خليفة القرضاوي
أمثال الإمام القرضاوي يجود بهم الزمان في كل مائة عام، لكن الأمة لم تدرك ذلك بعد ولذا لم توفه حقه الكامل
اجتمع الأسبوع الماضي أكثر من ألف عالم من كل أرجاء الأرض في مدينة إسطنبول لاختيار من يخلف الإمام يوسف القرضاوي في رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي كان حلما يداعب خيال الإمام، ثم تحول إلى فكرة، غرسها نبتة، وتعهدها حتى استوت على سوقها وأينعت ثمارها.
كان التأسيس في عام 2004 في أيرلندا، ونهض للفكرة وسعى إلى تحقيقها ثلاثمئة عالم وقفوا إلى جوار الشيخ المؤسس الذي يعتبر الاتحاد مشروعه العملي لخدمة الأمة، بالإضافة إلى مشاريعه العلمية والتربوية والإصلاحية. وينضوي تحت راية الاتحاد الآن أكثر من تسعين ألف عالم من كل أقطار العالم.
وتم اختيار العلامة القرضاوي رئيسا للاتحاد منذ تأسيسه، وقد سمعته في انعقاد 2011 يقول: إن اكتمال خطتي، وتمام فرحتي، في أن أرى رئيسا للاتحاد في حياتي يتسلم الراية، ويتحمل الأمانة، ويكمل المسير، وامتنع (حفظه الله) عن ترشيح نفسه وفتح المجال لإخوانه وتلاميذه فلم يترشح أحد، وعادت إليه الرئاسة بالتزكية التي هو لها أهل.
الريسوني يحمل الراية
ومع إلحاح الشيخ المؤسس وتجاوزه التسعين من عمره المبارك نزل أعضاء الاتحاد على رغبته، وسارعوا في هواه، وتقدم الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني لحمل الراية، وتعامل معه أعضاء الاتحاد بما عاملوا به الإمام الأول، فلم يترشح أحد أمامه، وأصبح رئيسا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بنسبة تخطت 93% من الحاضرين.
والشيخ الريسوني أحد كبار علماء المغرب، ورموز الدعوة والإصلاح، ينتسب إلى الأرومة الإدريسية، ومدرسة السادة المالكية، ويراه المقاصديون وريث الشاطبي، وشيخ علم المقاصد.
وحسب لوائح الاتحاد فقد رشح الرئيس الجديد نوابه الأربعة وعرضهم على الجمعية العمومية التي صوتت لهم بأغلبية مريحة، وهم الشيخ أحمد الخليلي مفتي سلطنة عمان، والشيخ حبيب سالم سقاف الجفري من إندونيسيا، والشيخ خير الدين قهرمان من تركيا، والدكتور عصام البشير من السودان.
علامات الارتياح
كما اختارت الجمعية العمومية بالاقتراع السري المباشر مجلس الأمناء المكون من واحد وثلاثين عضوا، والذين جددوا الثقة في فضيلة الأستاذ الدكتور على القره داغي ليكمل مسيرته أمينا عاما للاتحاد، وقد بدا على الإمام القرضاوي علامات الارتياح وصرح بسعادته، وهو يرى سفينة الاتحاد تمخر العباب بالقيادة الجديدة.
ثم أبكى الجميع وهو يقول هذه آخر مرة أتحدث إليكم، وأطلب المسامحة منكم وبلغوا من وراءكم، فما قصدت يوما الإساءة إلى أحد من المسلمين.
كان التوفيق واضحا، والوفاق باديا، حيث ضرب علماء الاتحاد مثالا يحتذى في اجتماع كلمتهم على مرشح واحد، على اختلاف مشاربهم الفكرية، ومدارسهم الفقهية، واستطاعوا بذلك إيجاد خليفة للإمام في رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهذا يفتح أبوابا للأسئلة من كل صوب وحدب، من سيخلف القرضاوي (متع الله بحياته المسلمين ونفعنا بعلومه أجمعين) في باقي مجالات العلم والفقه، والتربية والتزكية والتأليف والتصنيف؟
من سيخلف الشيخ في ميادين الثورة وأبواب الفتوى وباقي أبواب الخير التي ضرب فيها بسهم، وتقدم الصفوف، وحاز بصدق فضل السبق؟
أتعب من بعده
أمثال الإمام القرضاوي يجود بهم الزمان في كل مئة عام، لكن الأمة لم تدرك ذلك بعد ولذا لم توفه حقه الكامل. أو تنزله المنزلة التي يستحق! ولا ننكر أن بعض الدول والهيئات وكبار العلماء قد فطنوا إلى ذلك، وقدروا نعمة الله عليهم بوجود القرضاوي بينهم وفيهم، لكن الإمام لم يكن محليا أو مناطقيا فقد عمت بركته الأمة، وفاض علمه على أفرادها ومجتمعاتها، وكان ينبغي أن تكون التجلة والامتنان على قدر ما قدم من خير وإحسان.
تجاوز الإمام القرضاوي عقده التاسع، ومع ذلك فهو يقضي يومه بين دفاتره ومحابره، ينقح ويصحح، ويدقق فيما كتب، ويكتب فيما لم يكتب حتى اكتملت موسوعة القرضاوي في ثمانين مجلدا، وقريبا ستكون بإذن الله بين يدي جماهير المسلمين.
وفي ختام مؤتمر الاتحاد طلب الدكتور الريسوني ان يكون الختام بدعاء من الإمام المؤسس فقال: إني أحب الدعاء من الشيخ محمد الحسن ولد الددو أحد أبرز تلاميذ الإمام ورئيس مركز تكوين العلماء في موريتانيا الذي دعا بجوامع الكلم، وجمع بين خيري الدنيا والآخرة، وأكثر من الدعاء للمظلومين والمسجونيين، وخص ابنة الشيخ القرضاوي (السيدة علا) المعتقلة منذ أكثر من عام في مصر، بدعاء خاص حتى تقر عين الإمام برؤيتها، ويلتئم شمل الأسرة بها وبأحفادها، وكنا إذا واسيناه في أمرها قال: ابنتي ليست الوحيدة كل المعتقلات في مصر وسوريا وسائر سجون الظالمين بناتي، وأدعو لهن كما أدعو لابنتي علا .
لقد أتعبت من جاء بعدك يا فضيلة الإمام، رفع الله درجتك في الدنيا والآخرة.
عن الكاتب
د. محمد الصغير
وكيل اللجنة الدينية بالبرلمان المصري ومستشار وزير الأوقاف السابق.
وسوم: العدد 798