الداعية الصابر أحمد البس (أبو عبد الحميد)
(1335 - 1412هـ / 1915 - 1992م)
مولده ونشأته:
وُلد أستاذنا الحاج أحمد البسّ سنة 1915م ببلدة (القضّابة) مركز (بسيون) في محافظة الغربية، وبعد إكماله الدراسة، عمل مدرسًا في حقل التدريس ثم مدير مدرسة، ثم موجهًا بوزارة التعليم، وقد التحق بركب جماعة الإخوان المسلمين سنة 1939م، فعاش كل محن الجماعة، وقضى في سجون مصر - سواء في العهد الأسود لإبراهيم عبد الهادي أواخر الأربعينيات أو في عهد طاغية العصر جمال عبد الناصر - قرابة ربع قرن من الزمان كان فيها صابرًا محتسبًا آمنًا مطمئنًا، لم يهن ولم يضعف ولم يعط الدنية في دينه، وبقي على العهد حتى لقي ربه مأجورًا إن شاء الله.
معرفتي به:
سمعتُ عن الأخ الداعية الحاج أحمد البسّ، ثم التقيته أول وصولي إلى مصر سنة 1949م من خلال إخواني وزملائي أحمد العسّال ويوسف القرضاوي ومحمد الصفطاوي ومحمد الدمرداش، الذين كانوا يشكلون مجموعة من طلبة الإخوان الأزهريين، ويقودون العمل الإسلامي ويتحركون في أوساط الطلبة ويزورون المدن والأقاليم والأرياف ينشرون دعوة الله، ويبشرون بحركة الإخوان المسلمين التي تعمل على إعادة الحياة الإسلامية إلى الواقع المصري، مترسمة خُطا الدعوة الإسلامية الأولى التي جاء بها محمد (صلى الله عليه وسلم) والتي لا صلاح للبشرية بدونها.
ولقد كانت اللقاءات مع أستاذنا أحمد البسّ تتكرر في القاهرة والأقاليم، وتشرَّفت بزيارته في بلدته ودخلت بيته وأكلت من طعامه وتوثقت الصلة به وبتلامذته وأبنائه، كما التقيته بعد خروجه من سجن الطاغية عبد الناصر في مصر بمكتب المرشد العام عمر التلمساني ثم محمد حامد أبو النصر بدار الدعوة، وكذا التقيته في السعودية عدة مرات، وكان آخرها حين شرّفني بمكة المكرمة بمنزلي مع ابنه الدكتور عبد الحميد، والأخ الدكتور أحمد العسّال، وكانت أحاديث وذكريات ودروس وتوجيهات وطرائف ومِلح.
يقول الأستاذ جابر رزق في مقدمته لكتاب (الإخوان المسلمون في ريف مصر) لمؤلفه الأستاذ أحمد البسّ ما نصه:
"إن تاريخ جماعة الإخوان المسلمين هو في حقيقته تاريخ هذا الجيل الذي رافق الإمام الشهيد حسن البنا في إقامة هذا الصرح الشامخ، وواصل المسيرة مع الإمام الممتحن حسن الهضيبي، وصابر وثبت على الحق، حتى جاء فرج الله، فخرجوا من السجون والمعتقلات، مرفوعي الرؤوس، لم يحنوا رؤوسهم لطاغية أو لجبار، وواصلوا السير مع المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني الذي استطاع على مدى الخمسة عشر عامًا الأخيرة، أن يعيد للجماعة وجهها الوضاء، ويدحض كل ما ألصق بها من تهم وافتراءات، وأصبحت جماعة الإخوان المسلمين واقعًا فعليًا في الساحة المصرية كأقوى قوة اجتماعية مؤثرة في المجتمع المصري" انتهى.
أخلاقه وصفاته
لقد كان الحاج أحمد البسّ نموذجًا رائعًا وقدوة حسنة للدعاة، في علمه وخلقه، ودينه وتقواه وسيرته ومعاملته، وكان التواضع والبساطة والكرم والبشاشة، من صفاته التي لا تفارقه، وهي قدر مشترك ينتظم معظم دعاة الإخوان المسلمين، وبخاصة الذين تربوا على يدي الإمام الشهيد حسن البنا ومرافقيه فترة من الزمن، فهذا الجيل له من الأخلاق العالية، والنفوس الكبيرة، والصلاح والتقوى، والصبر والثبات والعمل الدؤوب في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، نصيب كبير وجهد متواصل، وباع طويل، وعمل مُتقبل مشكور بإذن الله.
التحاقه بالإخوان
وقد أهداني كتــــابه القيـم (الإخوان المسلمون في ريف مصر) الذي تحدث فيه عن تاريخ انتسابه للإخوان المسلمين سنة 1939م، حيث يقول:
"في يوم من أيام عام 1939م خرجت من منزلنا بالقضّابة سائرًا مع صديق لي هو عبد المجيد الخلالي، فقابلنا الأستاذ محمد إسماعيل حتاتة، الذي أعطانا إعلانًا صادرًا عن جماعة الإخوان المسلمين (فرع طنطا)، ثم قدم المهندس عبد السلام فهمي، والأستاذ محمود العجمي من الإخوان المسلمين وخطب كل منهما في مسجد من مساجد "القضابة"، وقد التقينا بهما، وسألناهما عن الفرق بين الإخوان المسلمين والشبان المسلمين، وما المقصود بدعوة الإخوان المسلمين.
وحين شرح الله صدورنا اتخذنا مقرنا في البيت في حجرات الضيوف كشُعبة من شُعب الإخوان المسلمين، وزارنا فيها الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي شقيق البنا، ثم انتقلنا إلى مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم، حيث اشتركت مع زميلي عبد المجيد في البناء مع العمال، فكانت في الصباح لطلبة تحفيظ القرآن الكريم، وفي المساء لاجتماعات الإخوان المسلمين، وقد زارنا الإمام الشهيد حسن البنا، حيث صلى بالناس العشاء والتراويح، وسألهم كم عدد ركعات التراويح التي يصلون؟ فقالوا عشرين، فصلى بهم عشرين، مع أنه يصلي بالمركز العام بالقاهرة ثماني ركعات، وقد سارت الأمور في القضابة، إلى أن صدر قرار من إخوان طنطا أن أنتقل إلى شعبة (بسيون) للإشراف عليها، وكانت تضم حوالي عشرين قرية، وبقيتُ فيها من سنة 1939م إلى سنة 1954م، حيث أنشأنا مستوصفًا، وفرقة للجوالة ساهمت في مكافحة الكوليرا سنة 1947م، ومسجدًا للصلوات الخمس والجمعة، ودارًا للسيدات، ومدارس الجمعة للأطفال والناشئة، ومدرسة ليلية للبنين، ولجنة للمصالحات وفض المنازعات بين الناس، ولجنة الحفلات والندوات، ولجنة تعاونية زراعية وتجارية، وناديًا للشباب، ومآدب الإفطار في رمضان... إلخ".
ومن توفيق الله له في السجن أنه كان يحفظ القرآن الكريم كله وهو في سن العاشرة، وقد نسيه، وحين دخل السجن استعاد حفظه كاملاً في أربعين يومًا، وواصل قراءته كل عام سبعين مرة، وظل كذلك بعد خروجه من السجن، بحيث كان يقرأ القرآن الكريم كل عام خمسين أو ستين مرة حتى لقي ربه سنة 1992م عسى الله أن يجعل تلاوته للقرآن ذخرًا له في السماء.
ثناؤه على الإمام البنا
ويقول عن أستاذه حسن البنا: "كان مسلمًا يمشي على الأرض، رأى منه الإخوان كيف يفسّر الإسلام، ويطبِّقه على نفسه، في الأكل والشرب والغضب والرضا، حتى إن الإخوان استفادوا من سلوكه العملي أكثر من سلوكه الخطابي، وإن كان الاثنان لا يقلان عن بعضهما، حسن البنا شخصية لم أر مثلها، ولعله ممن أشير إليهم أن الله تعالى يبعث على رأس كل قرن من يجدد للأمة أمر دينها".
ثناؤه على الإمام الهضيبي
وقال عن أستاذه حسن الهضيبي: "رجل عظيم، ومسلم منظم، وقائد حكيم، فُرضت عليه القيادة وهو كبير السن، مريض الجسم، لقد صمد الرجل صمود الأبطال، وضرب المثل المشرف الجميل، وسار بالدعوة يدفعها إلى الأمام، يزور البلاد ويواجه المشكلات ويتعرض للأزمات والدعوة منطلقة من يديه وبمساعدة الإخوة الخلصاء، وقبل هذا بتوفيق الله تعالى إلى بلوغ مناها من تجميع وتكوين وتركيز وإصرار، وفي سنة 1954م تمّ القبض على ثمانية عشر ألفًا من الإخوان إرضاء للصهيونية العالمية والشيوعية الدولية والرأسمالية الغربية، وحُكم بالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة وغير المؤبدة، على ألف منهم، وحجز الباقي في السجون والمعتقلات سنين طويلة.
وفي سنة 1965م، قُبض على خمسة وأربعين ألفًا من الإخوان المسلمين وحُكم بالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والأشغال على عدد منهم وحجز الباقي في المعتقلات والسجون سنين طويلة، وأبيد منهم العشرات بل المئات بالتعذيب والضرب بالنار، وقد واجه الأستاذ حسن الهضيبي كل ذلك بصبر واحتساب إلى أن لقي الله ع" انتهى.
في داخل الزنزانة
يروي الأستـاذ الحاج أحمد البسّ عن بعض أحـوالهم في السجون فـيقـول:
"رُميتُ في زنزانة إلى العشاء، ثم دُعيت للتحقيق على يد الضابط (أحمد صالح داود)، وأجلسوني تحت قدميه، وأمرتُ بخلع ملابسي جميعًا، وطرحت أرضًا على بطني، وانهال الضربُ على كل أجزاء جسمي، ثم أتوا بالعروسة الخشب وربطوني بها، ونقشوا ظهري بالكرابيج، وكانوا يمرون علينا بالأسياخ المحماة ويلمسون أجسامنا حتى تبرد الأسياخ، فيأتون بغيرها حتى صرنا لا نحس بالحرارة، ولكن نسمع صوتها وهي تلمس الظهر أو الكتف أو الإلية، واستمر هذا التعذيب طوال الليل.
وفي يوم من الأيام دعونا إلى الخروج من الزنازين إلى ساحة العنبر ثم الصعود مرة أخرى وبسرعة، وهكذا صعود ونزول سريع، مع الضرب بالكرابيج، وكان الجزء الأعلى من جسمي مكشوفًا، لعدم قدرتي على لبس شيء عليه؛ لأنه يلتصق بالجروح، وفي مرة ونحن نصعد السلم ظنَّ أحد الإخوان أني ألبس ملابسي، فأمسك بظهري ليستعين على الصعود، فقطع جلدي من رقبتي إلى أسفل بأصابعه، وقد كان ذلك سهلاً لوجود القيح أسفل الجلد في جميع ظهري فانكشفت عظامي، فأخذني أحد الإخوان الأطباء المسجونين معنا، وأمرني بالنوم على بطني، وأخذ يرد جلد ظهري إلى مكانه، وقال لي الأخ الطبيب: لقد أنقذك الله من الموت؛ لأنني حين أرجعت الجلد إلى مكانه قذفت القيح من تحته، ولو بقي هذا القيح يومًا آخر لوصل إلى صدرك ومت، وإن ما فعله الأخ الممسك بظهرك، كان رحمة من الله بك.
وحين رحلت من السجن الحربي إلى ليمان طرة وجدت قرابة المئتين من الإخوان، من بينهم منير دلة وسيد قطب ومحمد يوسف هواش وحسن أيوب وحسن دوح وصالح أبو رقيق وكمال خليفة وغيرهم من الرجال الصابرين.
وفي يوم 1/ 6/ 1957م، فوجئنا بحشد من الجنود والضباط، وبكميات من الذخيرة والأسلحة، والعصي والسياط، وكان ذلك عقب إحدى الزيارات، حيث أدخل الإخوان الزنازين عصر الأمس، وأُخرجوا صباح هذا اليوم، وقيدونا بالسلاسل الحديدية، التي تتسع كل واحدة منها لعشرين أو ثلاثين أخًا، وبدؤوا بالسلسلة الأولى التي ضمت عبد الحميد الخطابي وأحمد البسّ وعبد الرزاق أمان، وهكذا تم سلسلة خمسة عشر أخًا، ثم توقف مجيء الإخوان من الزنازين؛ لأنهم أدركوا أن هذا الأمر لتصفيتهم جميعًا، حين خروجهم للجبل مسلسلين؛ فما كان من إدارة السجن وعلى رأسها السيد والي إلا إصدار الأوامر بإطلاق النار على الإخوان وهم داخل الزنازين، واستمر إطلاق النار قرابة الساعة، وكانت الحصيلة 21 قتيلاً، و22 جريحًا، وخشي المنفذون أن يكون هناك أي تحقيق من النيابة فأخذوا يوسِّعون مكان الطلقة بالسكاكين، ليوهموا المحققين بأن الأمر معركة بالسكاكين بين الإخوان أنفسهم.
وفي اليوم التالي، خرج 21 نعشًا ليلاً تحت الحراسة المشددة للدفن، وجاء صلاح الدسوقي ليهنئ قائد السجن السيد والي وزملاءه عبد اللطيف رشدي والنصراني متّى وأحمد صالح داود وعبد العال سلومة وغيرهم، وقال أحد الضباط: إن المذبحة بأمر السيد الرئيس جمال عبد الناصر؛ لأن الإخوان بالأردن أفسدوا الانقلاب الذي دبَّره ضد الملك حسين، فانتقم من الإخوان المسجونين بمصر مقابل ذلك.
ثم نُقلت إلى سجن القناطر لأكثر من عام وإلى سجن الواحات الخارجة والمحاريق حوالي الخمس سنوات، ثم إلى سجن أسيوط وسجن القاهرة قرابة العامين، ثم إلى سجن قنا حوالي الست سنوات...." انتهى.
وهكذا قضى الداعية الصابر فترة زادت على ربع قرن، متنقلاً بين سجون الطغاة، من سجن إلى سجن، ومن عذاب إلى عذاب، ولكنه عذاب الدنيا، وابتلاء الله لعباده المؤمنين، ليميز الخبيث من الطيب، وتلك سُّنَّة الله في عباده المؤمنين: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت:1- 2).
رئاسة الجمعية التربوية
وقد تولى رئاسة الجمعية التربوية الإسلامية بعد تقاعده، وهي جمعية أقامها الإخوان المسلمون بمصر للاهتمام بشؤون التربية والتعليم في مدارس الإخوان على مستوى الجمهورية، كما كان من نواب الإخوان في البرلمان في انتخابات 1987م، حيث اكتسح خصومه في الدائرة الانتخابية، وفاز بفارق كبير بالأصوات على مرشحي السلطة، وكانت مواقفه وإخوانه النواب في المجلس، تمثل نبض الشعب المصري، وصوت الإسلام المدوِّي، وكلمة الحق المجلجلة، في وجه الظلم والطغيان، وتطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، ورفع المعاناة عن الشعب، وتربية النشء وفق منهج الإسلام، والتصدي لأعداء الدين في الداخل والخارج من اليهود والصليبيين والعملاء والمأجورين والملاحدة والشيوعيين والفسقة والعلمانيين.
ثناء إخوانه عليه
يقول الأستاذ عباس السيسي:
"عاش أحمد البسّ حركة الدعوة على اتساعها في الأقطار والأمصار، أكثر من خمسين عامًا نصفها في المعتقلات والسجون، وكان قريبًا من الإمام الشهيد حسن البنا، فشرب من أخلاقه وآدابه، وأدرك الأهداف والغايات التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رحمةً للعالمين.
كان متحدثًا يتحلق حوله الشباب ويستمعون إليه بإنصات وشوق ولهفة، فهو مشرق الطلعة، في منطقه نور وحلاوة، وفي حديثه مسحة رطبة ندية، تأصلت من طبيعته الريفية، وفي ثنايا أحاديثه الرقيقة، يتوجه إلى مكامن الحواس فيوقظها برفق، وهو صاحب قلب كبير يتسع لقلوب إخوانه جميعًا، وكان يتودد إلى الشباب، وينزل إلى مستواهم الفكري والروحي، ليرتفع بهم ويحلّق بهم إلى المستوى الشرعي المستقى من منهج الرسول (صلى الله عليه وسلم).
كما كان يشارك الناس عامة في الخدمات التي يقدمها والواجبات التي يضطلـع بمسؤوليتها، ويبذر بـذور الحب والأخوّة في القلوب والنـفوس" انتهى.
إن الأستاذ المربي والداعية الحليم الحاج أحمد البسّ كان له في نفوس الإخوان وبخاصة الشباب والطلاب منزلة ومكانة الأب والموجه والأخ والمعلم، حيث يحبونه غاية الحب، ويستجيبون لتوجيهاته التربوية دونما تردد، ويسيرون في ركاب الدعوة باندفاع وحماسة حيث يرون في أستاذهم القدوة الحسنة، فقد كانت الدعوة إلى الله هي همَّه بالليل والنهار، وقضايا الإسلام والمسلمين، هي شغله الشاغل، وقد وفقه الله لزوجة صالحة ومربية فاضلة كانت السند القوي، الذي يشد أزره، ويؤيد منهج الإخوان المسلمين، وكانت خدمتها لأبناء الدعوة لا تقل عن رعايتهـا لأولادها الذين وفقهـا الله لتنشئتهم تنشئـة صالحة، عـلى مبادئ الإخوان المسلمين، فكانوا قـرة عين للوالدين في الـبر والوفاء والصبر والثبات.
بيته وأُسرته
يقول أستاذنا البسّ:
"شاء الله أن أدخل السجن، بسبب انتمائي لجماعة الإخوان المسلمين بعد عشر سنوات من زواجي، وخرجت بعد قضاء هذه المدة الطويلة، بعيدًا عنها وعن أولادنا، فوجدت زوجتي أزكى ما تكون زوجة، والأولاد أحسن ما يكونون خلقًا وعلمًا وأدبًا، وقد أراد الله أن تكون محنتي مصحوبة بالعزة والكرامة، فإيمان هذه الزوجة جعلها ترضى بأن تجوع وتمرض وتسافر وتحزن وتتألم وتسهر وتمشي وتكدح وحدها وسط هذه المحنة الطويلة العريضة العميقة، بعيدًا عن أسماع الناس وأبصارهم" انتهى.
توجيهاته لابنه
كتب الأستاذ البسّ رسالة إلى ابنه الدكتور عبد الحميد ليخبره بوفاة والدته فقال:
".. فلعلّك تذكر وأنتم تزورونني في السجن، وكنت لا أعلم بخبر وفاة ابني خالد، ولا أحد يجرؤ على مكاشفتي، وإذا بك بروح المؤمن الصافي تقول لي: "إن أخي خالد قابل ربه". وتجدني الآن يا بني عاجزًا كل العجز أن أقوم بالدور الذي قمتَ به، فأقول: أعظم الله أجركم، فقد فاضت روح والدتكم أمس، وهي عليكم راضية ولربها راضية، قد علا وجهها النور والبشر، وتيسّر كل شيء حولها، وجمع الله خير الناس وأكرم العباد، فحملوها إلى مقابر "القضّابة" حيث يرقد ابنها خالد شقيقكم.. ويخيّل إليَّ أنها كانت محمولة بالملائكة، بل كان المشيّعون لها جميعًا تحوطهم الملائكة، فكنتَ لا تسمع إلا أنفاسًا تذكر الله، وقلوبًا تدعو، وأفكارًا تسبّح، حتى إذا وصل الجميع إلى ساحة المقبرة، وقفوا صفوفًا يصلّون عليها ويلتمسون الخير في ركابها، فهنيئًا لمن كانت له أمًا، وهنيئًا لكل من عرفها، ولا تسل عـن الوفـود والأُسر التي كانت تزورها في أيامها الأخيرة.
أرجو أن تكون أهلاً لما ابتُلينا فيه، صحيح أن فقد الوالدة خسارة كبيرة، وصحيح أن فقدها بالذات أضعاف أضعاف فقد الأمهات؛ لأنها كانت على مثال فريد من النبل والوفاء، ولكن الله تعالى قال لسيد الخلق (عليه الصلاة والسلام): {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر: 30)".. انتهى.
من أقواله
ومن أقوال أستاذنا المربي الكبير أحمد البسّ:
"العبرة دائمًا بالنتائج لا بالمقدمات، فكثيرًا ما تبدأ الأمور بارتياح وسرور وتنتهي بحزن وألم والعكس بالعكس، ومن الأمثلة في الأمور المهمة غزوة بدر الكبرى التي ابتدأت بأن المؤمنين أذلة وأن فريقًا من المؤمنين لها كارهون وقد ذهبوا للمعركة كأنما يساقون إلى الموت ولا يودون ذات الشوكة، ويجأرون بالاستغاثة ويغشاهم النعاس، وينزل عليهم المطر، ويزحف عليهم العدو، ولكن النتيجة بعد ذلك النصر المبين، فيقتلون من أعدائهم سبعين ويأسرون مثلهم {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} (الأنفال:17)" انتهى.
وفاته
وقد اختاره الله إلى جواره في مصر عام 1412هـ/ 1992م، وشُيِّع في موكب مهيب من إخوانه وتلامذته. رحم الله أستاذنا الداعية المربي أحمد البسّ، وجمعنا الله وإياه في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وسوم: العدد 809