المفكر العلاّمة أبو الأعلى المودودي
(1321 - 1399هـ / 1903 - 1979م)
مولده ونشأته
هو الإِمام الداعية العلاّمة أبو الأعلى المودودي، ولد في مدينة (أورنج آباد) في ولاية حيدر آباد الدكن جنوبي الهند سنة (1321هـ / 1903م) في بيت معروف بالعلم والورع، حيث تعلم العربية وعلوم القرآن والحديث، وحفظ موطأ الإمام مالك عن ظهر قلب، وعمل في الصحافة في سن السابعة عشرة؛ حيث التحق بجريدة (المدينة) التي تصدر في (بنجور)، ثم تولى إدارة تحرير جريدة (التاج) اليومية التي تصدر في (جلبور).
وقـد ذهب إلى (دلهي) وقابـل مفتي الديار الهندية آنـذاك الشيخ كفـايـة الله الدهـلوي والشيخ أحمد سعيد سحبان الهند اللذين عهـدا إليه برئـاسة تحرير جريدة (مسلم) الأسبوعيـة التي كانت تصـدر من العاصمة دلهي بـلسان جمعية العلماء، ولم يتجاوز عمره السـابعة عشـرة، ثم عهدا إليه فـي سنـة 1924م بجريدة (الجمعية) اليومية رئيسًا لتحريرها أيضًا إلى سنة 1928م.
وفي سنة 1926م، بدأ بكتابة سلسلة مقالات بعنوان: (الجهاد في الإسلام) طُبعت فيما بعد بكتاب ضخم، وهي ردّ على الزعيم الهندي (غاندي) الذي كان في قمة مجده آنذاك، وكان لهذه المقالات ولرسالته الثانية (الجهاد في سبيل الله) دويٌّ كبير أعاد الأمة إلى شيء من وعيها، ودحض المتخاذلين المهزومين أمام ضغط الواقع والذين ينادون بأن الجهاد مبدأ دفاعي في الإسلام.
وقد تُرجمت الرسالة الثانية إلى العربية، وكانت هي وبقية رسائل المودودي من الكتب المرشحة للقراءة لدى الإخوان المسلمين في العالم العربي، وكان الشهيد سيد قطب يحلو له دائمًا أن يسمي المودودي بـ "المسلم العظيم"، وكان الدكتور محمد إقبال ينصح دائمًا الشباب المسلمين باقتناء كتاب "الجهاد في الإسلام" ويثني عليه، حيث ألّف المودودي هذا الكتاب بناء على مناشدة الزعيم محمد علي جوهر الذي قال: "ليت شخصًا يقوم ويفند افتراءات الهندوس ضد الإسلام".
وفي سنة 1932م، بدأ إصدار مجلة "ترجمان القرآن" الشهرية التي كان همّه فيها عرض الإسلام من مصدريه الكتاب والسُّنَّة ومهاجمة الأفكار الوافدة، وفي سنة 1938م انتقل المودودي من "حيدر آباد" إلى لاهور في "البنجاب"؛ استجابة لدعوة الشاعر محمد إقبال الذي دعاه ليتعاونا معًا على بعث الشرع الإسلامي، ولكن محمد إقبال توفي قبل أن يأخذ العمل صيغته، وقد أنشأ الأستاذ المودودي "الجماعة الإسلامية" في "لاهور" سنة 1941م من خلال مؤتمر عام ضمّ المتأثرين بكتاباته الإسلامية، وتقرر اختيار المودودي أول رئيس للجماعة، وقد تعرّضت الجماعة للهجوم من القوى البريطانية في الهند منذ ظهورها، كما حاربها الهندوس ودعاة العلمانية من المسلمين.
وبدأ المودودي تفسير القرآن الكريم سنة 1943م وأخذ ينشره في مجلته الشهرية (ترجمان القرآن) بعنوان (تفهيم القرآن) وكان له صدى طيب.
وفي سنة 1947م جرى تقسيم الهند؛ فهاجر إلى باكستان، وكان يطالب بتطبيق الإسلام في كل مرافق الدولة من خلال خطبه ومحاضراته وكتاباته، حتى ضاقت به الحكومة الباكستانية ذرعًا، فاعتقلته مع مجموعة من أنصاره، وزجّت بهم في السجن، ولكن الضغوط الشعبية الكبيرة جعلت الحكومة تفرج عنه وعن زملائه بعد عشرين شهرًا من الحبس، وذلك في شهر يونيو (حزيران) 1950م.
معرفتي به
كـانت بدايـة مـعرفـتي بالمفكر العـلاّمة أبي الأعلى المودودي في سنة 1369هـ (1949م)، حين زارنا في الزبير الأستاذ مسعود عالم الندوي - مدير دار العروبة للدعوة الإسلامية بباكستان - والذي كان يحمل رسالة تعريف به وبمهمته من أستاذنا الشيخ د. محمد تقي الدين الهلالي المغربي، ولقد سعدنا بالأستاذ مسعود، الذي حدثنا كثيرًا عن الجماعة الإسلامية بالقارة الهندية وباكستان وعن أهدافها وبرامجها ووسائلها وأفكارها وتنظيماتها.
وأسهب كثيرًا في الإشادة بمؤسسها السيد العلاّمة أبي الأعلى المودودي الذي كان ينافح بقلمه ولسانه عن الإسلام والمسلمين، ويتصدى لدعاة العلمانية بالقارة الهندية من أبناء المسلمين، الذين يريدون السير على منهج الطاغية "أتاتورك" الذي ألغى الخلافة الإسلامية، وسار في ركاب جمعية الاتحاد والترقي الماسونية، التي رشحته لرئاسة تركيا العلمانية.
لقد كان أبو الأعلى المودودي يطرح الفكر الإسلامي الأصيل المستقى من الكتاب والسُّنَّة، وما أجمع عليه سلف الأمة، وينبري مفندًا كل المقولات والدعاوى الباطلة التي يرددها ببغاوات الغرب، وتلامذة المستشرقين وعملاء الإنجليز في القارة الهندية وباكستان، كما كان على اطلاع واسع على حضارة الغرب وعوراتها وسوءاتها، فهو كالطبيب النطاسي الذي يُشخِّص المرض ويصف الدواء، فأمراض المجتمعات الإسلامية علاجها هو الإسلام الحق وليس سواه.
وقد زوَّدنا الشيخ مسعود الندوي ببعض مؤلفات المودودي التي كان يحملها معه، وكان هذا أول اطلاعنا على فكر المودودي، من خلال تلك الكتب التي وجدنا فيها شبهًا كبيرًا بمؤلفات الإخوان المسلمين ورسائل الإمام الشهيد حسن البنا، وتمّ إعادة طبعها بالقاهرة سنة 1950م وانتشرت في أوساط الإخوان المسلمين بمصر والعالم العربي، كما سمعنا الثناء الحسن عليه من السيد أبي الحسن الندوي حين زارنا بالقاهرة سنة 1951م وقال: "إن المودودي من مفكري الإسلام الكبار في هذا العصر"، كما أثنى على الجماعة الإسلامية التي يرأسها، وأشاد بتلامذته - وإن كان أبو الحسن الندوي يرى أن مناهج الجماعة الإسلامية تحتاج إلى أن تولي الجانب التربوي والروحي عناية أكثر من الجانب الفكري والسياسي الذي يطغى على ما سواه من المناهج.
لقائي به في الكويت
وقد التقيتُ المودودي أول مرة حين زارنا بالكويت أوائل الستينيات، حيث أقام له الأخ عبد الله المطوع وليمة كبيرة في منزله، كما شرّفني بمنزلي بحضور جمع من إخوان العقيدة المقيمين بالكويت، كما التقيت به في لندن سنة 1974م مع الإخوان: محمد قطب، وزغلول النجار، وخورشيد أحمد، حيث ألقى المودودي محاضرة قيمة بعنوان: (الإسلام في مواجهة تحديات العصر الحاضر).
وكانت له أحاديث، ومحاضرات، وندوات ومسامرات، وأسئلة واستفسارات كان فيها الخير والبركة والحمد لله.
ثم تكررت لقاءاتي به، في زياراتي المتعددة إلى باكستان، مرات ومرات في دار الجماعة الإسلامية وفي مكتبه، وفي داره، حيث كثيرًا ما كان يدعونا مع إخواننا القادمين معنا وإخواننا أعضاء الجماعة الإسلامية إلى بيته لتناول الطعام أو الشاي، ويبادلنا الطرائف والملَح، التي تُدخل البهجة والسرور على زائريه، ثم يتطرق بعد ذلك إلى أوضاع المسلمين، وأسباب ما هم فيه، وسبيل النهوض بهم، ويخوض في المسائل العلمية الدقيقة، ويغوص في أعماقها، ويستخرج الحكم الشرعي الراجح، المعزز بالدليل، والمؤيد بالبرهان، كما أنه يشخِّص أمراض العالم الإسلامي ويتصدى للطغاة المستبدين، الجاثمين على صدور شعوبهم والذين يحكمون الناس بالحديد والنار ويسلبون خيرات البلاد، ويملؤون بطونهم وجيوبهم بالمال الحرام، ويبيعون الأرض والعرض لسادتهم المستعمرين بثمن بخس.
صلابة الموقف
والعلاّمة المودودي صلب في مواقفه، تصدى للقاديانية ودعاتها وأنصارها من الحاكمين، ولم يتراجع عن موقفه، وأصدر حكمه بكفر مذهبها، واستمرّ في فضح عمالتها للإنجليز، وارتباطها بالاستعمار، ولم تنفع معه كل السبل لتثنيه عن رأيه، وتلقى الحكم عليه بالإعدام عام 1953م برباطة جأش وشجاعة منقطعة النظير، وأحدث هذا الحكم ضجة في العالم الإسلامي كله، مما دعا الدكتاتورية العسكرية في باكستان للعدول عن حكمها، والإفراج عنه بعد ذلك، حيث كانت المرافعة التي أعدها وقدمها، من أقوى المرافعات القانونية والشرعية، فضلاً عن تدخل كبار علماء المسلمين لنصرته، والمطالبة بالإفراج عنه، وثورة جماهير المسلمين في باكستان والعالم الإسلامي التي ساءها هذا الحكم الظالم الجائر على هذا العالم الجليل، والداعية الكبير، والمفكر العظيم.
إن العلاّمة المودودي علم من أعلام الإسلام المعاصرين، ومفكر من مفكريه، وداعية من دعاته، آتاه الله الحكمة وبُعد النظر، والعمق في الفهم والصبر على العلم، والتأمل في الواقع، والدراسة الميدانية للأفكار الرائجة، والأوضاع السائدة، والتتبع لمصادر المعرفة، وتمييزها وتوثيقها، والنقد الموضوعي لحضارة الغرب، بأخذ الصالح منها وطرح غير النافع، وتقديم الإسلام حلاً لمشكلات الحياة في جميع جوانبها، وهذا هو المنهج الذي سار عليه الإمام الشهيد حسن البنا، وأتبعه بالبرامج العملية التي تصوغ الأخ المسلم وفق منهج الإسلام الحق.
ولقد حدَّثني (رحمه الله) في إحدى زياراتي له في بيته وبرفقتي الأخ خليل أحمد الحامدي وذلك بعد إعدام الشهيد سيد قطب (رحمه الله) بفترة غير طويلة، فقال: "إن ما ورد في كتاب (معالم في الطريق) هو نفس ما أراه، بل كأنني الذي كتبته فقد عبَّر عن أفكاري بدقة".
وكنت ألحظ الإكبار والتقدير للأستاذ المودودي من إخوانه وتلامذته الذين يحبونه من أعماق قلوبهم لبعد نظره، ومحبته لهم، وتواضعه معهم، واهتمامه بشؤونهم، والسماع لوجهات نظرهم ومناقشتهم بموضوعية والنزول على رأي الشورى فيما تراه، بعد استيفاء الموضوع حقه، من البحث والحوار والمناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن، بحيث يخرج أعضاء الشورى وهم على رأي واحد وموقف موحد واقتناع كامل.
وحين استقرت الجماعة ووضحت أهدافها وبرز الكثير من أفرادها كقادة ومفكرين، حنَّكتهم التجارب، وصقلتهم المحن، واطمأن الأستاذ المودودي على سلامة سير الجماعة، طلب من إخوانه إعفاءه من المسؤولية ليتولاها الشيخ ميان طفيل محمد، وتفرَّغ المودودي للبحث والعلم، والتوجيه والمشورة، وظل كذلك حتى لقي الله (عز وجل).
نصيحته للشباب
وفي كلمة له سنة 1381هـ ينصح الشباب العربي في لقائه بهم قال:
"يا شباب.. نصيحتي إليكم أن تجعلوا القرن القادم قرن الإسلام؛ لأن الحضارة الراهنة توشك على الانهيار، وسوف يكون هناك فراغ في حياة البشرية، ولن يستطيع أن يملأ هذا الفراغ إلا الإسلام، فعليكم أن تجاهدوا لملء هذا الفراغ بـ "الصبر والمتابعة" ولقد جربنا نحن فوائد هاتين الكلمتين في باكستان ولا ينبئك مثل خبير. لا تقوموا بعمل جمعيات سريّة لتحقيق الأهداف، وتحاشوا استخدام العنف والسلاح لتغيير الأوضاع؛ لأن هذا الطريق نوع من الاستعجال.. إن هذا الطريق أسوأ عاقبة، وأكثر ضررًا من كل صورة أخرى.. وإن الانقلاب الصحيح السليم قد حصل في الماضي - وسيحصل كذلك في المستقبل - بعمل علني واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.. فعليكم أن تنشروا دعوتكم علنًا وتقوموا بإصلاح قلوب الناس وعقولهم بأوسع نطاق وتسيروا بالناس لغاياتكم المثلى بسلاح من الخلق العذب والشمائل الكريمة والسلوك الحسن والموعظة الحسنة والحكمة البالغة وأن تواجهوا كل ما يقابلكم من المحن والشدائد مواجهة الأبطال.." انتهى.
أذكر أن الإخوان المسلمين، حين أقاموا معسكرات التدريب، وقواعد الجهاد، في الأردن سنة 1968م، طلبوا إعداد وإعادة طباعة بعض الكتب المختصرة المتعلقة بالجهاد، لتكون في أيدي مجاهدي الإخوان، كزاد ثقافي، يعرفون منه حكم الجهاد، وفرضيته وأحكامه التفصيلية، فوقع الاختيار على بعض الإخوان ليقوموا بهذه المهمة، وكنت مع الأخوين مصطفى الطحان، وعبد الستار أبو غدة، أعضاء اللجنة المكلفة بذلك، فوفقنا الله لإعداد كُتيب باسم "نداء الجهاد"، ثم أتبعناه بكتاب آخر جمعنا فيه ما كتبه الإمام حسن البنا والإمام المودودي والشهيد سيد قطب، لأن المؤلفين الثلاثة ينهلون من مورد واحد، ويسعون لتحقيق هدف واحد، هو الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وإقامة شرع الله في أرض الله.
إخوانه وتلامذته
ولعل من المناسب، أن أذكر بعض مـن عرفتهم عن صلة وقـرب من إخوان المودودي وتلامذته وأخص بالذكر: غلام محمد (رحمه الله) - الذي أنشـأ المؤسسة الإسلامية في "نيروبي" بكينيا، وميان طفيل - الذي تولى إمارة الجماعة الإسلامية بعد تنازل المودودي، وغلام أعظم - أمير الجماعة الإسلامية في بنجلاديش، وقاضي حسين أحمد - أمير الجماعة الإسلامية الحالي، ود. خورشيد أحمد - الذي أنشأ المؤسسة الإسلامية في "ليستر" ببريطانيا، ومسعود عالم الندوي، ومحمد عاصم الحداد، وخليل أحمد الحامدي - وقد تولى الإخوان الثلاثة مسؤولية دار العروبة - وغيرهم من كرام أعضاء الجماعة الإسلامية بباكستان، الذين لقينا منهم كل تعـاون لخدمة الإسـلام والمسلمين في كل مكان.
وأشهد الله أن هذه الكوكبة المؤمنة من إخوان المودودي وتلامذته وجدناهم نماذج صادقة للدعاة العاملين، والمجاهدين المخلصين، وكانوا معنا كالإخوان المسلمين الذين ربَّاهم الأستاذ الإمام الشهيد حسن البنا، صدقًا ووفاء، ومحبة وأخوة، وكرمًا وإيثارًا، بحيث نشعر وكأننا بين أهلينا وإخواننا.
ثناء الندوي والقرضاوي عليه
يقول الداعية أبو الحسن الندوي عن المودودي وتأثيره في الجيل المسلم:
"إنني لا أعرف رجلاً أثَّر في الجيل الإسلامي الجديد، فكريًا وعلميًا مثل تأثير المودودي، فقد قامت دعوته على أسس علمية أعمق وأمتن من أيِّ أسس تقوم عليها دعوات سياسية وردود فعل للاستعمار الأجنبي، وكانت كتاباته، وبحوثه موجهة إلى معرفة طبيعة هذه الحضارة الغربية، وفلسفتها في الحياة، وتحليلها تحليلاً علميًا، قلما يوجد له نظير في الزمن القريب، وقد عرض الإسلام ونُظم حياته، وأوضاع حضارته وحكمه وصياغته للمجتمع والحياة وقيادته للركب البشري والمسيرة الإنسانية، في أسلوب علمي رصين، وفي لغة عصرية تتفق مع نفسية الجيل المثقف وتملأ الفراغ الذي يوجد في الأدب الإسلامي من زمن طويل" انتهى.
كما أن العلاّمة الدكتور يوسف القرضاوي يذكر العلاّمة المودودي مثنيًا عليه الثناء العطر فيقول:
"المفكِّر المجدِّد، صاحب النظر العميق، والتحليل الدقيق ناقد الحضارة الغربية على بصيرة، والداعي إلى نظام الإسلام عن بيِّنة، صاحب الكتب والرسائل التي ترجمت إلى عشرات اللغات، الذي وقف في وجه دعاة (التغريب) و(أعداء السُّنَّة) والمنادين بنبوَّة جديدة (القاديانيين) و(المرتزقة) من الخرافيين والقبوريين و(مشوَّشي الفكر) من المقلِّدين الجامدين.. مؤسس كبرى الجماعات الإسلامية في شبه القارة الهندية: العلاّمة أبو الأعلى المودودي الذي اتفقت أصول دعوته مع أصول دعوة حسن البنا، وإن لم يلتقيا، وإنما التقى أبناء المدرستين وتعاونوا في مجالات شتى وخصوصًا في أوروبا وأمريكا والشرق الأقصى".
دعوته لتكوين الجماعة
كان المودودي قد أصدر عام 1941م نداءً للمتأثرين بكتاباته قال فيه:
"لا بد من وجود جماعة صادقة في دعوتها إلى الله، جماعة تقطع صلتها بكل شيء سوى الله، جماعة تتحمل السجن والتعذيب والمصادرة وتلفيق الاتهامات وحياكة الأكاذيب، وتقوى على الجوع والعطش والحرمان والتشريد، وربما القتل والإعدام، جماعة تبذل الأرواح رخيصة وتتنازل عن الأموال بالرضا والخيار، وتقدِّم كل ما تملك قربانًا في سبيل إقامة مجتمع الإسلام ونظامه..."؛ فاستجاب المخلصون من المثقفين لهذا النداء، وتأسست الجماعة الإسلامية عام 1941م، وطُرح دستورها للناس، وكانت لها - فيما بعد - فروعها في القارة الهندية وباكستان وبنجلاديش.
تعرضه للسجن
ولقد تعرّض المودودي للسجن ثلاث مرات، كان يخرج بعد كل منها، كأقوى ما يكون الداعية، قوة وصلابة، وعزمًا وثباتًا، وعملاً وإصرارًا، كما حُكم عليه بالإعدام من الطغمة العسكرية، فلم يضعفْ عزمه، ولم تلنْ قناته ولا توقف نشاطه، بل ظل يسير بالجماعة على منهج الإسلام ووفق تعاليمه بكل ثقة واطمئنان.
وقد بارك الله في جهود المودودي وجهاده ووفق الله إخوانه وتلامذته، للتحرك بالدعوة الإسلامية، ونشر الفكر الإسلامي في كل مكان، حيث قاموا بحركة ترجمة ونشر وتوزيع واسعة، لكل مؤلفات المودودي في البلاد العربية والإسلامية والدول الأوروبية والولايات المتحدة وبلدان جنوب شرق آسيا وإفريقيا بكل اللغات.
رفضه للعنف
والمودودي رجل يحب السلم ويرفض العنف؛ يقول أحد تلامذته وأعوانه وهو الأستاذ غلام أعظم: "الحكومات السابقة كانت لا تجد اتهامًا حقيقيًا فتلجأ إلى الاختلاق، كي تنال من الجماعة الإسلامية عن طريق تشويه السمعة، فمولانا المودودي يعارض بشدة استخدام السلاح في الدعوة، وقد طلب منه الجيل الجديد عدة مرات السماح له بالدفاع عن النفس باستعمال القوة ضد العناصر المعارضة، التي تستعمل القوة في مواجهة الجماعة الإسلامية، ولكنه أبى عليهم ذلك؛ لأن الإسلام إذا لم يكن حاكمًا فاستعمال أبنائه السلاح يُعَدُّ بمثابة انتحار، ويسوق دليلاً على ذلك، بعدم سماح الرسول (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه في العهد المكي، باستعمال القوة، ضد هؤلاء الذين كانوا يعذّبونهم ويضطهدونهم، ولم يسمح لهم بذلك إلا بعد انتقالهم إلى المدينة المنورة وتكوين الـدولة الإسـلامية" انتهى.
جهوده العلمية ومؤلفاته
إن أستاذنا العلاّمة السيد أبا الأعلى المودودي عالم متبحر في العلوم، وله في كل ميدان صولات وجولات، فقد تناول في محاضراته وخطبه وكتبه ومقالاته، سائر جوانب الإسلام، ولم يدَعْ موضوعًا إلا طرقه، ولا قضية إلا وبيَّن الحكم فيها وعالجها، وفق التصور الإسلامي، حيث شرح:
نظرية الإسلام السياسية - نظرية الإسلام الخلقية - نظرية الإسلام الاقتصادية - منهاج التغيير الإسلامي - موقف الدين من الجاهلية - تحديد النسل - الربا - الحجاب - دور الشباب المسلم وواجـبه - الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية - المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم - ختم النبوة في ضوء القرآن والسُّنَّة - الزي بين الابتذال والاحتشام - بين الدعوة القومية والرابطة الإسلامية - بين يـدي الشباب - فـرعون فـي القرآن الكريم - نحن وبنجلاديش - الأمة الإسلامية - قضية القومية - الإسلام ومعضلات الاقتصاد - تحديات العصر: الحاضر والشباب - أضواء على حركة التضامن الإسلامي - احذروا مخطط اليهود - الإسلام اليوم - برّ الأمان - البيانات - الدين القيّم - رسالة سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) - الحياة بعد الموت - الحكومة الإسلامية - حقوق الزوجية - الذبائح - ذبائح أهل الكتاب - نحن والحضارة الغربية - نظام الحياة في الإسلام - المسألة القاديانية - في محكمة العقل - ما هي القاديانية؟ - مبادئ أساسية لفهم القرآن - القانون الإسلامي وطرق تنفيذه - صياغة موجزة لمشروع دستور إسلامي - طائفة من قضايا الأمة الإسلامية في القرن الحاضر - مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة - منهاج الانقلاب الإسلامي - المسلمون والصراع السياسي الراهـن - نحو ثـورة سلمية - موجـز تاريخ تجديد الدين وإحيائـه - واقـع المسلمين وسبل النهوض بهم - شهادة الحق - شريعة الإسلام في الجهاد والعلاقات الدولية - دور الطلبة في بناء مستقبل العالم الإسلامي - حول تطبيق الشريعة في العصر الحاضر - حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية - الحركات الهدامة - الجهاد في سبيل الله - الإسلام والمدنية الحديثة - إلى أي شيء يدعو الإسلام؟ - تدوين الدستور الإسلامي - تذكرة دعاة الإسلام - نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور - قضية كشمير المسلمة - وحدة الأمم الإسلامية - مسألة ملكـية الأرض في الإسلام - أسس الاقتصاد بين الإسـلام والنـظم المعاصرة - معضلات الاقتصاد وحلها في الإسلام - الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة - تفسير سورة الكهف ومريم - تفسير سورة النور - تفسير سورة الأحزاب.
وكان خاتمة جهوده العلمية المباركة تفسيره للقرآن الكريم الذي أسماه (تفهيم القرآن) وقد تولى أتباعه ترجمة كتبه إلى مختلف اللغات العالمية.
قالوا عنه
يقول الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه القيم (النهضة الإسلامية في سير أعلامها):
"إن موقف الإمام المودودي من الماركسية، أشهر من أن يُشار إليه، فقد كتب عنها ما صار سلاحًا باترًا لدى كل كاتب إسلامي، لأن علم المودودي الموسوعي، وعقله المبلور، وفكره المستنبط، ونظره العميق إلى شتى حركات الانقلاب في الكتلة الشرقية، مما جعله يضع النقاط على الحروف، والحق أن مفكرًا كبيرًا من طراز المودودي، يجب ألا تخلو مكتبة في بيت مسلم من مؤلفاته، إذ يعطي المسلم ما لا يجده عند سواه، وكأنه في عطائه الفسيح الزاخر مُؤَّيدٌ بروح الله" انتهى.
تكريمه
وقد لقي التكريم الذي يستحقه، حيث إن الخدمات التي قدّمها المودودي في مجال الدعوة الإسلامية والفكر الإسلامي وخدمة الإسلام جعلته الحائز على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، وهي أول جائزة تُمنح لداعية إسلامي ومفكر. وقد تسلمها بالنيابة عنه ابنه فاروق في حفل كبير رعاه جلالة الملك خالد بن عبد العزيز بمدينة الرياض في شهر ربيع الأول سنة 1399هـ.
وفاته
ولقد ذهبتُ إلى باكستان لتشييع الجنازة بعد وفاته في 20/ 10/1399هـ الموافق 20/ 9/ 1979م بمستشفى (بافلد) بنيويورك، وشارك فيها الأستاذ أحمد سيف الإسلام حسن البنا، ود. يوسف القرضاوي من مصر، وعبد العزيز العلي المطوع من الكويت، وسعيد حوى من سوريا، وجمع غفير من أنحاء العالم الإسلامي، حيث أمّ المصلين الشيخ يوسف القرضاوي، فكانت جنازة مهيبة وحشدًا هائلاً وموكبًا عظيمًا، يدل على مكانة الرجل، وتقدير الناس له، والوفاء لجهده وجهاده، في سبيل الإسلام وتبليغ رسالته، والدفاع عن قضايا المسلمين، والتصدي لأعداء الإسلام، من الصهيونيين والصليبيين والشيوعيين والعلمانيين والمنحرفين والهدامين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين.
رحم الله أستاذنا العلاّمة المودودي وبارك في آثاره التي خلّفها، وتلامذته الذين ربَّاهم، ونفع الله المسلمين بعلمه، ورزقنا الله وإياه الفوز بالجنة، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
وأخيرًا:
سُئل الإمام أبي الأعلى المودودي: ماذا أعددت والصعوبات والعقبات أمامك كثيرة، والمخاطر أكثر؟
فأجاب قائلاً: (أعددت للشدة يقينًا، وللمعوقات دينًا، وللظلم صبرًا، وللسجون والمعتقلات قرآنًا وذكرًا، وللمشانق: وعجلت إليك ربي لترضى).
وسوم: العدد 805