيد أنها انعكست عليه داخل جسد الحركة التي تغيرت كثيرا حين غادر قيادتها الفرحان وبقية العقلاء أمثال عبداللطيف عربيات ومحمد عبدالرحمن خليفة رحمه الله..
في أوائل الستينيات أرسِل الفرحان مبتعثا من الحكومة الأردنية إلى جامعة كولومبيا فدرس ماجستير اللغة العربية، ومن ثم تخصص في دكتوراه التربية في العام 1964 وعاد بعدها ليرتقي في عدة مواقع تربوية داخل وزارة التربية والتعليم.
قبل هذا انتسب للحركة الإسلامية وهو على مقاعد الدراسة الثانوية، وما إن وصل الجامعة الأميركية حتى تفتحت عيناه على الفكر القومي، الذي كانت تعج به بيروت آنذاك، تلك الاجواء أثرت فيه فكريا، ولعلها زادت من إصراره على الفكر الذي يحمله وهو فكر حركة الإخوان المسلمين الذي يرى الخلاص بالحل الإسلامي في مقابل أفكار اليسار الذي كان الإخوان في الأردن جزءا من المشاركين في إقصائه وتهميشه، في وقت كان الإخوان يرون أنفسهم والحكم مطلوبان للمعسكر التقدمي.
العام 1970 كان سنة أزمة أردنية داخلية، ولما جاء وصفي التل رئيسا للحكومة كان عليه أن يجد شريكا يوافق سياسته في الحد من أفكار «من كانوا يرون فيما بعد أن تحرير القدس يمر عبر عمان»، فاختار د.إسحق الفرحان وزير تربية وتعليم وأوقاف وشؤون ومقدسات إسلامية في حكومته الخامسة خلال الفترة (28/10/1970- 28/11/1971).واحتفظ الفرحان بالحقيبتين في حكومتي «احمد اللوزي» الأولى إبان الفترة 21/11/ 1971 - 21/8/1972) وآنذاك أشرف على ما يبدو على صياغة مناهج التعليم.
في حكومة زيد الرفاعي الأولى (26/5/1973 - 23/11/1974) عاد الفرحان وزيرا للأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، وبعد أن خرج من الحكومة، ما لبث أن غدا منتصف العام 1975 رئيسا للجمعية العلمية الملكية التي كان قد مرّ على تأسيسها خمسة أعوام. لكنه لم يمض فيها وقتا طويلا، ففي نهاية ذلك العام أقيل د.عبدالسلام المجالي من رئاسة الجامعة الأردنية وحل الفرحان محله، لتدخل الجامعة معه زمنا جديدا من الصعب تجاوزه فيه حيث كانت الجامعة مرجلا للفكر والسياسة.
في الأردنية وصف بأنه من أشجع رؤسائها، فقد «حمل الرجل لواء تعريب التعليم»، وهو في ذاكرة أبناء الأردنية يوصف بأنه جريء ورجل كلمة وموقف ويضيف احد معاصريه الدكتور همام غصيب «كان جريئا في الحق ودفع ثمنا لذلك، وهو يقول بما يفعل، عرفته بمجمع اللغة العربية معرفة وثيقة، وهو عضو مؤسس يحاول دوما أن يوفق بالمعنى الصحيح بين وجهات النظر ويمتاز بالموضوعية والابتعاد عن التطرف، ولا أنسى مواقفه دائما وهو ينظر نظرة ثاقبة للأمور ويشجع الناس في بداية حياتهم..».
في العام 1976 أضحى الفرحان عضوا في أول مجلس استشاري أردني، ليضيف في سجل الحياة خبرة جديدة. فهو من حيث التكوين الفكري السياسي يمثل مزيجاً فريداً من نوعه، بين البيروقراطية والتكنوقراط، فالرجل عايش تجارب مهمة ومتنوعة في التعليم والوظائف التي تقلدها منذ كان معلما فوزيرا، فرئيس جامعة، فمؤسس جمعية وعضوا في المجلس الاستشاري ومن ثمّ عضوا بمجلس الأعيان 1989-1993م وأمينا لحزب.
مزج الكثير في تجربته السياسية منذ كان قائدا لطلبة الإخوان في الجامعة الأميركية ببيروت، إلى أن أصبح أمينا عاما لحزب جبهة العمل الإسلامي في مرحلة التأسيس بين عامي 1992-1997، ومن ثمّ رئيس مجلس شورى الحزب، وهو مزجٌ قام على فهمٍ معيّن لمكون الأردن الاجتماعي والثقافي مع زهد كبير في الظهور الإعلامي.
في العام 1994 عُيِّن رئيسا لجامعة الزرقاء الخاصة، وظل فيها حتى العام 2007، وخلال تلك التجربة وضع الأسس الصحيحة للجامعة حتى اليوم، وكان رئيسا حقيقيا ليس كما اليوم الرؤساء موظفين عند صاحب الجامعة فهو قامة مهابة وصاحبة قرار، ونقل للزرقاء تجربته في الأردنية، وعاد ليكون خياراً توافقياً بين تياري الحركة الإسلامية (الصقور والحمائم) ليحلّ مشكلة الحزب ويتولى الأمانة العامة له. وفي 15-10-2010 اختارته الأمانة العامة للمؤتمر العام للأحزاب العربية نائبا أول للرئيس.
في عقد الستينيات أشرف الراحل الفرحان شخصيا على تأسيس جمعية المركز الإسلامي، ويعد الفرحان والدكتور عدنان الجلجولي من مؤسسي المستشفى الإسلامي، الذي عدّ آنئذ أهم صرح طبي غير حكومي.
وهو الذي أشرف على تأسيس وقيادة وإدارة ما سمي «بقواعد الشيوخ» بين العامين 1970 - 1976، التي شارك من خلالها مئات المتطوعين من الإخوان في العمل الفدائي. ومن الغريب أن هذه المعسكرات واجهت معارضة داخلية ممن عرفوا لاحقا بصقور الحركة ورفضوا المشاركة فيها.
صفته المركزية كقائد تربوي جعلته يتصف بالاعتدال، وهي صفة واجهتها قوى التشدد والتطرف التي صبغت الجماعة بلونها بعد العام 1967 وسيطرت على الجماعة تماما العام 1972»، وأسس جمعية الدراسات الإسلامية العام 1987 وشارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي العام 1986.
بعد عودة الفرحان للجماعة العام 1980 بدأ يقود تيار المعتدلين ومعه الدكتور عبداللطيف عربيات والراحلان أحمد الأزايدة ويوسف العظم، وخاض تجربة محترمة في العمل السياسي، وحقق التيار أغلبية وصار الفرحان العام 1990 عضو المكتب التنفيذي للجماعة ومن ثم الأمين العام للحزب.
عندما أسس الفرحان جمعية المركز الإسلامي العام 1964، وكان من مؤسسيها معه عبدالرؤوف الروابدة، رأى التيار المتشدد في «الإخوان» أن فكرة الجمعية ترقيع للجاهلية، وفي العام 1984 سيطر المتشددون على الجمعية التي رأوها مشاركة تصالحية مرفوضة مع النظام، وأقصوا الفرحان من الجمعية!
غاب الفرحان إلى دار الآخرة بعد أكثر من سبعة عقود في العمل السياسي والتربوي والمؤسسي، ممتازاً عن سواه بأنه كرس صورة الرجل المُريح التصالحي التوافقي والعقلاني، والذي لا يبخل على وطنه بخبرته، الندي الحضور والصامت حين يجب الصمت ويصبح حكمة ووقاراً، والقائل بالحق حين يعز نطقه عند الآخرين. فرحمه الله.
وسوم: العدد 780