حسن البنا وعبقرية البناء

الإمام الشهيد حسن البنا

سيد قطب رحمه الله

في إحدى مقالاته التي جمعت في كتاب تحت عنوان (دراسات إسلامية) وهو لم يصاحب (حسن البنا)، وإن تعاصرا، وكان كلاهما خريج دار العلوم، ولكن (قطباً) عرف (البنا) من آثاره في إخوانه، وفي حركته، وفي تأثيره في مصر وفي العالم الإسلامي، وهي شهادة من شهيد لاحق لشهيد سابق، والمسلمون شهود عدول بعضهم على بعض.

يقول سيد قطب رحمه الله:

(.. في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قدر مقدور، وحكمة مدبرة في كتاب مسطور.. (حسن البنا) إنها مجرد مصادفة أن يكون هذا لقبه .. ولكن من يقول: إنها مصادفة، والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء، وإحسان البناء، بل عبقرية البناء؟

لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيراً من الدعاة.. ولكن الدعاية غير البناء.. وما كل داعية يملك أن يكون بناء، وما كل بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة في البناء.

هذا البناء الضخم.. الإخوان المسلمون.. إنه مظهر هذه العبقرية الضخمة في بناء الجماعات.. إنهم ليسوا مجرد مجموعة من الناس، استجاش الداعية وجداناتهم، فالتفوا حول عقيدة.. إن عبقرية البناء تبدو في كل خطوة من خطوات التنظيم.. من الأسرة إلى الشعبة، إلى المنطقة، إلى المركز الإداري، إلى الهيئة التأسيسية، إلى مكتب الإرشاد.

هذه من ناحية الشكل الخارجي، وهو أقل مظاهر هذه العبقرية، ولكن البناء الداخلي لهذه الجماعة أدق وأحكم، وأكثر دلالة على عبقرية التنظيم والبناء.. البناء الروحي.. هذا النظام الذي يربط أفراد الأسرة وأفراد الكتيبة وأفراد الشعبة.

هذه الدراسات المشتركة، والصلوات المشتركة، والتوجيهات المشتركة، والرحلات المشتركة، والمعسكرات المشتركة.. وفي النهاية هذه الاستجابات المشتركة والمشاعر المشتركة التي تجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل في داخل النفس، قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظماً.

والعبقرية في استخدام طاقة الأفراد، طاقة المجموعات، في نشاط لا يدع في نفوسهم ولا يدعهم يتلفتون هنا أو هناك يبحثون عما يملأون به الفراغ.. إن مجرد استثارة الوجدان الديني لا يكفي.. وإذا قصر الداعية همه على هذه الاستثارة فإنه سينتهي بالشباب خاصة إلى نوع من الهوس الديني، الذي لا يبني شيئاً، وإن مجرد الدراسة العلمية للعقيدة لا تكفي.

 وإذا قصر الداعية همه على هذه الدراسة، فإنه سينتهي إلى تجفيف الينابيع الروحية التي تكسب هذه الدراسة نداوتها وحرارتها وخصوبتها. وإن مجرد استثارة الوجدان والدراسة معاً لا يستغرقان الطاقة، فستبقى هنالك طاقة عضلية، وطاقة عملية، وطاقة فطرية أخرى في الكسب والمتاع والشهرة والعمل والقتال.

وقد استطاع (حسن البنا) أن يفكر في هذا كله.. أو أن يلهم هذا كله، فيجعل نشاط الأخ المسلم يمتد - وهو يعمل في نطاق الجماعة- إلى هذه المجالات كلها، بحكم نظام الجماعة ذاته، وأن يستنفد الطاقات الفطرية كلها، في أثناء العمل للجماعة، وفي مجال بناء الجماعة.. استطاع ذلك في نظام الكتائب، ونظام المعسكرات، ونظام الشركات الإخوانية، ونظام الدعاة، ونظام الفدائيين، الذين شهدت معارك فلسطين ومعارك القنال نماذج من آثاره، تشهد بالعبقرية لذلك النظام.

وعبقرية البناء في تجميع الأنماط من النفوس، ومن العقليات ومن الأعمار، ومن البيئات.. تجميعها كلها في بناء واحد. كما تتجمع النغمات المختلفة في اللحن العبقري.. وطبعها كلها بطابع واحد يعرفون به جميعاً، ودفعها كلها في اتجاه واحد.. على تباين المشاعر والإدراكات والأعمار والأوساط، في ربع قرن من الزمان.

ترى أكانت مصادفة عابرة أن يكون هذا لقبه؟

أو أنها الإرادة العليا التي تنسق في كتابها المسطور بين أصغر المصادفات وأكبر المقدورات في توافق واتساق؟

ويمضي (حسن البنا) إلى جوار ربه، يمضي وقد استكمل البناء أسسه، يمضي فيكون استشهاده على النحو الذي أريد له: عملية جديدة من عمليات البناء.. عملية تعميق للأساس، وتقوية للجدران. وما كانت ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان، كما ألهبتها قطرات الدم الزكي المهراق.

إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة.

وحينما سلط الطغاة الأقزام الحديد والنار على الإخوان، كان الوقت قد فات. كان البناء الذي أسسه حسن البنا قد استطال على الهدم، وتعمق على الاجتثاث.

كان قد استحال فكرة لا يهدمها الحديد والنار، فالحديد والنار لم يهدما فكرة في يوم من الأيام. واستعلت عبقرية البناء على الطغاة الأقزام، فذهب الطغيان، وبقى الإخوان.

ومرة بعد مرة، نزت في نفوس بعض الرجال - من الإخوان- نزوات.. وفي كل مرة سقط أصحاب هذه النزوات كما تسقط الورقة الجافة من الشجرة الضخمة، أو انزوت تلك النزوة، ولم تستطع أن تحدث حدثاً في الصفوف.

ومرة بعد مرة، استمسك أعداء الإخوان بفرع من تلك الشجرة، يحسبونه عميقاً في كيانها، فإذا جذبوه إليهم جذبوا الشجرة، أو اقتلعوا الشجرة.. حتى إذا آن أوان الشد خرج ذلك الفرع في أيديهم جافاً يابساً كالحطبة الناشفة، لا ماء فيه ولا ورق ولا ثمار!

إنها عبقرية البناء، تمتد بعد ذهاب البناء.. ".