المضمون الإسلامي في شعر عائشة التيمورية
المضمون الإسلامي في شعر عائشة التيمورية
(1256 - 1320 هـ = 1840 - 1902 م)
عمر محمد العبسو
هذه المقالة حلقة من سلسلة مقالات أحب أن أضعها بين أيديكم، وهي تحت عنوان : ( الاتجاه الإسلامي في الشعر النسوي الحديث ) ، أقدم لكم فيها الحديثَ عن امرأة خلدها البيان ، امرأة ولدت سنة 1256 هـ وماتت سنة 1320هـ، وأنتم تعرفون ما كانت عليه حال النساء في تلك الأيام، كن أسيرات الجهل وضيق الفكر واستبداد الرجل، فكان من أعجب العجب أن تنشأ فيهن شاعرة مجودة وكاتبة بليغة، فاقت أدباء عصرها، وسبقت في مضمار الرثاء العاطفي العصور كلها، وكانت واحدة جمعت عجيبتين اثنتين ، أولاهما أنها شاعرة مجودة والمجودات في الشعر من النساء أقل من القليل، لا في العربية وحدها بل في كل ألسنة العالم والأدب العربي على طوله لم يعرف مئة من الشاعرات المجودات ..على حين قد عرف عشرة آلاف من مجودي الشعر، والثانية أنها نشأت في عصر تلك حال المرأة فيه...
وأحب أن أنبهكم إلى أن الإسلام برئ مما أصاب المرأة، وأن التاريخ الإسلامي حافل بذكر العالمات الأديبات من النساء في عصوره كلها حتى في العصر الماضي ....وفي مكتبتي الآن أكثر من ثلاثة آلاف ترجمة لمن نبغ من النساء ...وفي كتب الجرح والتعديل ذكر المئات من المحدثات الذين كانوا أساتذة الرجال
وهذه الشاعرة الأديبة الكاتبة التي شقت الطريق لأترابها، والتي سبقت زمانها، والتي كانت أعجوبة في بيانها هي السيدة عائشة عصمت بنت إسماعيل باشا بن محمد كاشف التيمورية أخت العلامة المحقق أحمد تيمور، وعمة رائد القصة العربية ابنه محمد تيمور، وأخيه كبير القصصيين المصرين محمود تيمور .
شاعرة، أديبة، كاتبة ، من نوابغ مصر.
كانت تنظم الشعر بالعربية والتركية والفارسية.
ولادتها ونشأتها :
ولدت في القاهرة في 1256 هـ / الموافق 1840م في أواخر عصر محمد علي باشا في مصر . ونشأت في أسرة تركية غنية .
شيوخها وأساتذتها :
تعلمت الشاعرة عائشة التيمورية القراءة والكتابة في القصر على طريقة أبناء الأكابر، فنبهت في نفسها الرغبة في المطالعة والإشراف على مجالس العلم بالقصر، ولكن أمها أرادتها على ما كان من شأن أترابها في الخياطة والتطريز، وأبت البنت إلا ما تميل إليه فطرتها، واستمرت المعركة حتى برز الأب إسماعيل تيمور، وقال لها دعي هذه البنت للعلم ودونك أختيها ربيهما كما تريدين، وأحضر لها المعلمين والمعلمات، فأخذت النحو والعروض عن فاطمة الأزهرية، وستيتة الطبلاوية، وهذا يدلكم على أنه لم يخل ذلك العصر من عالمات وأزهريات.
وأخذت الصرف والفارسية عن علي خليل رجائي، والقرآن والخط والفقه على إبراهيم مؤنس التونسي، وحفظت عشرات الدواوين ، وطالعت كتب الأدب حتى صارت تنظم بالعربية والفارسية والتركية ولم يكن يفوقها من شعراء عصرها إلا البارودي ، والساعاتي، ولها كتابة منها المسجع والمرسل والبليغ .
زواجها :
تزوجت بمحمد توفيق (بك) الإسلامبولي، واقتصر نشاطها بعد الزواج على المطالعة وإنشاء الأشعار .. ثم انتقلت معه إلى الآستانة سنة 1271 هـ، وتوفي والدها سنة 1289 هـ، وبعده زوجها سنة 1292 هـ، وعادت إلى مصر، فعكفت على الأدب، ونشرت مقالات في الصحف، وعلت شهرتها.
مؤلفاتها وشاعريتها :
لها ديوان شعر أحرقته، وأحرقت معه أشعارها بالفارسية بسبب حزنها على وفاة ( توحيدة ) ابنتها، ورثتها رثاء مراً فيه مسحة دينية، ثم عادت إلى قرض الشعر من جديد ...
لها (حلية الطراز - ط) وهو ديوان شعرها العربي، ويقع في / 70 / صفحة، وسمي بالطبعات القديمة منه بالديوان المحي رفات الأدب البالغ من فنون البلاغة غاية الأرب .
و (نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال- ط) في الأدب – صدر عام 1887م . ويضم مجموعة وقصصاً على غرار ألف ليلة وليلة .
و (شكوفة - ط) أي وردة، وهو يضم ديوان شعرها التركي.
ومرآة التأمل في الأمور – صدر عام 1892م .
وفاتها :
توفيت في القاهرة عام 1320هـ / الموافق 1902م .
كتب عنها :
العقاد ، ومي زيادة ، وردة اليازجي ، أنور الجندي ...في كتبهم كثيراً .
المضمون الإسلامي في شعر عائشة التيمورية .
كتبت عائشة التيمورية شعرها، فتناولت موضوعات شتى من مديح نبوي ، ومناجاة إلهية، وابتهالات، وغزل عفيف، وبرعت في فن الرثاء حتى قورنت بالخنساء، ووصفت فقدها للبصر بأسلوب مؤثر، ونود في هذه العجالة أن نقف عند شعرها الإسلامي !!
المديح النبوي :
وفي ديوان حلية الطراز للسيدة عائشة التيمورية، قصيدة تمدح فيها النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي على وزن البردة، وقد بدأتها بأبيات في الغزل، وعارضت فيها بردة البوصيري، ومطلعها :
أعن وميض سرى في حندس الظلم أم نسمة ٍ هاجت الأشواق من إضم ِ
فَجَدَّدَت لي عَهـــــــــــــداً بِالغَرامِ مَضى وَشاقَني نَحــــــــــــــــــــــــو اِحبابي بِذي سِلم
دَعا فُؤادي مِن بَعـــــــــــــــد السَلو اِلى ما كُنتُ أَعهـــــــــــد في قَلبي مِن القدم
وَهاجَني لِحَبيب عِشـــــــــــــــــــــــــق مَنظَرَه يَمـــــــحو وَيُثبت ما يَهواه مِن عدمي
يَمحو سَلوى كَما يَمحــــــــــــــو اِساءَتِهِ حَسبي لَهُ فَعَـــــــــــــــــــــــذابي فيهِ كَالنَعيم
رامَ الوُشاةَ سَـــــــــــــــــــــــــلوى عَن مَحَبَّتِهِ وَلَم أَوف لَهُم عَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذلاً وَلَم أَرُم
كَيفَ اِستَنار الجَوى يا مَن تَمَلَّكَني وَشاهد العِشق في العُشّاقِ كَالعِلم
فَيا لَهُ مُعـــــــــــــــــــــــــــرِضا عني وَمُعتَرِضاً بَينَ الفَـــــــــــــــــــــــــراغِ وَقَلبي وَهُو متهمى
حَسبي مِنَ الحُبِّ ما أَفضى اِلى تَلفى وَمـــــــــــــــــا لَقيتُ مِنَ الآلامِ وَالسَقمِ
أَنّى رَدَدت عَنانى عَن غِـــــــــــــــــــــــــــــــــوايَتِه وَقُلتُ يا نَفس خلى باعِث النَدم
ثم تخلص إلى المديح النبوي، فتصور أنوار البعثة الذي زيّن وجه العالم بالنور والسناء :
وَلَذَّت بِالمُصطَفى رَب الشَفاعَة اِذ يَدعو المُنادي فَتحي الناس من رحم
طه الَّذي قَد كَسا اِشـــــــــــراقَ بِعثَتِه وَجه الوُجـــــــــــــــــــــودِ سَناء الرُشدِ وَالكَرَم
طه الَّذي كللت أنـــــــــــــــــــــــوار سنته تيجان أُمَّتِه فَضـــــــــــــــــــــــــلاً عَلى الامَم
نِعم الحَبيب الَّذي من الرقيب بِهِ وَهُوَ القَريبُ لِراجى المَجـــــــــــــدِ وَالنِعَم
والشاعرة تحب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا تجد سوى روحها لتقدمها فداء له :
روحي الفِداء وَمن لي اِن كون لَهُ هـــــــــــــــــــــــذا الفِداء وَموجودي كَمُنعَدِم
وَمـــــــــــا هِيَ الروحُ حَتّى أَفتَديهِ بِها وَهي البغـــــــــــــــــاث يَغارُ الظُلمُ وَالظلم
وَالعُمرُ أَفنَت ثِقــــــــــــــال الوُزر لمحته وَبَدَّدَتهُ صُــــــــــــــــــــــــــروفُ الدَهرِ بِالتُّهَم
أَينَ الرَشادُ الَّذي أَعدَدتُهُ لِغَــــــــــــــــــد غَويت عَنهُ فَزلت بِالهَوى قَدمي
وتصور أشواقها إلى رحاب الحبيب المقدسة، فتقول :
من لي بترب رحاب لَو أَفوزُ بِها كَحلت عينا أَفاضَت دَمعُها بِدَم
من لي بِاِطلالِ بان عــــز مَنظَرِها تَسقى بَطَل من الآماق مُنسَجِم
تحط أَثقال وُزر لا تَقــــــــــــــومُ بِها شَــــــم الرَواسي من راس وَمُنهَدِم
وراحت تعدد معجزات النبوة ودلائلها، فتقول :
فَكَم يَتبَع زَلال فاض من يَدِه أَروي الاِوام وَأَسقى مِنهُ كُل ظَمىء
وَالجذع أَن لَهُ من بَعدِهِ جزعا لما رَأى عَنهُ مَولى العرب وَالعُجم
لانَت لَهُ الصَخرَة الصَمّاءِ طالِعَة مُذ مَسَّها سَيِّدُ الكَونَينِ بِالقَدَم
فَيا لَها مُعجِزات ما لَها عَدَد أَفلِها منا يَدا نار عَلى عَلم
فهي تشتاق إلى شربة من ذلك الماء العذب الزلال الذي نبع من بين أصابعه – عليه السلام - وأروى الجيوش ، وتتحدث عن معجزة حنين الجذع ، وتصور عجزها عن وصف كمالات سيد الكائنات ، فتقول :
وَلا يُحيطُ بِهِ مَدحى وَلَو جَعَلت جَوارِحي أَلَسنا يَنطُقنَ بِالحُكمِ
وَاِنَّما أَرتَجى مِن مَدحِهِ قبسا يَهدي الصِراطُ وَيَشفى الروحُ من أَلَم
وَكَيفَ لي بِاِتِّعاظِ النَفسَ آمِرَتي بِالسوءِ ناهيتي عَن مَورِدِ النِعَم
فَما اِلتِماسي عَن خَيرِ يَقرُبُني زُلفى السَعيم وَلا تَسقى بِمُنتَظِم
لكِن لي أُسوَة أَشفى بِها وَصَبي حُسن اِرتِباطي بِحَبلِ غَير مُنفَصِم
وَمِنَّةُ اللَهِ دين وَصفِهِ قيم بِحُجَّتي اِن أَخَف يَومَ اللُقا يقم
وَما سِوى فوز كوني بَعضُ أُمَّتِه ذُخرا أَفوزُ بِهِ مِنَ زلة الوَصم
اِلّا اِلتِماسي عَفوا بِالشَفاعَةِ لي مِن خاتِمِ الرُسُلِ خَيرُ الخَلقِ كُلُّهُم
وبعد أبيات نأخذ في ذكر معجزات الرسول – صلى الله عليه وسلم– ثم تنتقل من ذلك إلى المدح والتوسل:
مددت كفّ الرجا أرجو مراحمه وقد حللتُ به في بُهرة الحَرم ِ
محمد المصطفى مشكاة رحمتنا مصباحُ حجتنا في بعثة الأمم ِ
يامن به أقتدي يوم الزحام إذا أبديتُ ناصية ً مفحومة َ الوَسم ِ
أقول حين أوافي الحشر في خجل ٍ إن الكبائر أنست ذكرة َ اللمم ِ
وهذا البيت مأخوذ من بيت البوصيري بتصرف :
يا نفس لا تجزعي من زلة عظمت إن الكبائر في الغفران كاللمم ِ
ثم تقول :
يا خيرَ من أرتجي إن لم تكن مددي وازلتي يوم وضع القسط واندمي
وهذا مأخوذ من بيت البوصيري :
إذا لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم ِ
ثم تختم القصيدة بقولها :
عليك أزكى صلاة الله ما فتتحتْ أدوارُ دهرٍ وما دالتْ بمختتم ِ
استغاثة :
وترسل السيدة عائشة التيمورية صرختها في جوف الدجى ، تناجي ربها وتستغيث برحمته ، وتدعوه لكشف الضرّ الذي نزل بها، وتلتمس العزاء بسيرة أنبياء الله أيوب، ويونس، ويعقوب، ويوسف – عليهم السلام - :
وَقَد بَسَطت أَكف الذل ضارِعَة لِخالِق الخَلق جبار السموات
وَبت أَدعو عَليم السر قائِلَة يا غافِرَ الذَنب جدلي بِاستِجابات
يا كاشِف الضُر عَن أَيوب مرحمة حينَ اِستغاثَك من مس المَضَرّات
وَصاحِب الحوت قَد أَنحببته كرما لِما دَعا بِاِبتِهال في الضَراعات
أَنقذته يا اله العَرش مِن ظُلم لِظُلمَة النَفس لاقته بِاِعنات
وَاِبيضت العَين من يَعقوب وَاِنسَكَبَت حُزنا عَلى سُيوف في فَيض عِبرات
وَمُذ شَكا البث لِلرحمن عادَ لَهُ نور العُيونِ قَرينا بِالمَسَرّات
وَيوسف السَيد الصَديق حينَ دَعا في ظُلمَة السِجن من بَعد الغِيابات
أَوليته الحُكم وَالمُلك العَظيم كَما آتَيتُهُ العِلم مِن اِسنى العِنايات
وَمُذ عَلِمت بِإخلاص الخَليل غَدا وَالنار من حَولِهِ في رَوض جنات
عادَت سَلاما وَبَردا بَعد ما اِشتَعَلَت وَلَم يَفه من يَقين بِالشِكايات
فيامن أنقذت إبراهيم من النار، وأنجيت يونس من بطن الحوت، وعافيت النبي الصابر أيوب، وأعدت البصر ليعقوب، وأخرجت يوسف من السجن، أرجوك يا سيدي أن تغفر زلاتي، وأن ترد كيد حسادي:
وَقَد رَفَعَت يَمينَ الذُل داعِيَة اِلَيكَ يا رَب أَرجو غَفر زلاتي
رَبّي اِلهي مَعبودي وَمُلتَجىء اِلَيكَ أَرفَعُ بثي وَاِبتِهالاتي
قَد ضَرَّني طَعن حسادي وَأَنتَ تَرى ظُلمي وَعِلمُكَ يَغنى عَن سُؤالاتي
فَاِمنُن عَلى بِالاف لِتُخرِجُني مِنَ الضَلالِ اِلى سبل الهِدايات
أَنت الخَبير بِحالي وَالبَصيرُ بِهِ فَاِفتَج لِهذا الدعا بابَ الاِجابات
فَكَيفَ أَشكو لِمَخلوق وَقَد لَجَأت لَكَ الخَلائِق في يسر وَشدات
فَيا لَها من جراح كُلَّما اِتسعت أَعيت طبيب رُغما عَن مُداواتي
أَنتَ الشَهيد عَلى قَول أَفوه بِهِ ما دُمت عائِشة فَالحَمدُ غاياتي
وهناك قصيدة أخرى للسيدة عائشة التيمورية في الاستغاثة تلمس فيها حركة النفس واضطرابها وحيرتها بين الخوف والرجاء ، والقصيدة من البحر البسيط ، وتقع في عشرين بيتاً :
أين الطريق لأبواب الفتوحات أين السبيل إلى نيل العنايات ِ
أين الدليل الذي أرجو الرشاد َبه إلى سبيل المعالي والهدايات ِ
أين السلوك الذي أسرار لمحته مصباح ُ نور ٍ لمشكاة المناجاة ِ
أين الخلوص الذي آثاره سبقت يوم الرحيل إلى دار السعادات ِ
فهي تتلمس أبواب الخلاص ، وطريق المنى والسعادة ، وتبحث عن سبل الرشاد والهدى والمجد ..وتسترسل في بث أحزانها وشكواها وحيرتها إلى أن تقول :
كَيفَ الخَلاصُ وَأَجداثَ الشَقا وَطني وَقد رَمتني بِها أَيدي الشَقاوات
كَيف المَسيرُ اِلى أَرض المُنى وَأَنا بِطاعَة النَفسِ في قَيد الضَلالات
كَيف العُدول بِقَصد السبل عَن عوج أَفضى بِسَعي اِلى دار النَدامات
كَيفَ الرَحيلُ بِلا زاد وَراحِــــــــــــتلَة تَحتَ سيري لاِرض الاِستِقامات
وَلي حَقــــــــــــــــــــــائِب بِالأوزارِ مُثقَلَة وَعيس كَدحى كَلَت عَن مُراداتي
وتقع الشاعرة في الاستغاثة المحظورة حيث تخاطب ( أولي العزم ) فتقول :
فيا أولي العزم حلوا عقد مشكلتي وكيف أبلغ ُ أقطار السلامات ِ
وتلوم نفسها على تفريطها في جنب الله، وتبكي على ذنوبها، فتقول :
عتبت ُ نفسي على ما ضاع من عمري في ملهيات وغفلات وزلات
فَخالَفَت مَقصَدي جَهلاُ وَما اِتعظت وَلَمحة العُمر وَلت في الخَسارات
فَلَو بَكت مُقلَتي لِلحَشر ما غَلت ذُنوبُ يَوم تُقضى في الجَهالات
وَلَو تَبدد قَلبي حَــــــــــــــــــــــسرَة وَأَسى عَلى الَّذي مَرَّ مِن تَفريط أَوقاتي
لَم يَجد لي غَير دق الكف مِن نَدم عَلى عَظيمِ أِساآتي وَغَفــــــــــــــــلاتي
اِن طالَ خَوفي فَقَد اِحيا الرَجا اِملي في غافِرِ الذَنبِ خَلاق السَموات
ثم تختمها بقولها :
فاز المخفون واستنَّ الثقاةُ إلى دار الســـــــــلام وفردوس الكرامات ِ
وكان شغلي : خضوعي زلتي أسفي ووضع َ خدّي على أرض المذلات ِ
وطوع أمارتي بالســــــــــــــــــــــوء قيدني عن الوصــــــــول لغايات الكمالات ِ
فلم يسعفي بأثقال الذنوب سوي ساحات ُ غفران علاّم الخفيات
وتعترف الشاعرة أن نفسها الأمارة بالسوء هي التي أوصلتها إلى المهالك، وترجو من مولاها أن يغفر لها الذنوب .
مناجاة إلهية :
ومما يدل على تضرعها وخشيتها قولها في هذه المناجاة الإلهية :
الهى سَيدي أَنتَ الجَـــــــــليل بِبابِ رَجائِكَ العَبدُ الذَليل
ضَعيفُ الحالِ مُنكَسِر فَقير كَثيرُ الغَي ناصِرُهُ قَـــــــــــليل
فَاِنتَ لذنيه رب غَفـــــــــــــــــور كَريم صَفحَة السامي جَزيل
قَصَدت حَماكَ يا مَولى المَوالي أَرومُ العَفوَ أَمــــــــــــــل جَميل
قَصدت حَماكَ تَستَر قبج عيبي بِسر المُصطَفى اِنّي دَخيل
فهي تقف بذلها وانكسارها وفقرها وتطلب مغفرة ذنبها والعفو عن خطئها ، وتتسلح بالأمل والتفاؤل بأنه سوف يجيب نداءها :
فَحاشا أَن تَخيبَ فيكَ ظَنّي وَأَنتَ لِعَبدِكَ الراجي كَفيل
فَاِن يَكُ جُرم عَبدِكَ لَيسَ يُحصى فَحُسنُ رِضاكَ لَيسَ لَهُ عَديل
فَمن لي اِن طردت وَأي بابِ أَيمم دونَ بابِكَ يا جَليل
لَقَد قادَ الشَقاءَ زمام حَتفى لِوادي خِجلَتي بِئسَ الدَليل
فَاِينَ أَفرد من شيطان نَفسي وَمن أَمارَتي أَينَ السَبيل
عَظيم العَفوِ اِن عَظُمتَ ذُنوبي فَلى أَمل لِعَفوِكَ لا يَزول
بِحُبِّكَ لِلرِّضا تَرضى عَلى مَن أَتى لَكَ وَهُوَ مُعتَرِف ذَليل
فَاِنتَ الحي مُحي كُل حي وَأَنتَ لِمَن دَعا نِعمَ الوَكيل
وقالت قصيدة من الوافر ، وعدد أبياتها 19 بيتاً، تستهلها بالوقوف بين يدي الله بكل خشوع وذلّ :
أَتَيتُ لِبابك العالي بَذلي فَاِن لَم تَعف عَن زللي فَمن لي
مقرا بِالجنــــــــــــــايَة وَاِمتِثالي لأمرِ النَفسِ في عقدي وَحلي
وَمُعتَرِفا بِأَوزارِ ثِقـــــــــــــــــــــال أَقاد لحملها طــــــــــــوعاً لِجَهلي
أَقر بِزلتي من قبل كَي لا تَقر جَوارِحي بِالذَنبِ قَبلي
أَتَيت وَلي ذُنوب لَيسَ تُحصى أقولُ لِراحمي بِالعَفوِ كُن لي
وتعترف بأن زادها من التقوى قليل لا يكفي لذلك السفر الطويل :
وَلَم اِعدد لِذاكَ الحي زاداً إذ الأظعان قَد قامَت بِحَملي
وَكَم طافَ الغُرور بِراح عَجب عَلى وَلم اِفق من فرق خبلى
وَهمت بِغَفلَتي في عَيب غَيري وَما أَنا محفل لِلعَيبِ كُلّي
ضللت عَنِ السَبيلِ وَلَم احله وَهَل يَبدو الرَشادُ لِعَين مِثلي
سَعت نَفسي بِأَن أَمشي مُكبا عَلى وَجهي لِطاعَتِها فَوَيلي
هَداني ناصِحي فَاِزددت غَبا وَقُلتُ لِمُرشِدي بِالزَجر وَلى
وكفى بالشيب واعظاً ، إنه يؤذن بالرحيل إلى دار المعاد :
اِراكَ بلمتي يا شَيب عظني وَقُل حانَ الرَحيل غَدا لعلي
فَأَول ما تَرى حَدث مَهول تَهيل ثَراه كَف أَخ وَخل
وَقَد رَجَعوا كَأَن لَم يَعرِفوني وَهم نَسي وَأَبنائي وَأَهلي
وَتَشتَغِل البنون بِقسم مال أَنا بِسُؤالِهِ في عظم شغل
فَأَنتَ لِو حدبي وَلكل عاص لَه رحماكَ من بَعدي وَقَبلي
وتذكر نفسها بالموت ودخول القبر ووحشته حيث تواجه ربها لوحدها وقد فارقها الأحباب وتخلى عنها الأهل والأصحاب ، ولا ينفعها يومئذ إلا العمل الصالح .
الحجاب :
ولم تثر عائشة التيمورية على الحجاب بل إن هناك نصوصاً من شعرها تدل على رضاها بقيده واعتزازها به، ومن ذلك قولها : ( الكامل ) :
بيد العفاف أَصون عز حجابي وِبِعِصمَتي أَسمو عَلى أَترابي
وَبِفِكرَة وَقـادَة وَقَـريحة نَقادَة قَد كَمَلَت آدابي
وتعتز الشاعر بثقافتها وبشعرها ، فهي تنهج على غرار الخنساء ، وعلية بنت المهدي ، وليلى الأخيلية ...وتقتدي بتلك الفاضلات :
وَلَقَد نَظَمت الشِعرَ شيمَة مَعشَر قَبلي ذَوات الخُدور وَالأحساب
مـا قُلتُه إلا فكاهة ناطِـق يَهوى بَلاغَة مَنطِق وَكِتاب
فَبِنِيَّة المهدى وَلَيلى قُدوَتي وَبِفِطنَتي أَعطي فَصل خطابي
لِلَّهِ در كَواعِب منوالها نَسج العُلا لِعَوانِس وَكِعاب
وَخَصَّصَت بِالدُر الثَمين وَحامَت الـ خَنساء في صَخر وجوب صِعاب
فَجَعَلَت مِرآتي جَبين دَفاتِري وَجَعَلَت من نقش المداد خضابي
كم زَخرَفَت وَجنات طرسي أَنملى بعذار خط أَو إهاب شَباب
وَلَكُم زها شَمع الذكا وَتَضوعَت بِعَبيرِ قَولي رَوضَة الأحباب
وتؤكد الشاعرة المسلمة أن حجابها حصن حصين لها ، وأنه لا يمنعها من التعلم والتقدم والمجد والعلياء ، فتقول :
عوذت مِن فِكري فُنون بَلاغَتي بِتَميمَة غَرا وَحرز حِجاب
ما ضَرَّني أَدبي وَحُسنُ تَعَلُّمي إلا بكوني زَهرَة الألباب
ما ساءَني خدري وَعَقد عِصابَتي وَطَرازُ ثَوبي وَاِعتِزاز رَحابي
ما عاقَني حَجلي عَن العليا وَلا سَدل الخِمار بِلِمَّتي وَنِقابي
عَن طي مِضمار الرَهان إذا اِشتَكَت صَعب السِياق مطامح الرِكاب
بَل صَولَتي في راحَتي وَتفرسي في حُسنِ ما أَسعى لِخَير مَآب
ناهيكَ من سر مَصون كنهَه شاعَت غَرابَتِه لَدى الاِغراب
كَالمِسكِ مَختوم بِدُرج خَزائِن وَيَضوع طيبُ طيبِهِ بِمَلاب
أَو كَالبِحار حوت جَواهِر لُؤلُؤ عَن مَسِّها شَلت يَد الطلاب
در لِشَوق نَوالِها وَمَنالُها كَم كابِد الغَواس فَصل عَذاب
وَالعَنبَر المَشهود وافَق صونَها وَ شُؤنَه تَتلى بِكُل كِتاب
فَأَنَرتَ مِصباح البَراعَةِ وَهيَ لي مَنح الإلَهُ مَواهِب الوَهاب (1)
وكان لهذه القصيدة صدى كبيراً في دنيا الشعر حيث عارضها شاعر إسلامي معاصر فقال :
بيد العفاف أصون ُ عِزَّ حجابي وبعصمتي أعلو على أترابي
ويهاجم الدجالين وتجار الأعراض الذين خدعوا نساء المسلمين بكلامهم المعسول :
كذب الذين يتاجرون بقصــــتي كذبوا وكانوا مثل زيف ِ سراب ِ
تجريرهم أبصرت ُ لا تحريرهم قد خاب من قد سار خلف غُراب ِ
لا لن أكون كما أرادوا ســــــلعة ً ضاعت ْ بسوق نخاسة ٍ وبغاب ِ
لا لن أحيد عن الحجاب وطــهره رغم الذئاب ورغم نبح كلاب ِ
ثار َ البغاة ُ وكشروا أنيــــــــابهم وغداً نحطّم ُ صورة َ الأنياب ِ
يعوي العبيدُ على صدى أسيادهم وعواؤهم ما ضرَّ سيرَ سحابي
أنا لست ُ وحدي في قرار تحجبي خلفي كثيرات ٌ يقتفين متابي
فمعي النساء ُ السائرات على الهدى ومعي الحياءُ وفطرتي وكتابي
الأمل :
لا حياة مع اليأس ، ولا يأس مع الحياة ،والمسلم إذا أصيب باليأس أحبط وخسر الحياة ، فالحمد لله الذي شجَّ وفجَّ رأس اليأس بفأس قوله تعالى : إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون :
- يعيشُ بالأملِ الإِنسانُ فهو إِذا .. أضَاعَه زالَ عنه السعيُ والعملُ
- لم يَعْبُدِ الناسُ كلُّ الناسِ في زمنٍ ... سِوى إِلهٍ له شأنٌ هو الأملُ
زيارة الحبيب :
وأعذب شيء في هذه الدنيا هو لقاء الأحبة :
- وجدتُ ألذَّ العيشِ فيما بلوتهُ تَرَقُّبَ مشتاقٍ زيارةَ شائقِ
صفاء الدنيا :
وعلى المؤمن أن لا ينخدع بمظاهر الدنيا الزائفة ، فالدنيا إذا حلتْ أوحلتْ ، وإذا كستْ أوكستْ ، وكم من قبور تبنى ولا تبنى ، وكم من مريض عدنا فما عدنا ، وكم من ملك قد رفعت له علامات فلما علا مات .
لا تَفرَحَنَّ بِدُنيا أَقبَلَتْ وَصَفَت بِكُلِّ ما تَرتَضي وَاِحذَر عَواقِبها
نصيحة :
توصي أحبابها بالقناعة، فتقول :
- اقنعْ بأيسرِ شيءٍ فالزمانُ له ... محيلةٌ لا تقضىَّ عندَها الحوجُ
- وما يكفُّ أذاةً عنكَ حافُ ضنى .وقد يشجكَ عودٌ مّسَّهُ عِوَجُ
وتنصح نفسها والناس باتباع الرشد، ودوام الذكر والتسبيح :
- اقنعْ بما رضي التقيُّ لنفسِهِ .. . وأباحَهُ لك في الحياةِ مبيحُ
- أسنى فعالِكَ ما أردتَ بفعلهِ ... رشداً وخيرُ كلامكَ التسبيحُ
واللسان هو مفتاح القلوب ، فلو بقي الإنسان صامتاً لم نعرف مكنون نفسه :
- وإِن لسانَ المرءِ مفتاحُ قلبِهِ ... إِذا هو أبدى ما يجنُّ من الفمِ
الغضب :
حذّر الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الغضب، وأوصى المسلم بأن يتوضأ إذا غضب، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يغيّر جلسته :
اِن الدهاة وَاِن أَبدوا بَشاشَتهم فَلا تَقُل بِغُـــــــرور فَاتني الغَضَب
فَكَم بحلو شَراب سم مقتلة وَالاِسد تبسم اِذ يَبدو لَها العَطب
وعلى المسلم ألا يغترّ بظواهر الأمور، فقد يكمن السمّ في الدسم، والأفعى وإن لان ملمسها فإن في أنيابها العطب ...
الحكمة :
ونثرت الشاعرة حكمتها من خلال أشعارها، واستقت تلك الحكمة من تجاربها ومن ثقافتها، فقالت:
- أشدُ الجهادِ جهــادُ الهوى ... وما كرَّمَ المـرءَ إِلا التقى
- وأخلاقُ ذي لبفضلِ معروفةٌ ... ببذلِ الجميلِ وكفِّ الأذى
- وكلُ الفكاهاتِ ممـلولةٌ ... وطولُ التعــاشرِ فيه القِلى
- وكلُ طـريفٍ له لـذةٌ ... وكل تليدٍ ســــريعُ البِلى
- ولا شيءَ إِلا لـه آفـةٌ ... ولا شيءَ إِلا لــــه منتهى
فأشد الجهاد هو جهاد الهوى والنفس ، وأكرم الناس هو أهل التقى ، ويعرف أهل الفضل ببذلهم للجميل وكفهم للأذى ....
الحب الإلهي :
حكم الهَوى وَالقَلب لازَمَه الجَوى تَبقى لِواعجه بِطول بَقائي
دَمعي وَقَلبي مُطــــــــــــــــــــــــــــــــلَق وَمُقَيَّد هذا لِتَعـذبي وَذا لِشَقائي
حُب تَمكن في الفُؤاد وَقَد بَـــــــــدَت آثاه في ســائِرِ الأَعضاء
اِني لِيُعجِبُني الَّذي يَرضـــــــــــــــــــــى بِهِ سِيان بَعدي عَنهُ أَو اِدنائى
فَعَلامَةُ العُشّاقِ حُسنُ رِضا همو عَمّا اِرتَضى المَحبوبُ مِن أَشياء
وَقَد اِعتَرَفتُ بِأَنَّ مثلى لَم يَقُم بِحُقوقُهِ وَمُقصر بِأَداء
فَقَصَدت ساحَة عَفوِهِ متسربِلا بِجنايَتي مُتَوَحِّشاً بِحَيائي
وَأَتيتُ بابَكَ وَالرَجاءُ يَؤُمني وَاِخجَلتي اِن لَم أَفُز بِرِضاء
غَواثاه مِن لي اِن منعت وَكَيف لي بِما عدان لَم تَقُم بِوَفائي
أَم كَيفَ أَنعُم بِالبَقا وَيَلِذ لي عَيشُ اِذ أَشَمت بي أَعدائي
وَادي الغَضا قَلبي بِما أَلقاهُ من أَمارَتي بِالسوء وَالضَرّاء
فالجهل والشرّ هدّ كيانها :
فَزَعيم جَيش الجَهلِ حط عَزائِمي وَالشَر قَوض مربعى وَبنائى
وَكَبائرَ الهَفواتِ قَد أَلبَسَتني ثَوبَ الهَوانِ وَمَلبَسُ البُأَساءِ
أَن في رَحيبِ رحاب جودِكَ مَوجدي وَرِضاكَ يا مَولايَ من شُفَعائي
اِن كانَ عِصياني وَسوءُ جِنايَتي عَظما وَصرت مُهَدَّداً بِجَزائي
فَفَضاء عَفوِكَ لا حُدودَ لِوُسعِهِ وَعَلَيهِ مُعتَمِدي وَحُسنُ رَجائي
فإن عظمت ذنوب الشاعرة ، فهي تلوذ بعفو الله الذي يرى سرّها ويعلم مكنون ضميرها، وتتوسل إليه بأحب الخلق إليه لكي يكشف سقامها ويشفي جسدها وروحها :
يا مَن يَرى ما في الضَميرِ وَلا يَرى اِنّي رَجوتَكَ اِن تُجيبُ دُعائي
يا عالَم الشَكوى وَحر تَوجعي دائي عَظيم القَرح جد بِدَوائي
بَحَبيبِكَ الهادي سَأَلتُكَ دلني لِعِلاجِ أَمراضي وَجاب شَفائي
ثُمَّ الصَلاةُ عَلَيهِ ما هَب الصِبا سُخر فَعطر سائِر الاِرجاء
حفظ اللسان :
وكتبت تنصح بحفظ اللسان وترك النميمة من البحر البسيط :
اِحفَظ لِسانَك من دم الانام وَدَع أَمر الجَميعِ لِمَن أَمضاهُ في القدم
مَعايِب الناسِ لا يَكبرن عن غلطي اِذا نممت بِها في مَحفل الهَمم
الصبر :
وبينت الشاعرة أن الصبر هو بلسم القلوب، وشفاء الهموم :
وَقَد رَأَيت الشَفا بِالصَبرِ مُمتَزِجا وَالصَبرُ اِحمد ما اِجدى وَما نَفَعا
فَاِستَعمِل الصَبرَ اِنَّ الصبر موقعه من القُلوبِ جَـــــــــميل أَينَما وَقَعا
دعاء :
وتبتهل إلى الله لكي يأخذ بيدها، ويشفي سقامها، وتشكر ربها بقلبها ولسانها :
كَم قُلت في مِحنَتي يا رَب خُذ بِيَدي وَاِكشِف سَقامي وَجد بِالنَومِ للأرق
فَبِالصَغيرَين أَهدى الشُــــــــــــــــــــــــــكر مُعتَرِفا لِخالِقي ما صَفا البَدران بِالأفـــــق
القرآن :
وتنصح المسلم بقراءة القرآن، فهو روح الوجود، ودستور الحياة ، أنزله الله على قلب رسول الله بالهدى والرشاد :
وَاِقرَأ كِتابَ اللّهِ جَل ثَناؤُه فَهُوَ المَجيد وَبِالثَناء حِقيق
روح الوُجودِ عَلى البَشيرِ مَنزِل يَهدي اِلى الرُشدِ الوَرى وَيَسوق
كارثة :
عاشت الشاعرة في سعة من العيش وإقبال، وربيت في العز والدلال، لكن الدهر الذي لا يدوم على حال رماها بالنكبة التي تصدع قلوب الأبطال من الرجال فكيف بشاعرة من ربات الحجال ....مرهفة الحس رقيقة القلب تعيش بالعاطفة والحب؟؟
أصابها ما لم تطق له احتمالاً كانت لها بنت اسمها ( توحيدة ) جمع الله لها جمال الخلْق وسمو الخُلق ، فياضة الأنوثة ساحرة الطرف بليغة النطق مهذبة الحواشي ما رآها أحد إلا أحبها ...وبلغت الثامنة عشرة وتزوجت فما مر على عرسها شهر حتى أصابها مرض مفاجئ فماتت....
وروعت الصدمة عائشة وشدهتها، ولم تستطع التصبر، ونسيت كل شيء إلا ابنتها، وتركت كل شيء إلا الانقطاع لرثائها، ولبثت على ذلك سبع سنين كوامل ، قالت فيها قصائد تُبكي الصخر، وتحرك الجماد، وأثر طول البكاء في عينيها فما عادت تبصر ....ثم ألهمها الله الصبر بعد سبع سنين، وشفي بصرها لكنها لم تنس النكبة أبداً .. وهاكم أبياتاً من قصيدة واحدة لا أعرف في الشعر العربي أحدّ منها حساً، ولا أظهر عاطفة، ولا أبلغ في إثارة الأسى ..وهي في هذا (لا في جودة السبك وروعة البيان) تفوق الخنساء وابن الرومي، وتفوق قصيد التهامي المشهورة في ولده ...
بدأت القصيدة تصف روعة الخطب ولوعة الحزن فقالت ....
إن سال من غرب العيون بحور..........فالدهر باغ والزمــــان غدور
فلكل عين حقُ مـدرار الدِّمـــــا ..........ولكل قلب لوعــــــــــــــــة وثبور
ومع تنوع شعر عائشة التيمورية وتعدد ألوانه ، فإن الرثاء يظل من أجود هذه الألوان وأكثرها عمقاً وصدقاً، ومرد ذلك إلى صدق التجربة الشعرية عندها في هذا الباب ..
فلنستمع إليها وهي تصور هول المصيبة التي نزلت بها، وكيف شاركتها الطبيعة أحزانها، فكسفت الشمس، وخسف الخسف، وغابت قرة عينها ( توحيدة ) وتركتها تصارع الهموم :
ستر السنا وتحجبت شمس الضحى .....وتغيبت بعد الشروق بدور
ومضى الذي أهوى وجرعني الأسى .... وغدت بقلبي جذوة وسعير
يا ليته لمــــــــــــا نوى عهـــــــــــــــــد النوى .... وافى العيون من الظلام نذير
ثم أخذت تصف كيف بدأ المرض في رمضان سحراً :
طافت بشهر الصوم كاسات الردى . سحرا وأكواب الدموع تدور
فتناولت منها ابنتي فتغيرت .......... .وجنات خد شانها التغير
فذوت أزاهير الحياة بروضها........ .. وانقد منها مائس ونضير
لبست ثياب السقم في صغر وقد ..ذاقت شراب الموت وهو مرير
جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا..........إن الطبيب بطبه مغرور
وصف التجرع وهو يزعم أنه ....... .بالبرء من كل السقام بشير
واسمعوا كيف استبشرت الفتاة بدواء الطبيب:
فتنفست للحزن قائلة له .......... عجل ببرئي حيث أنت خبير
وارحم شبابي إن والدتي غدت .....ثكلى يشير لهى الجوى وتشير
وارأف بعين حرمت طيب الكرى....تشكو السهاد وفي العيون فتور
لما رأت يأس الطبيب وعجزه ..........قالت ودمع المقلتين غزير
أماه قد كل الطبيب وفاتني .......... مما أؤمل في الحياة نصير
لو جاء عراف اليمامة يرتجي ..........برئي لرد الطرف وهو حسير
يا روع روحي حله نزع الضنى .......... عما قليل ورقها وتطير
أماه قد عز اللقاء وفي غد.......... سترين نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي .....هو منزلي وله الجموع تسير
قولي لرب اللحد رفقا بابنتي ..........جاءت عروسا ساقها التقدير
وتجلدي بإزاء لحدي برهة ........... .فتراك روح راعها المقدور
أماه قد سلفت لنا أمنية ........ . يا حسنها لو ساقها التيسير
كانت كأحلام مضت وتخلفت ...... مذ بان يوم البين وهو عسير
وتصوروا الأم، وهي تعود، فلا تلقى ابنتها، ونرى جهاز العرس مازال باقياً .....
عودي إلى ربع خلا ومآثر ........ قد خلفت عني لها تأثير
صوني جهاز العرس تذكارا فلي .....قد كان منه إبى الزفاف سرور
جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا ....لبس السواد ونفّذ المسطور
والقبر صار لغصن قدي روضة ........ريحانها عند المزار زهور
أماه لا تنسي بحـق بنوتي ........ قبري فيــحزن المقبور
وهاكم جواب الأم :
فأجبتها والدمع يحبس منطقي ......والدهر من بعد الجوار يجور
بنتاه ياكبدي ولوعة مهجتي.......... قد زال صفو شانه التكدير
لا توصي ثكلى قد أذاب فؤادها....... حزن عليك وحسرة وزفير
قسماً بغض نواظري وتلهفي ..... مذ غاب إنسان وفارق نور
وبقبلتي ثغرا تقضى نحبه .........فحرمت طيب شذاه وهو عطير
والله لا أسلو التلاوة والدعا ....... ما غردت فوق الغصون طيور
كلا ولا أنسى زفير توجعي ....... والقد منك لدى الثرى مدثور
إني ألفت الحزن حتى أنني ..........لو غاب عني ساءني التأخير
قد كنت لا أرضى التباعد برهة........كيف التصبر والبعاد دهور
أبكيك حتى نلتقي في جنة .......... برياض خلد زيًّنتها الحور..
أرأيتم أيها الإخوة : كيف نسيتم مصائبكم، وبكيتم لمصاب هذه الفتاة التي ماتت من سنين طويلة .لقد خلدت عائشة التيمورية بشعرها في رثاء توحيدة صورة الأمومة الملهوفة وأحاسيس الحنان والحرمان .
رثاء البصر :
تصور الشاعرة عظمة نعمة البصر، فكل ذهب الدنيا لا يعادلها :
فَدا لِلعَين مِني كُل عَـــــــــــــــــــــين وَما في الكَون من ذَهَب وَعين
أَرى الظُلماء قَد حجبَت عياني وَأَجرت مِن دُموعي كل عَين
وعندما فقدت بصرها أصبحت لا ترى إلا الظلام ، وكأنها في سجن يوسف ، وتقسم بأنها ستجود بكل ما تملك يدها إذا أعاد الله عليها نعمة البصر :
وَأَلقتني بســــــــــــــــــــــــــــجن يوسفىّ وَحـــــالَت بَينَ أَفراحي وَبَيني
وَأقسم اِن تحقق لي شَـــــــفاها لجدت بِما أَرى في الراحتَين
فَقَد أَصبَحت في حُزن وَأَن وَقَلبي بَين اِتعـــــــــــــــــــــــاب وَأَين
وَما أَهدت صبا الأسحار نَوماً إلى عَين غَدَت في أَسر غين
يقلب في دثار السَقم جِسمي كَأَني فَوق جـــــــــمر الحرتين
تخالفت الأساة بطول وَعــــــــــد بعللني وَيأس فيــــــــــــــه حيني
وَمن فظ يهددني جـــــــــــــــــهاراً بمبضعه المصوب في اليَدين
وَعهدي بِالمياه حياة نَفسي فَمالي قَد ظَمئت بماء عَيني
فَيا لِلَهِ أَي سَنا وَضوء أُصيب بكل عادية وَشين
فَهل هي في سَبيلِ اللَهِ غازَت فَذاقَت بِاللُقا ظُلم الحسين
فَكَم أَمسى بِما أَلقى حَزينا وَبَينَ النوم معترك وَبَيني
وتصور مبيتها إذا جاء الليل وتشبه نفسها بالخفاش الذي لا يأنس إلا بوحشة الظلام :
أَبيت وَمؤنسى الخفاش لَيلا ً وَحالي مَعه شر الحالتَين
فَذاك بنور عَينيه مهنا وَلي أَسف بحجب المقلَتين
وإذا أسدل الظلام سجوفه رفعت أكفّ الضراعة إلى الله تبتهل إليه بأنه يكفيها شرّ الظلمتين :
وَأَبسط لِلظَّلامِ أَكف بثى وَأَشقى لوعَة بالظلمَتَين
تَراني معرضاً عن كل ضوء فَهَل خاصَمت نور النيرَين
يُنافرني السَنا فَأَفر مِنه كَأَن الضوء يطلبني بدين
وَأَجنح لِلظَّلامِ جنوح صب دَنا لِحَبيبِه بِالرقمَتَين
وتعلن رضاها بقضاء الله وقدره ، فالألم مدرسة القلوب :
جَزى اللَهُ السِقام جزاء خير فَقَد هذبنني ونَأَزلن ريني
وَصرت بِما لقيت من اللَيالي أَفرق بَين ذي صدق وَمين
حرمت مقاصدي َمنعت عما تَميل لحسنه نفسي وَعَيني
اِذا رمت اِنتِشاق الطَيب يَوماً وَضعت يدي فوق الحاجبين
وَناهيكَ الطاء سجل كتي وَتركي لِلحَديث بحسرَتين
وتدعو ربها أن يكشف ضرّها ، وترسل العبرات حزنها على نعمة البصر :
وَقَد عفت الأَساة وَعدت أَرجو طَبيب الكون رب المَشرِقَين
الهي سيدي غوثي رَجائي عياذي عدتي ومزيل بيني
نعاني أَبيض القرطاس لما جَفاني اليَوم نور الاسوَدين
وَقَد جفت دواتي وهي تَبكي لما قد راعها من طول أَيني
وَأَقلامي كم انشقت لأني حرمت مساسَها بِالأصبَعَين
غَدَوت اليَومَ أَميا وَعَلى أَقضى من فُنون الكُتُب ديني
فجهلي عبرة وَالسَقم أَخرى وَعَيني قَــــــــــــد أَرَتني العِبرَتَين
فَلَم لا أَنعى بِالحَسراتِ حالي وَتَعـــــــــــــلو زفرتي لِلفرقَدين
وبعد :
إن الشاعرة عائشة التيمورية قد ذكرتنا بدور المرأة المسلمة في فجر الدعوة الإسلامية، فهي تحمل بين جنبيها روح الإسلام، وصفاء عقيدة التوحيد ، وتتسلح بالتقوى؛ لأنه السلاح الأقوى، وتتحلى بالأمل، وتهجر اليأس، لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
مصادر البحث :
– أصداء الدين في الشعر المصري الحديث : 1/ 101 .
-الشعر النسائي العصري ، محمد محمود : ص 13 ، 14 .
– الحجاب ، يوسف الحاج أحمد : ص 55 .
-الشعر النسائي العصري وشهيدات نجومه – مكتبة الوفد – القاهرة .
-مجلة الأديب – عدد مارس 1958م .
-شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي – العقاد .
-تاريخ الاسرة التيمورية 85 والدر المنثور 303 وبلاغة النساء 86 ومشاهير الكرد 2: 239 ومعجم المطبوعات 1256 و. Brock S .2:724.
-الدرر الكامنة 2: 237.
-فهرس المؤلفين بالظاهرية (ط) .
-الزركلي: الأعلام 4: 5، 6 .
-زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية 4: 248، 249 .
-معجم تراجم الشعراء الكبير : 483 .