عن الإمام البنا
الشيخ محمد الغزالي
الإمام الشهيد حسن البنا
القائد المربي:
"كان (حسن البنا) - حيث حل- يترك وراءه أثراً صالحاً، وما لقيه امرؤ في نفسه استعداد لقبول الخير إلا وأفاد منه، ما يزيده صلة بربه، وفقهاً في دينه، وشعوراً يتبعه نحو الإسلام والمسلمين، والرجل الذي يشتغل بتعليم الناس لا يستطيع في أحيانه كلها أن يرسل النفع فيضاً غدقاً، فله ساعات يخمد فيها، وساعات يتألق وينير.
إن الإشعاع الدائم طبيعة الكواكب وحدها، وقد كان (حسن البنا) في أفقه الداني البعيد، من هذا الطراز الهادي بطبيعته لأن جوهر نفسه لا يتوقف عن الإشعاع.
سل الألوف المؤلفة التي التقت به.. أو التي أشرق عليها الرجل في مداره العتيد، ما من أحد منهم إلا وفي حياته ومشاعره وأفكاره أثر من توجيهات حسن البنا، أثر يعتز به ويغالي بقيمته ويعتبره أثمن ما أحرزه في دنياه.
التقيت بالإمام الشهيد لأول مرة وأنا طالب في معهد الإسكندرية، وكنت شاباً تجتذبني دواعي التقى والعفاف، وتناوشني مفاتن الحضارة الوافدة من وراء البحار، فكانت الغرائز المستثارة تدخل في مضطرب مائج مع إيحاء الإيمان الموروث، واتجاهات الدراسة التي نتلقاها في علوم الدين.. ونحن جيل مخضرم تلتقي في حياتنا تيارات متعارضة، وما كان يعلم إلا الله ما يجول في قلوبنا وألبابنا من أسى وتعقيد.
وقد أورثتني معاناتي السابقة لهذه الأحوال تقديراً لمشاكل الشباب، ورقة شديدة لما يمرون به من أطوار، ثم أدركت أن الوعظ المجرد والتعليم العابر لا يجديان كثيراً، وعندما استمعت إلى (حسن البنا) لأول لقاء تكشفت لي أمور كثيرة لا بد منها في صحة إبلاغ الرسالة وإمكان النفع الكامل بها.
ليس الداعية إلى الله، أداة ناقلة، كالآلة التي تحمل سلعةً ما من مكان إلى مكان، وليست وظيفته أن ينقل النصوص من الكتاب والسنة إلى آذان الناس، ثم تنتهي بعد ذلك مهمته.
كانت لدى (حسن البنا) ثروة طائلة من علم النفس، وفن التربية، وقواعد الاجتماع، وكان له بصر نافذ بطبائع الجماهير، وقيم الأفراد، وميزان المواهب.. وهذه بعض الوسائل التي تعين على العودة وليست كلها.
والوسيلة التي تعتبر طليعة غيرها، ولا تؤتي الدعوة إلى الله ثمارها كاملة إذا لم تتوافر لها، هي إلهام الله للداعية أن يتخير موضوعه المناسب، وأن يصوغه في الأسلوب الذي يلقى هوى في أفئدة السامعين، ويترك أثره المنشود في نفوسهم وأفكارهم.
إن القذيفة قد تنطلق، كاملة العناصر، تامة القوة، ولكنها تقع بعيدة عن مرماها، فتذهب هدراً، وما أكثر الخطباء الذين يرسلون من أفواههم حكماً بالغة تنطلق هنا وهناك، كما ينطلق الرصاص الطائش، لا يصيب هدفاً ولا يدرك غرضاً.
و(حسن البنا) كان موفقاً في اصطياد الرجال، وكانت كلماته البارعة تأخذ طريقها المستقيم إلى عقولهم فتأسرها، وذلك أمر يرجع إلى المهارة الخاصة، واقتياد الكلمة من فم القائل إلى شغاف قلب السامع يمكن أن يقال فيه: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (الأنفال:17).
وقد سمعت بعض تلامذة الإمام البنا يرددون المعاني نفسها التي كانت تجري على لسان الرجل ويستحيل أن تجد في كلامهم عوجا، ومع ذلك فإن الفتح بها محدود، إن السماء وحدها هي التي تضع للإنسان القبول في الأرض، وقد كان (حسن البنا) ملاحظاً بعناية الله من هذه الناحية الهامة.
ويوجد في العالم الإسلامي رجال في مثل علم الإمام الشهيد، وربما كان لهم قلمه وأداؤه، ولكن التوفيق الذي صاحب دعوة (حسن البنا)، والنجاح الباهر الذي صادفه لم يلقه غيره مع تشابه الأداة:
إن السلاح جميع الناس تحمله وليس كل ذوات المخلب السبع
وقد بدأ (حسن البنا) يربي الجيل الجديد للإسلام على الأساس الذي وضعه للنهوض به، إنه يريد تكوين دولة إسلامية، وإقامة حكم شرعي رشيد، فسلك إلى هذه الغاية الطريق الوحيد الذي ينتهي بها وإن طال المدى، وتراخت الأيام، وكثرت التكاليف.. طريق التربية الإسلامية.
وكان الساسة في ميدانهم قد هجروا القرآن، فما تدور على ألسنتهم آياته، وما تعرف في أعمالهم توجيهاته، فإذا بهم يسمعون في ميدان السياسة واعظاً يقرأ القرآن ويستهدي بمنار السنة، وكان الطيبون من أهل الخير قد نسوا في العزلة التي رمتهم الحضارة الغربية فيها، أن للإسلام شريعةً تحكم، ودولةً تسود.. فإذا بهم يسمعون في الصوامع والمساجد رجلاً يحدثهم عن سياسة الدنيا باسم الله ويسوق حشداً من النصوص الحاسمة تدفع الصالحين إلى إصلاح ما فسد حولهم من شؤون الأمة ومراسيم الدولة.
.. و(حسن البنا) يعلم أن المسلمين هزموا في مواقع شتى، كسرت شوكتهم في القرن الأخير، ومكّنت الغرب الكافر من ملاحقتهم في عقر دارهم بالإهانة والتسخير.
وعرف الرجل أسباب الهزيمة، معرفةً دقيقةً، إن النفوس قد تحللت بالمعاصي، والجماعة قد انحلت بالإسراف، والدولة قد تهدمت بحب الدنيا وكراهية الموت.. ومن ثم انتصر الكافرون، فيجب أن تقوم النفوس بالطاعة، وأن يحارب الإسراف والترف بالاقتصاد والاجتهاد، وأن تعلم الأمة الإقبال على المخاطر لتسلم لها الحياة، وأن يتم ذلك كله على دعامة موطدة من قوة الصلة بالله تشق الحناجر بهذا الدعاء (ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) (آل عمران: 147) ومن ثم ينتصر المؤمنون.
وقد حار أصدقاء (حسن البنا) وأعداؤه في فهم هذه السياسة الجديدة، وتضاحك أهل الدين وأهل الدنيا ممن يبني الانتصار على الاستغفار.. وحق لهم أن يضحكوا ساخرين.
أما الماديون من أهل الدنيا فهم يحسبون ذلك دجلاً لا طائل تحته.. وأما غيرهم فقد وقر في نفوسهم أن اللجوء إلى الله لا يكون إلا قرين العجز، وأثر السلبية المطلقة في علاج الأمور، وقلما يسأل أحدهم ربه إلا وهو محصور محسور.
إن هؤلاء يحسبون الإنسانية مع خالقها كالابن العاق مع أبيه الغني لا يرجع إليه إلا مضطراً، عندما تفرغ يداه من النقود، ولو فقهوا الآية السابقة: (ربنا اغفر لنا ذنوبنا....) لعرفوا أن قائليها كانوا صفاً مناضلاً في حومة الوغى تصرع من حولهم رسل الحق انتصاراً للحق وتفانياً في حمايته، ومع شدة ما يلقون – في ذات الله – من محن يثبتون ويؤدون واجبهم على خير الوجود: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا).
على هذه الصخرة من علاقة الفرد بربه، علاقة إنتاج وإقبال واستغفار، لا علاقة كسل وإدبار وانهيار، كان البناء حسن يجمع اللبنات الجديدة لإعادة ما انهدم من أركان الحكم الإسلامي النظيف.
وما صدق الناس سلامة هذا الاتجاه في التربية، حتى شهدت بادية الشام وشطآن القناة أحفاد خالد وأبي عبيدة وابن العوام وابن الصامت، صوراً متشابهة تتكرر بها معجزة رسول الله في الآخرين كما بدأت في الأولين.
منذ أيام مشيت في جنازة الشهيد (عمر شاهين) ثم سبحت بي الذكريات إلى أيامنا الماضية وارتسمت أمام عيني صورة الإمام الشهيد (حسن البنا) فقلت لنفسي: إن الذي علم هذا الشاب كيف يستشهد في سبيل الله هو (حسن البنا)، وقد سبقهم الرجل في سلوك الطريق التي رسمها فما كذبهم، ولا كذبوه، وأعدت النظر إلى الشباب الناصع الجبين من حول الجنازة المتهاوية إلى الجنة ثم تلوت قول الله: (من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) (الأحزاب: 23).
***
غصن باسق في شجرة الخلود
"في وحشة الليل وسَوْرَةِ الغدر ويقظة الجريمة، كان الباطل بما طبع عليه من غرور، وما جُبِل عليه من قسوة، وما مرد عليه من لؤم، كان مستخفياً ينساب في أحياء القاهرة الغافلة يجمع سلاحه، ويبث عيونه، ويسوق أذنابه مع الكبار والصغار ويعد عدته لكي يغتال (حسن البنا).. مرشد الإخوان المسلمين.
وليس قتل الصديقين والصالحين في هذه الدنيا بأمر صعب!
إن القدر أذن بأن يعدو الرعاع قديماً على أنبياء الله، فذبحوا وهم يحملون أعباء الدعوة، أفكثير على من تلقوا هذه الأعباء قبل أن تسقط على الأرض أن يردوا هذا المورد؟
بلى ومن طلب عظيماً خاطر بعظيمته، ومن هوان الدنيا على الله أن ترك كلاب المترفين فيها تشبع مع المترفين.
سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رجلاً يقول: اللهم آتني أفضل ما أتيته عبادك الصالحين!! فقال: "إذن يعقر جوادك ويراق دمك.." حتى الجواد يقتل مع صاحبه... لقد أصابه من الشهادة مسها القاني، ولو كان مربوطاً بعربة بضاعة لعاش دهراً.
وكذلك أبى ربك أن يسترجع إليه المختارين من عباده - بعد ما أدوا رسالتهم في الحياة- وهم وافرون آمنون، نعم.. أبى أن يتركوا هذه الحياة سالمين من طعناتها الفاجرة، وجراحاتها الغادرة، فمزق علج من المجوس أحشاء عمر، وعدا مأفون غر على حياة علي، وقتل يزيد الماجن سبط الرسول الحسين، وتآمرت دولة الأوغاد على قتل حسن البنا، ولن تزال سلسلة الشهداء تطول حلقةً حلقةً ما بقي في الدنيا صراع بين الضياء والظلام.
عفاء على دار رحلت لغيرها=فليس بها للصالحين معرج
كدأب علي في المواطن قبل=أبي حسن والغصن من حيث يخرج
لقد قتل (حسن البنا) يوم قُتل والعالم كله أهون شيء في ناظريه، ماذا خرقت الرصاصة الأثيمة من بدن هذا الرجل؟ خرقت جسداً أضنته العبادة الخاشعة، وبراه طول القيام والسجود، خرقت جسداً غبرته الأسفار المتواصلة في سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة إلى أقاصي البلاد، رحلات طالما عرفته المنابر فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم ألوفاً في ساحة الإسلام! لقد عاد القرآن غضاً طريّاً على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله. ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت في سفحها أمواج المادية الطاغية، وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذي أفعم قلبه حبّاً للإسلام واستمساكاً به..
وعرفت "أوروبا" البغي أي خطر على بقائها في الشرق إذا بقي هذا الرجل الجليل، فأوحت إلى زبانيتها.. فإذا الإخوان في المعتقلات، وإذا إمامهم شهيد مضرج في دمه الزكي!
ماذا خرقت الرصاصة من جسد هذا الرجل؟
خرقت العفاف الأبي المستكبر على الشهوات، المستعلي على نزوات الشباب الجامحة.
لقد عاش على ظهر هذه الأرض أربعين عاماً لم يبت في فراشه الوثير منها إلا ليالي معدودة، ولم تره أسرته فيها إلا لحظات محدودة، والعمر كله بعد ذلك سياحة لإرساء دعائم الربانية، وتوطيد أركان الإسلام، في عصر غفل فيه المسلمون، واستيقظ فيه الاستعمار، ومن ورائه التعصب الصليبي، والعدوان الصهيوني، والسيل الأحمر! فكان حسن البنا العملاق الذي ناوش أولئك جميعاً حتى أقض مضاجعهم، وهدد في هذه الديار أمانيهم.
لقد عرفت التجرد للمبدأ في حياة هذا الرجل، وعرفت التمسك به إلى الرمق الأخير في مماته، وعرفت خسة الغدر يوم قدم رفات الشهيد هديه للمترفين والناعمين، كما قدم- من قبل- دم علي مهراً لامرأة.
عجباً لهذه الدنيا وتبّاً لكبرائها، ووارحمتاه لضحايا الإيمان في كل عصر ومصر! أكذلك يقتل الراشد المرشد؟؟
ودعا أيها الحفيان ذاك الشخص
إن الوداع أيسر زاد
واغسلاه بالدمع إن كان طهراً
وادفناه بين الحشا والفؤاد
وخذا الأكفان من ورق المصحف
كبراً عن أنفس الأبراد
أسف غير نافع واجتهاد
لا يؤدي إلى غناء اجتهاد".
***********
يقول الشيخ "محمد الغزالي"
في إحدى مقالاته:
ألتقيت بالأستاذ الإمام (حسن البنا) قبل يوم من استشهاده، وعانقته، وأفزعني أن عانقت عظاماً معلقة عليها ملابس! كانت الهموم قد اخترمت جسد الرجل، فلم تبق منه إلا شبحاً يحمل وجهه المغضن (أي المكدود) العريض.
وشرع يحدثني كما يحدث أي تلميذ له، قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت بالجماعة إلى أيام (المأثورات).