الشيخ محمود مشوح في موكب العلماء الراحلين
مساء السبت الثالث والعشرين من شوال المنصرم، كان مساءً حزيناً على بلدة الميادين الجاثمة على نهر الفرات في سورية الحبيبة الصابر المحتسبة.
حُزناً يقطر أسى، ويفيض عبرات، وكيف لا.. فقد فقدت المنطقة الشرقية أعز أبنائها، وخيرة علمائها، وشيخاً من شيوخ الصحوة الإسلامية فيها، ومؤسساً من مؤسسي الحركة الإسلامية بين ظهرانيها.
لقد كان المصاب عظيماً، والخطب جللاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا نقول إلا ما يرضي الله عز وجل
حزني وحزن أبناء منطقتي، أبناء الفرات جميعاً، وأبناء سورية أجمع، وأبناء العالم الإسلامي أجمعين – عليه كنعيم أهل الجنة كلما نفد تجدد ذلك أنهم فقدوا فيه العالم النحرير، والخطيب المصقع، والأب الحاني الرؤوف، والمصلح الاجتماعي، والعاقل الحكيم، والمفكر المبدع، والسائر على سنن الأنبياء من لدن إبراهيم إلى نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
فقدوا فيه عصاميته وهمته، ودأبه، فقد تسلم إفتاء المنطقة، ولما يتجاوز العشرين ربيعاً، فأوقد سراج عقله من نور عينيه، وغاص في بطون الكتب يطالع ويبحث، حتى أنار السبيل للتائهين، فكان منارة على شاطئ الفرات تهدي العابرين، وتضيء ليل السارين.
فقدوا فيه الداعية إلى الله على سنة الأنبياء، ونهج السلف، بعيداً عن البدع والضلالات، مترفعاً عن الصغائر والترهات، ويدعو إلى الله على بصيرة هو، ومن اتبعه، وسبحان الله.
فقدوا فيه الخطيب المصقع، صاحب العقل المتنور، واللسان البليغ، فإذا خطب فللمنابر هزة، وإذا تكلم فللكلمات وقع الماء البارد على قلوب المؤمنين، ونزول الصواعق على قلوب الكفرة الظالمين.
فقدوا فيه الجرأة والشجاعة تتصدع جنبات المنابر من وقعها، وتتصدع القلوب والعقول لهولها، فما أخافته سجونهم وقلاعهم، ولا حرسهم وأسلحتهم، ويوم كانت الأحداث على أشدها واستدعاه أعلى رأس في هرم السلطة، وأرغى وأزبد، وتهدد وتوعد، قال له بكل جرأة:
"إن التاريخ والواقع لا يؤيدان موقفك، فقد فعل "غيرك" أكثر من ذلك، فأعدم وقتل، وسجن وشرد، وبعد ثمانية عشر عاماً عادت هذه البذرة للنماء والارتفاع، لأن التربة تلائمها والجو يساعدها، فالأولى أن تحقن الدماء، ويتعايش الجميع لبناء هذا البلد ورفعته". نعم فقد الجميع في أبي طريف – حكمة في عقل، وبلاغة في لسان، وشجاعة في جنان، وفكراً ومنيراً، ورؤية بعيدة، ونظرة صادقة أخذها من كتاب ربه الذي فسر كلماته، وشرح معانيه، ووقف فوق المنبر على مدى ثلث قرن أو يزيد يُجلي الغامض فيه، ويوضح ما استعجم على الألسن، واستغلق على العقول. فترك وراءه مئات الأشرطة المسجلة في التفسير، والتاريخ، والأدب، والسياسة، والاجتماع.
نسأل الله أن يهيئ لها من ينشر عرفها، ويعلي ذكرها، ويجليها للمسلمين لتكون منارة على طريق الدعاة إلى الله، تبدد حجب الليل، وتنير ظلام العقول.
فإن بكينا الشيخ الجليل، فليس ذلك بمستغرب، ونحن نرى المنية تتخطف الدعاة، والعلماء، والمصلحين واحداً تلو الآخر، تقبضهم فينقبض علمهم عن الناس، فيتخذ الناس علماء جهالاً يفتون بغير علم، فيضلون ويضلون، كما أخبر نبينا الكريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
شيخنا أبو طريف.. بكاه بلده،، وإخوانه ومصحفه بكاه المشيعون لجنازته، مصدقين قول السلف: "بيننا وبينهم الجنائز" فما شهدوا أعظم ولا أضخم من ذلك الحشد، ولا أخف ولا ألطف من ذلك النعش، ولا أظهر وأكرم من ذلك الجسد.
رحم الله عمنا أبا طريف في الأولين، ورحمه الله في الآخرين، وأسكنه جنة النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
(يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) (الحديد: 12).
تحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً.
وسوم: العدد 847