الشيخ محمود مشوح: جور اللسان على القلم
في أواخر القرن العشرين، ومع إطلالات قرن جديد على البشرية ودعت الأمة ثلة من علمائها ورموزها الذين شكلوا تجديداً لدينها في مراحل عسيرة مرت عليها، كالشيخ علي الطنطاوي والشيخ مصطفى الزرقا وغيرهم عليهم رحمة الله أجمعين، هؤلاء من عرفهم الناس.
لكن هناك من رحل بصمت وهدوء ولم يعرفه الكثير رغم ما يمتلكه من إمكانيات لا تقل عمن رحلوا إذا لم تزد، ورغم ما قدم للأمة الإسلامية من جهد وجهاد وأفكار في خدمة هذا الدين وهذه الأمة، وهذا هو الحال مع الشيخ محمود مُشوح رحمه الله.
الهجرة وتأسيس المسجد
في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي نزح من العراق وبالتحديد من مدينة (عانة) رجلٌ يدعى محمد شريف آل غازي، واتجه صوب الأراضي السورية ليستقر في مدينة صغيرة على نهر الفرات تسمى بالميادين، والمعروفة بالتاريخ العربي (برحبة مالك بن طوق)، وكان أول ما فعله هذا الشخص هو بناء مسجد إلى جوار بيته ثم الزواج والإقامة في هذه المدينة بعد طول ترحال وسفر ولقب هذ الشخص مُشوح. كان هذا هو جد الشيخ محمود، أما والده فهو الشيخ عمر مشوح الذي كان مفتي هذه المدينة الصغيرة وخطيب هذا المسجد، يلجأ إليه أهالي المدينة البسطاء في الفتوى العرفية والشرعية.
في هذا الجو البسيط والهادئ وبين جنبات المسجد وحلقات الفتوى وخطب الجمعة الرنانة ولد ونشأ الشيخ محمود مشوح في عام 1929م، حيث تلقى علومه الأولية في مدرسة المدينة، وتتلمذ على يد والده شيئاً من العلوم الشرعية لينتقل بعدها إلى دمشق ليدرس في مدارسها المختصة العلوم الشرعية إلى أن تأتي اللحظة الحاسمة في حياته والتي يتحدث عنها بنفسه قائلاً:
مفتي في السابعة عشرة!
"انتقلت إلى الكلية الشرعية في دمشق، فقضيت فيها عامين ونصف العام طالباً مجداً نشيطاً، بالرغم من أنني لم أكن أرغب في هذا اللون من الدراسة – لأنني كنت أحب أن أتخصص في دراسة الأدب العربي، ولكن وفاة والدي في منتصف عام 1945م، ورغبة من حولي في أن أخلفه في منصب الإفتاء فرض عليّ الانقطاع عن الدراسة – وعملت معلماً في المدرسة الابتدائية في بلدتي لمدة عام واحد.
وفي منتصف عام 1946م عُينت مفتياً في منطقة الميادين خلفاً لوالدي" ومن هنا حمل الشيخ مسؤولية عظيمة بتقلده الإفتاء وعمره سبعة عشر عاماً فقط، وهذا ما أشعر بثقل الأمانة وعظمها وفرض عليه القراءة والدراسة الذاتية مع نفسه.
ويقول شارحاً عن حاله لما ألقيت عليه هذه المسؤولية: "منذ بلغت السادسة عشرة من عمري لم أجلس من أحد مجلس التلميذ من الأستاذ، ولم أتلق تعليماً منهجياً، ولم أحصل على أية درجة علمية عالية، ولكني واجهت مسؤوليات الإفتاء بما تحتاج إليه من علوم معمقه ومتشبعة، وأرجو أن أكون قد أديت أمانة المنصب على نحو مقبول، ولقد ساعدتني بلدتي الطيبة بهدوئها النادر، وناسها الذين غمروني بحبهم وثقتهم على أن أصنع لنفسي المناخ العلمي الذي هيأ لي أن أتعلم الكثير في وقت قصير جداً، ولقد منّ الله علي بحافظة قوة وذهن لماح كان أمضى سلاح واجهت به مسؤولياتي العلمية".
رفيقاً لأبي العلاء!
لم تكن العلاقة بين الشيخ محمود مشوح وأبي العلاء المعري مجرد "رفقة قرائية" تنتهي بانتهاء الشيخ من قراءة أشعاره ورسائله، ولكنها تجاوزت ذلك لتصل إلى حد التمازج الفكري والأدبي والتمثل به وبأفكاره في مواقف كثيرة.
وفي إنتاجات كثيرة للشيخ ترى فيها روح أبي العلاء عندما تقرأ أو تسمع له، وكأنما أبو العلاء حل في الشيخ محمود مشوح لما يُقارب النصف قرن، فحين تسمع خطب الشيخ المنبرية تراه يستشهد كثيراً بأبي العلاء في أغلب الخطب وربما أكثر من مرة في الخطبة الواحدة.
ونرى هنا قصيدة كتبها الشيخ عام 1962م – وهو العام الذي ترك فيه كتابة الشعر نهائياً – ووجدت بين أوراقه بعد وفاته وعنوانها (هذيان) حينما تقرأ يخيل إليك أنك تقرأ قصيدة لأبي العلاء المعري، فأنت هنا تلاحظه في أفكاره وفي نظرته للحياة والناس بل إن هناك بعض الأدبيات المتشابهة كقول الشيخ:
سواء فقل أنت ما
وعلمي بهذا كجهلي به
خطبنا
كلا الأخوين سواء
فإن العليم وإن الجهول
هنا
وفي المقابل نعرف البيت المشهور لأبي العلاء:
قريب حين تنظر عن
وما العلماء والجهال إلا
قريب
ويضيف الشيخ قائلاً: "إن الرجل عاش مجهولاً في عصره، فمن أجل ذلك عاش ومات مهضوم الحق".
ولعل هذه الجملة الأخيرة التي وصف بها الشيخ محمود أبا العلاء المعري هي خير وصف وأصدق مقال عن الشيخ محمود مشوح الذي عاش مجهولاً ومات مهضوماً، مع الفارق الذي جعل أبا العلاء المعري من أعلام الشعر العربي اليوم ولكن بعد وفاته، فيما لم يزل الشيخ محمود مجهولاً ومهضوماً حتى الآن وبعد خمسة أعوام من وفاته.
الكتابة للنيران!
لقد ظل الشيخ محمود مشوح يخطب لعقود عديدة على المنبر الذي كان مجمع أفكاره ومنطلق لسانه وبيانه لذلك كان إنتاجه سمعياً في الغالب مع القليل المقروء الذي لم يُعرف الكثير منه إلا بعد وفاته.
يحدثنا الشيخ عن أسباب ذلك فيقول: "لقد لاحظت أثناء دراساتي المنهجية والخاصة أن من الناس من لا يدقق فيما يكتب أو يقول كما ينبغي". وجاءت هذه الملاحظة في وقت مبكر جداً ذلك بأنني منذ البداية وبالرغم من أنني قارئ نهم، فأنا قارئ ناقد أفكر طويلاً فيما أقرأ وفيما أسمع، وأنا أعلم أن الكلمة المكتوبة لها في أذهان الناشئة محل القداسة والبداهة التي تعلو على النقاش، وإذا وجد خطأ في الكلمة المكتوبة فسيعيش طويلاً في عقول الناشئة، وسيحتاج إلى جهود مضنية لتصحيحه.
أما السبب الثاني – فهو "أني أصبت بضعف في العيون في سن مبكرة، فاضطرت إلى أن ألقي الخطب، وأقرر الدروس دون الاستعانة بشيء مكتوب، واستمرت هذا الحالة عشرات السنين فكان من ذلك أن جار اللسان على القلم".
وخوفه من الكتابة جعل النيران تلتهم أشياء الشيخ خلال حياته، ولا أدل على ذلك – كما أخبر في حديث شخصي لأحد المقربين منه – أنه كتب مجموعة ممتازة في نظريات العمل للحركة الإسلامية، لكنه تفاجأ لما أرى الوسط الإسلامي الذي سيقدم إليه هذه النظريات بعدم اهتمامه وبكثرة قوله وقلة عمله وانصرافه عن نفسه، فما كان منه إلا أن رماها للنيران وهو ينظر إليها تحترق بأسى وحسرة.
ولعل الشيخ أدرك خطأ بعدم الكتابة وبالكتابة للنيران لما رأى عدم استفادة الناس وعدم فهمهم لما يقول.
خطيب فوق العادة
من يستمع لخطب الشيخ – رحمه الله – يعجب لما يراه من القوة والبلاغة والبيان وسيزداد عجبه إذا علم أن الشيخ لا يخطب إلا مرتجلاً كشأن الخطيب الحقيقي.
وأكثر من ذلك أن خطبه تكون في الغالب ملتقى الثقافتين القديمة والحديثة، التراث والعلم الحديث، الأفكار الغربية والشرقية، فهو ينتقل بك من الأحاديث النبوية وأقوال السلف والمفسرين إلى النظريات الفلسفية القديمة والحديثة إلى أخبار وتفاصيل الحرب العالمية الثانية إلى وقائع الثورة الفرنسية وأقوال وأخبار فلاسفتها ومفكريها وإسقاط ذلك كله على واقع الأمة الإسلامية والسبيل في الخروج من أزمتها المعاصرة.
رغم أن مساء السبت التاسع والعشرين من يناير من عام 2000م كان موعد الرحيل عن هذه الدنيا فإن العطاء الحقيقي للشيخ محمود مشوح – رحمه الله – كان قد توقف عام 1985م بمنعه رسمياً من الخطابة ثم المرض الشديد الذي أقعده في بيته إلى يوم وفاته.
وبالرغم من ذلك فقد خلف مئات من الأشرطة المسجلة التي تحوي خطبه – مجمع فكره وبيانه – وعشرات المقالات والقصائد والتحقيقات، ومشروعاً فكرياً للأمة ربما لم يكتمل، ولكنه بالتأكيد يحوي الكثير من القضايا المهمة التي تناقش حاضر ومستقبل الأمة الإسلامية.
وبالإضافة إلى خطب تفسير القرآن طرح سلسلة خطب لقضايا مهمة كالعلم والعنف والإرهاب وعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وغيرها، إلا أن هذه الخطب ما تزال بانتظار من يحققها ويراجعها وينشرها على نطاق أوسع مما هي موجودة عليه الآن.
القرآن الكريم .. الزاد والطريق
جُل خطب الشيخ محمود مشوح كانت في تفسير القرآن الكريم.. إذ قام في المرة الأولى بتفسيره بحسب الترتيب المعروف للسور في المصحف، ثم بدأ منذ عام 1976م بتفسيره حسب ترتيب النزول للسور المكية فقط وهي التي تشكل خلاصة فكره وآرائه في العديد من القضايا القديمة المعاصرة، وفي هذه الخطب تراجع الشيخ – رحمه الله – عن العديد من الآراء والقضايا التي أعلنها في تفسيره الأول للقرآن.
استمر في هذا التفسير حتى عام 1985م حينما منع من الخطابة وقد وصل حينها إلى سورة إبراهيم ولم يبق أماه الكثير لإتمام تفسير المصحف المكي.
وفي حديثه عن مشروعه لتفسير القرآن الكريم الذي لم يكتمل يقول:
"إن الهدف هو أن أضع القارئ أمام الحقيقة القرآنية غير مثقلة بأية شروح لا ضرورة تدعو إليها."... ثم يحدثنا عن المنهج الذي اتبعه في ذلك:
"وليس من الأمانة العلمية أن نلتزم وجهاً واحداً ولا نرى غيره، إذا كان الكلام الإلهي يحتمل وجهاً من التأويل، لأن في هذا عدواناً على خصيصة من أهم خصائص الكتاب الكريم، وهي المرونة التي لا تشكل قيداً حديدياً على الفكر البشري، ولذلك فقد حصرت على إبراز الوجوه المحتملة في التأول ضمن الحدود التي تسمح بها أساليب هذه اللغة الشريفة"...
قلما تجد تفسيراً لا يحرص مؤلفه على أن يحشد فيه كل ما تصل إليه يده من المسائل العلمية، وليس مما يعلي من شأن القرآن أن يتطابق مع الحقائق العلمية، وإن كان ذلك يزيد الذين اهتدوا هدى، لأن الكلام الإلهي هداية وإرشاد، والمعرفة العلمية شأن بشري بحت والخلط بين الميدانين مسلك شديد الخطورة لذلك حافظت على محل الهيمنة القرآنية على التفكير البشري، وتجنبت الخوض في المسائل العلمية.
وسوم: العدد 847