الشهيد المبدع قاسم عبد الأمير عجام .. والمذكرات الدرس
إشارة : في يوم أسود من أيام الثقافة العراقية ، أغتيل الربيع الثقافي كما كنا نسميه ، أبو ربيع – المبدع الإنسان العراقي الغيور “قاسم عبد الأمير عجام ” على أيدي قتلة أوغاد. إنسانا كان قاسم أباً حانياً وأخاً كبيراً وصديقاً صدوقاً للجميع وبلا استثناء. ومبدعا كان قاسم أنموذجا للمثقف المهذب المتحضر المتسامح الصبور الداعي أبدا إلى الحوار وعدم التعصب. إن ما أخاف الأوباش في أبي ربيع هو هذا الربيع الإنساني الدائم أيضاً. من ينسى الإبتسامة الحيية الدائمة والنظرة الحنون شبه المنكسرة والخدّين المتوردين وكأنه خَجِلٌ من وقوف إنسانيته العظيمة عند حدود لا يستطيع تعدّيها. أبا ربيع ، أخي الحبيب ، دمتَ في عليين …
في مذكراته عن يوم 6/4/2003 وتحت عنوان (رتل الكلاب المسرّفة) كتب الصديق الشهيد الحبيب أبو ربيع (قاسم عبد الأمير عجام ) الذي اغتالته أيدي الإرهاب الآثمة يوم 17/5/2004 يشرح المعاناة العاصفة التي ألمت به وهو يرى رتل دبابات الغزاة يطأ تراب مدينته المقدس ( ناحية المشروع ) :
(فاضتْ روحي بالآلام ، وهممتُ مسرعا لأفتح الباب الخارجي فأنظر إلى رتل الغزاة … فلحقني أحد أبنائي ليعيدني إلى الداخل محذرا من عدوانيتهم المتناثرة . سحبني إلى الداخل واستجبتُ له فقد كنت موقنا أن كل غضب الدنيا وحزن كل العراق يشتعلان في عيوني ، وكنت مشتعلا بكل لعنات الصبر والتحمل على من أوصل الوطن إلى هذه اللحظة مما كان لابدّ له أن يدفعني لحركة ما أو فعل ما : بصقة كبيرة عليهم – على الأقل – أو حجارة هي أثمن من كل الحديد الراعد الذي جاءوا يرهبوننا به ، مما كان سيجعلني عرضة لوحشيتهم أو هستيرياتهم .. فعدتُ وارتكنتُ إلى جدار بيتي أدقّ عليه رأسي التي أثقلها الغضب الحزين أو الغضب المأسور بكبت السنين ، ثم لم أطق صبرا حتى على تلك الوقفة المنكسرة فصرت أدور حول مبنى بيتي – القابض على الجمر – ص 419).
ومن يعرف سيرة حياة الشهيد أبي ربيع سيتأكد أن هذه المذكرات هي درس في التربية الوطنية . لقد كان قاسم شيوعيا معروفا وقد تعرّض بسبب انتمائه هذا للسجن والتعذيب والملاحقة منذ الستينات ، ومُنع عليه حتى العمل وفق شهادته وكفاءته العالية المعروفة .. وصل حاله حدا – كما يكتب يوم 20/2/1967 – أن يُصاب بالإكتئاب لأنه لا يملك حتى مبلغ مال يمكنه أن يذهب لمقهى دون أن يضطرب حاجة وعوزا ، وموعد محاكمته يقترب : فهل أذهب إلى المجهول خالي الجيب وإلام سأظل أستدين ؟ ).
وفي السبعينات حيث كان يتوقع أن يكون حاله أفضل حوصر سياسيا وفُرضت عليه البراءة بطريقة خانقة ومذلة صار يعد نفسه فيها الميت الحي : كتب في 6/1/1979 :
(في البيت التقينا بشقيقتي وزوجها وأطفالها ، وكان البيت ميدانا للركض وملعبا للكرة . لكن الطاحونة دارت . الحديث إياه : إستسلم استسلم يا أبا ربيع فما عادت المقاومة تجدي ، إخلد إلى الهدوء وانعم بالبركة فالكل فعلوها قبلك ، والصغار سجلوا في (الطلائع) وأمهم بدأت عملها في الحزب ، وسينضم أبوهم غدا ، فمتى ستفعلها أنت ؟ القرار ، واضح . الكل في حزب الدولة ولا غيره منبر أو كيان أو حركة . وكالعادة أضافت لهم السيدة الوالدة مقولاتها المعتادة ورغبتها في الأمان وراحة البال وحاجتهم إلى سلامتي وبدأت تعيد قصص من عُذبوا حتى الموت .كفى كفى . ودارت في الذهن أحاديث البارحة مع عديلي ، مطاردته حتى إرغامه على (التوقيع) – آه من التوقيع – قلقهُ على أخته الطالبة الجامعية ، صور التعذيب التي حدثوه عنها ، وتهديده باختطاف ابنته الطفلة الوحيدة وربما زوجته .. و ..و . غادروا مساء . تمنوا لي السلامة والصبر على المكروه ، فودعتهم وعدتُ أجتر همومي مذهولا : كيف وصلت إلى هذا المنعطف ؟ كيف أصبح ممكنا أن أفكر أنا ، أنا ، بإمكانية ولوجه ؟ مَنْ مِنّا الجبان ومن منا الشجاع ؟ الذي يموت تحت التعذيب وهو يدري أنه كان يركب سفينة مخروقة أم الذي يقرر الانتقال إلى سفينة أولئك الذين حاصروا السفينة الأولى ودفعوها نحو الهاوية ؟ ولكن هل يستطيع أحد أن يقرّر ؟ وهل بمستطاع أحد في بلادنا أن يقرّر لنفسه موقفا ؟ لست أدري شيئا ، ولا أعرف إلا أني حوصرتُ في عنق الزجاجة وأن الحياة ما عادت ممكنة بدون ركوب سفينة الحزب الحاكم ، القرار صريح أن تركب معنا أو تغرق في بحر الدم والعذاب ، ولست أريد أن أخسر الحياة في معركة خاسرة مقدما من أجل ناس تنازلوا عن سبب المعركة وأهدافها . فمازال في القلب والرأس طموح بالعمل والخدمة . نعم ، الخدمة العامة ، والإبداع والسعي إلى حياة أخرى أجمل وأنظف – ص 166).
ثم كتب في 11/1/1979 :
(أخيرا ، وقع المحذور . جاء أحد (زوّار الفجر) واقتادني إلى المركز ومنه إلى المقر حيث مات الذي أحكي لك قصته ، وخرج من عنق الزجاجة شخص آخر مخذولا مذهولا يتلمس طريقا جديدا . فيا للحياة في هذا البلد من مهنة شاقة – ص 167) .
مُنع من إكمال دراسته العليا . وسِيق في قواطع للمهمات الخاصة في الجيش الشعبي رغم كبر سنه لفترات متطاولة ذاق فيها عذابات جسيمة وتعرض للموت أكثر من مرة ( راجع يومياته في المبحث الثاني ( من يوميات الحرب ) على الصفحات 181-330) وذاق مرارة فجيعة الإنسحاب المُذل عام 1991 . ثم عانى العوز الشديد في سنوات الحصار العجاف ، لتتوج مسيرة عذابه باحتلال بغداد الأم وحرقها وسلبها على أيدي الرعاع وعملاء الأجنبي الذين سبقوه وأعضاء جيش (إنطوان لحد) كما يقول –راجع الصفحات الخطيرة في المبحث الرابع : من يوميات المخاض الأخير، ص 397-449)..
وبرغم هذه المحاصرة والإذلال والمهانة والجوع والعوز والإجحاف يحاول قاسم – كما يصف حاله بحرقة - الهجوم على الأمريكان الغزاة بيديه العاريتين الكريمتين أو البصاق عليهم .. وعندما لم يفلح صار يضرب رأسه في الحائط . نسمع عن البعض من آكلي أثداء أمهاتهم دُربوا على استقبال الغزاة ورمي الورود عليهم. موقف الشهيد قاسم عجام ومذكراته التي تعكس روحه الوطني الغيور هي درس في التربية الوطنية التي تعرّضت للتشويه القاسي عبر عقود طويلة حتى صار المواطن العراقي لا يميز بين العراق الخالد والحاكم الفاني ، ولا بين أرض وطنه ومقر الحزب . أدعوا إلى نشر هذا الكتاب بأوسع صورة وأن يُحفظ في المكتبات المدرسية والعامة وأن تُعقد الندوات الموسعة لمناقشته واستقاء الدروس والعبر منه . وفي الختام لابد من تحية وافرة للدكتورة (نادية غازي العزاوي) التي بذلت جهدا هائلا في جمع هذه المذكرات والتقديم لها بمقدمة وافية محبة ، ولدار الشؤون الثقافية التي أصدرته بحلة جميلة تذكرنا بأيام مجدها الطباعي والفكري . (القابض على الجمر – من مذكرات ويوميات الشهيد قاسم عبد الأمير عجام – (1945-2004)- دار الشؤون الثقافية- بغداد- 2009).
في ختام يوميات يوم 3/8/1986 ، يتساءل قاسم:
(أيّة حياة تمضي بالعراقي أو يمضي بها ؟ لعلها ستبقى وإلى أمد بعيد أحد الأسئلة التي ستتعب كثيرا من علماء الاجتماع والنفس حين يطلون على سجلنا هذا).
ومن الغرائب أن مذكرات الشهيد قاسم عجام قد كَتبَ رسالةَ توصيةِ نشرها الشهيد (كامل شياع) .. فأية حياة حياة العراقيين هذه ؟ وإلى أين تمضي بنا ؟ .
ملاحظة:
نُشرت هذه المقالة في 24 – 3 – 2011 وأ‘يد نشرها الآن في ذكرى استشهاد الناقد والمفكر "قاسم عبد الأمير عجام"
وسوم: العدد 824