الأديب الداعية الشهيد إبراهيم عبدو عاصي
(1935- 1980م)
هو الكاتب الأديب الداعية السوري المعتقل منذ عام 1979م، كان رائداً من رواد الأدب الإسلامي في سورية، فهو كاتب قصة بارع، يمتاز أسلوبه بالسخرية وخفة الظل، فضلاً عن ذلك هو مربٍ فاضل استطاع أن يتحدى ظروفه الصعبة، وأن يكون معلماً وقدوة لتلاميذه، ..
مولده، ونشأته:
ولد الأديب القاص الشهيد إبراهيم عبدو عاصي في مدينة جسر الشغور التي تقع على ضفاف العاصي، والتي تتبع إدارياً لمحافظة إدلب في سورية عام 1935م، من أبوين متدينين مستوري الحال من الناحية المادية، طيبي النفس في عرف الأخلاق، زهداً وصلاحاً وإصلاحاً، وكان الشاب إبراهيم عاصي ريحانة والديه في الوفاء بحقهما ورعايتهما من جهة، وبالنهوض بأعباء الأسرة حتى آخر لحظة من حياته قبل أن يخطف، ويعتقل من بين أحضانهما من جهة ثانية، وما زال في المعتقل منذ ربيع عام 1979م، ولا ندري إن كان شهيداً من شهداء مجزرة تدمر الجماعية عام 1982م، وهو المرجح، أم أنه على قيد الحياة.
توفيت والدته في حياته، وهو شـاب بعد تعيينــه معلماً ابتدائياً، وهو بارّ بوالديه براً متميزاً، لاسيما أنهما يعيشان عيشة رقيقة الحال. فحنا على أبيه وأخيه الأصغر، الذي لا يكاد يعيل نفسه، وله ثلاث أخوات، بنات إحداهنّ أكبر منه، تزوجن في حياته وبمساعيه الحميدة، ولهنّ أولاد، بعضهم من المجاهدين، وقد توفي أبوه بعد اعتقاله الأخير بقليل هماً وكمداً.
دراسته، ومراحل تعليمه:
درس المرحلة الابتدائية في مدارس بلدته جسر الشغور، وكان من المتفوقين في امتحان الشهادة الابتدائية، ولهذا حصل على منحة مجانية داخلية، وأتيحت له فرصة الدراسة في المرحلة الإعدادية خارج مدينة جسر الشغور بمنحة حكومية لتفوقه الدراسي، فدرس المرحلة الإعدادية في مدينة حلب.
وبعد ذلك نجح في مسابقة دار المعلمين الابتدائية عام 1952/1953م، فدرس فيها سنتين تخرّج بعدها منها. وكان نجاحه حدثاً متميزاً في مدينة جسر الشغور لقلة الكفاءات، ولحصول ذلك الشاب عليها، وهو من بيئة رقيقة الحال.
ومع دراسته في دار المعلمين الابتدائية درس الثانوية، فحصل على الشهادة الثانوية العامة ( القسم الأدبي) في أثناء العمل.
وتابع دراسته الجامعية في جامعة دمشق، فحصل على إجازة الآداب في قسم اللغة العربية عام 1961م.
اطلع على عدد وافر من كتب التراث.
فقد قرأ لعدد وفير من الأدباء المعاصرين، وتأثر بهم مثل الأساتذة سيد قطب، والدكتور مصطفى السباعي، والشيخ محمد الغزالي، والأستاذ علي الطنطاوي، والأستاذ المودودي، والشهيد حسن البنا.
حياته العملية:
عمل الأستاذ إبراهيم عاصي في حقل التعليم، وعيّن معلماً ابتدائياً في قرى مدينة جسر الشغور في محافظة إدلب، وفي الوقت نفسه حاز على الشهادة الثانوية العامة التي تؤهله لدخول الجامعة.
بناء على اقتراح صديقه العزيز محمد الحسناوي اختار الدراسة في كلية الآداب قسم اللغة العربية عام 1956م وتخرّج وتعيّن مدرساً للغة العربية عام 1961م.
وعمل مدرساً في ثانوية جسر الشغور.
وكان ذا موهبة خطابية أهلته لأن يكون أحد خطباء الجمعة، ثم أحد خطباء الاجتماعات العامة.
الخدمة العسكرية:
دعي إلى الخدمة العسكرية في الجولان قبل احتلالها، وهو طالب في الجامعة فكان يحضر بعض الدروس والمحاضرات والامتحانات باللباس العسكري، وكان يحقق النجاح تلو النجاح، ولم يكن جسمه الناحل الممشوق يضعف على دفع الضريبة مع كل نجاح.
حياته الأدبية:
كانت أولى محاولاته مقالة اجتماعية عن الزواج وغلاء المهور في أوائل الستينات في صحيفة المنار ( احذروا هذا الزواج) عام 1963م، ثم توالت كتاباته في مجلة حضارة الإسلام الدمشقية وقد تابعها أبناء جيلنا تحت عنوان ( ابن الزمان) ، وهي كتابات نقدية منهجها قوله تعالى: ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت).
لم يفارق الكتابة في إقامته وسفره، يكتب ضمن منهج الإصلاح، يتحدث عنه موضحاً موقفه الذي كان نابعاً من الكتاب والسنة، وإن لم يذكرهما صراحة، فقد كتب الخواطر وهي أكثر ما تبدو في سفره وعنائه وغربته، أو تغريبه، لا تشغله همومه الشخصية عن هموم الأمة، يترك نفسه على سجيتها لتعبر عن الفكرة التي تريد، من خلال مقالة أو خاطرة أو قصة قصيرة، أو محاضرة، في ساعات الاستقرار والأحوال الطبيعية كان يختار مكاناً للكتابة ( في غرفة مكتبه على السطح، أو في جبل أريحا، أو كروم ناحية بداما).
لم ينقطع عن المطالعة في العربية والدين، متابعاً لما يصدر ولا سيما في بيروت ، فإن لم يتمكن من الحصول عليه استعان بصديقيه : محمد الحسناوي، وعبد الله الطنطاوي المقيمين في حلب والمتابعين للشأن الفكري والشأن الثقافي .
امتاز بأسلوب فني ساخر، يبدو ذلك في كثير مما كتب، فالسخرية عنده عملية تنفير وتصوير لزاوية من زوايا النقص، ليتداركها القارئ، ويبتعد عنها.
أحواله الاجتماعية، والأسرية:
تزوّج إبراهيم عاصي مبكراً من بنت الشيخ الصالح مفتي المنطقة الأستاذ أحمد المفتي حوالي عام 1956م، ورزق منها ثلاثة ذكور –عمار، أنس، إقبال-، وابنة واحدة –بنان-.
ولده البكر هو الشهيد الشاب عمار عاصي الذي التحق بالمجاهدين 1980م، واستشهد في جسر الشغور عام 1982م، وهو يحمل الشهادة الثانوية العامة.
أخلاقه، وصفاته:
الأستاذ إبراهيم عاصي حنطي البشرة، أسود الشعر والعينين، عذب الصوت جميل الصورة، يميل إلى الطول، معتدل القامة، حلو المعشر، عذب الحديث، مرح، كثير المداعبة، وذلك كله برغم الهموم الشخصية والأسرية والعامة، أصيب في السنوات الأخيرة بلون من الصداع يعالجه بالاستجمام وببعض الراحة، وأنى تتوفر الراحة لأمثاله.
وبالمناسبة رزق طبعاً اجتماعياً يحببه إلى الناس، ويعينه على حلّ مشكلاتهم الشخصية والأسرية والاقتصادية، ولذلك انتخب رئيساً لفرع جمعية البر والخدمات الاجتماعية في جسر الشغور.
هو المؤسس للحركة الإسلامية في منطقته جسر الشغور، وعلى يديه نظم الكثيرون منهم محمد الحسناوي، ويحيى حاج يحيى -أديبان إسلاميان-.
وهو خطيب مفوّه، يعتلي المنابر في المساجد والمناسبات العامة، وقد مارس الخطابة ونجح فيها قبل ممارسته الكتابة الأدبية والقصصية.
وله تأييد شعبي واسع في منطقته، وفي المناطق الأخرى.
ومن ملامح شخصيته رحمه الله تعالى أنه كان يزور أهل الصلاح، وينشرح صدره للقائهم، ويطلب منهم الدعاء له بظهر الغيب، وكان أحد هؤلاء ممن هاجر من تركيا أيام أتاتورك ولجأ مع أبنائه، وعدد من أقربائه إلى مدينة جسر الشغور، فبنوا مسجداً وقاموا بتعليم القرآن الكريم.
كما كان يكثر من الأسفار، ويلتقي العلماء ممن لا يسمح لهم بدخول البلاد، يحاورهم، ويبدي وجهة نظره، وينقل لهم أحوال الناس، وينقل عنهم، ويشاورهم.
وفي عام 1972م وفي أثناء تصحيح الشهادة الثانوية مضى مع تلميذه يحيى بشير حاج يحيى في زيارة الشيخ سعيد العبد الله شيخ قراء حماة، وقد سر لزيارته وكان معجباً بكتاباته ومواقفه، وفي آخر يوم في الامتحان ذهب لحضور درس الشيخ محمد أديب الكيلاني على الرغم من بعد المسافة، وكان الشيخ يلقي درساً في جامع المناخ بين صلاتي المغرب والعشاء، وقد أخذ بقلوب الحاضرين في فهمه لآيات الكتاب الكريم، وحسن عرضها واستشهاده بها، ولما عاد سأل صاحبه: كيف رأيت هذا الشيخ وهذا الدرس ؟ فأجابه: أحسن مما تصورت . فقال: هذا رجل مبارك يدخل كلامه القلوب لأنه نابع من القلب الصادق .
سجنه، واعتقاله:
اعتقل عام 1980م بسبب آرائه النقدية ومواقفه الإصلاحية، وما زال حتى الآن مجهول المصير.
تربطه بالأديبين محمد الحسناوي، وعبد الله الطنطاوي علاقة ودّ وإبداع حميمتين.
مؤلفاته:
ترك عدداً من الكتب والقصص القصيرة، وقد أثنى على إنتاجه الفني القاص الدكتور عبد السلام العجيلي، والناقد الدكتور عماد الدين خليل.
وقد امتاز قلمه بالسخرية البارعة الهادفة.. ومن أبرز كتبه:
1- سلة الرمّان: مجموعته القصصية الأولى، سميت باسم إحدى قصصها، نشر معظمها في مجلة حضارة الإسلام، ثم طبعت طبعتها الأولى ونشرها المكتب الإسلامي في بيروت.
2- ولهان والمتفرسون: مجموعته القصصية الثانية، سميت باسم إحدى قصصها (الولهان)، وقصة أخرى (المتفرسون). في هذه المجموعة قصة أحدثت ضجة في صفوف إحدى الجماعات الصوفية عملت على ذيوع شهرة الكاتب وهي قصة (جلسة مغلقة). نشرت الطبعة الأولى دار الرسالة في بيروت.
3- حادثة في شارع الحرية: مجموعته القصصية الثالثة. سميت باسم إحدى قصصها التي تحكي عملية اعتقال المؤلف، ومن قصصها المتميزة قصة (رحلة مع الجمال) نشرت الطبعة الأولى دار القلم في دمشق. كتب مقدمتها الدكتور عماد الدين خليل.
4- قصّتان قصيرتان ضمن كتاب (أصوات): الذي أسهم في تأليفه كل من عماد الدين خليل، ونبيل خليل، وعبد الله الطنطاوي، ومحمد الحسناوي بالإضافة إلى إبراهيم عاصي.
5- همسة في أذن حواء: مجموعة مقالات انتقادية اجتماعية، نشرت طبعتها الأولى دار القلم في دمشق.
6- جلسة مفتوحة مع مالك بن نبي: كتيّب صغير يصوّر فيه الأستاذ إبراهيم مقابلة مع المفكر الجزائري المسلم مالك بن نبي - رحمه الله تعالى -.
أهم النقّاد الذين تحدثوا عن أدب الأستاذ إبراهيم عاصي:
أ- الدكتور/ عماد الدين خليل مقدمة لمجموعته، (حادثة في شارع الحرية).
ب- محمد حسن بريغش في كتابه: (في الأدب الإسلامي المعاصر)، ط1: مكتبة الحرمين.
جـ - عبد المجيد الربيعي، (ضمن نقد قصص العدد الماضي من الآداب)، مجلة (الآداب) اللبنانية، عدد 5، عام 1971م.
د- عبد الله الطنطاوي، باب مناقشات من مجلة (الآداب) اللبنانية، عدد 6، عام 1971م.
هـ - محمد الحسناوي، باب مناقشات من مجلة (الآداب) اللبنانية، عدد 6، عام 1971م.
و- يحيى بشير حاج يحيى ، عدة مقالات منشورة في رابطة أدباء الشام .
ز- القصة عند إبراهيم عاصي – دراسة موضوعية وفنية – رسالة جامعية من إعداد عبد العزيز بن سعد بن مرزوق العديم الشمري – ط1، عام 1439ه
نظرات نقدية:
1- إن هناك اندماجاً كبيراً بين كتابة الأستاذ إبراهيم القصصية وبين توجهاته وتطلعاته وعقيدته الإسلامية، وبين تجاربه الذاتية أيضاً.
2- كان لأدبه -وما زال- أثر في قرائه ومجتمعه، فكتبه واسعة الرواج، تصادف إقبالاً وقبولاً كبيرين، وكانت طبعاتها تنفد بسرعة واضحة، وتصله رسائل القراء واستجاباتهم مباشرة وبشكل غير مباشر، حتى إن بعض قصصه أثار زوابع ومعارك فكرية إسلامية لسنوات عدّة.
3- لا تخلو قصص الأستاذ إبراهيم من هدف سياسي أو اجتماعي أو أخلاقي أو فكري، فقصصه (سلّة الرمان) من مجموعته التي بهذا الاسم تندد بالجشع. وقصته (الولهان) من مجموعته التي بعنوان "ولهان والمتفرسون"، تندد بتخنث الرجال وباسترجال النساء. وقصته (حادثة في شارع الحرية) من مجموعته التي بهذا الاسم تندد بالطغيان وتطالب بالحرية والكرامة. وقصته (جلسة مغلقة) من مجموعته "ولهان والمتفرسون" ذات هدف فكري تنتقد إحدى الطرق الصوفية المنحرفة أو المتهمة بالانحراف.
4- يعبر الأخ إبراهيم عن رؤيته الإسلامية في كتابته القصصية بمختلف الطرق والأساليب ماعدا أسلوبي الوعظ والإرشاد، فإنه يتجنبهما.
- فهو تارة يرمي إلى هدف إسلامي، كما رأيناه في الفقرة السابقة.
- أو يعالج موضوعات إسلامية فكرية أو غير فكرية؛ مثل قصته (رحلة مع الجمال) من مجموعته (حادثة في شارع الحرية)، حيث يعرض التصوّر الإسلامي الصحيح للمرأة، وفي قصص أخرى يعالج مشكلة (الاختلاط) من خلال قصة امرأة موظفة.
- أو من خلال التاريخ، مثل قصته (خفافيش) عن الصحابي ابن مسعود - رضي الله عنه - لما صرح بالدعوة في صدر الإسلام البكر فلقي ما لقي من الضرب المبرح والاضطهاد.
- أو من خلال التركيز على الشخصيات.
- أو إبراز المفارقات، ومن ثم اعتماد أسلوب السخرية الفنية الناجحة، وهذا أسلوب غالب على كتابة الأستاذ إبراهيم القصصية لا تكاد تستثني منها واحدة.
- كما يعتمد أحياناً الأحلام، أحلام اليقظة وغيرها والنجاوى الداخلية.
5- من الأدباء الذين قرأ لهم الأستاذ إبراهيم، وأعجب بهم، وربما تأثر بهم: علي الطنطاوي، وإبراهيم المازني، ومارون عبود -وذلك بالسخرية وتبسيط الأسلوب-، كما اطلع على كتابات الجاحظ وبرناردشو الساخرة، ولعله اطلع أيضاً على كتابات تشيخوف، ولا بدّ من الاعتراف أن روح النقد والسخرية والفكاهة جزء أصيل في تكوين شخصية الأستاذ إبراهيم الفطرية والأدبية على حد سواء، وقد وجد عند هؤلاء الكتاب صدى لمشاعره وأحاسيسه.
6- لا شك أن الأخ إبراهيم كان حريصاً على الأخذ بالمواصفات والأسس الفنية للقصة الحديثة، وقد غلب ذلك عليها، ولكن لا أستطيع التخمين إلى أي حدّ كان يلح عليه هاجس التجديد، وهو لا يلهث وراء الموضات أو الصرعات، بل يأخذ ما يروق له وينسجم مع طبعه وميوله واستجابة الجمهور العريض من قرّائه.
أصداء الرحيل:
إبراهيم عاصي... الأديب الأسير:
وكتب الأديب الشاعر الداعية (محمد الحسناوي) يقول:
كان من سوء حظ الشاعر أبي فراس الحمداني أن يقع أسيراً في أيدي أعدائه الروم، وكان من حسن حظ الأدب العربي أن يطول سجن أبي فراس الحمداني لدى الروم حتى يتحف الأدب العربي بروائع شعره "الروميات" لكن الأديب الموهوب القاص إبراهيم عاصي طال سجنه، فنيف على عشرين عاماً منذ إبريل 1979م، ولم نسمع له صوتاً، فضلاً عن أن نقرأ له شيئاً جديداً، لم تعد اللهفة على مطالعة إنتاجه الجديد وحسب، وإنما الإشفاق على روحه الطاهرة أن تكون قد أزهقت، وعلى قرائه المحبين وعلى دوحة الأديب العربي أن يخسروه.
خلال سنوات قليلة أنجز ستة كتب أدبية، معظمها قصص قصيرة هي: سلة الحرمان – حادثة في شارع الحرية – ولهان والمتفرسون – همسة في أذن حواء – للأزواج فقط – جلسة مفتوحة مع مالك بن نبي، ولو أتيح لهذا الرجل المعطاء أن يأخذ حظه من العيش – وهو متواضع – لأثرى الأدب العربي والإسلامي بمكتبة أدبية لا تقل عن مكتبة علي أحمد باكثير ونجيب الكيلاني – رحمهما الله – لكن ماذا نقول للأكف التي اختطفته في ليلة ظلماء، وأطبقت على صوته الغريد، وما تزال؟
يشق عليّ يا إبراهيم أن أفتقدك كل هذه المدة، ويشق علي عشاق الأدب الجميل المبدع، الأدب الاجتماعي الإنساني الساخر أن يحال بينك وبينهم عشرين عاماً.
ولد الأستاذ إبراهيم في مدينتي الزهراء جسر الشغور عام 1935م لأبوين رقيقي الحال في عرف الناس طيبي النفس في عرف الأخلاق... زهداً وصلاحاً وإصلاحاً، وكان ريحانة أبويه في الوفاء بحقهما ورعايتهما من جهة، وبالنهوض بأعباء الأسرة حتى آخر لحظة من لحظات حياته قبل أن يختطف من بين أحضانها من جهة ثانية، توفيت أمه في حياته فحنا على أبيه وأخيه الأصغر ورعى زواج أخواته الثلاث زيجات مباركات، لم يعش طويلاً بعد غيابه، رحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جناته.
تفوّق إبراهيم دراسياً في المرحلة الابتدائية، وكان ذلك مجازه لنيل منحة الدراسة الداخلية في المرحلة الإعدادية، ثم دخول دار المعلمين الابتدائية بعد ذلك، وكان نجاحه آنذاك حدثاً متميزاً في مدينة جسر الشغور لقلة الكفاءات، ولحصول ذلك لشاب من بيئة رقيقة الحال، ومع دراسته في دار المعلمين الابتدائية درس الشهادة الثانوية فنالهما معاً، وجمع مع عمله الشاق في التعليم الابتدائي بالأرياف الدراسة الجامعية في كلية الآداب، وما تدرج سنة أو سنتين في قسم اللغة العربية حتى دعي إلى الخدمة العسكرية في الجولان قبل احتلالها، وكان يحضر بعض المحاضرات والامتحانات بلباس الجبهة العسكرية، وكان يحقق النجاح تلو النجاح، ولم يكن يدري أن جسمه الناحل الممشوق يدفع ضريبة مع كل نجاح.
كنت أسمع به، ويسمع بي إلى أن تعارفنا عام 1953م في نهاية دراستي الإعدادية وبداية تخرجه في دار المعلمين الابتدائية، فاتصلت بيننا المودة والأعمال فما نكاد نفترق حتى نلتقي، وكالضريبة اللازمة كان يقضي العطلة الأسبوعية في حلب كي نتمتع باللقاء وبإنجاز ما يمكن إنجازه من شؤون الأدب والحياة، وكان هذا دأبنا في السنوات الأخيرة إلى أن اختطفته تلك اليد في تلك الليلة الظلماء، وقذفت بي خارج مكتبي وبيتي ووطني، كانت أمسيات حلب الشهباء الساجية وأدباؤها المتفنون زادنا ونقلنا ومصابيح مشروعاتنا الخصبة، نبدأ بتدارس آخر ما خططناه من شعر وقصص ومقالات، ونمر بدراسة أدب باكثير والتحضير للدراسات الجامعية العالية، ولا ننتهي إلا في سماء مستقبل أزهر لأمة العرب والمسلمين، ثم كان جزاؤك وجزائي يا إبراهيم ما رأيت!.
الانعطاف الأكبر:
زارني مرة يستشيرني في مجموعته القصصية الأولى "سلة الرمان" التي طال نومها لدى الناشر، وقد عرضت عليه دار نشر أخرى أن تنشر له شيئاً، أيسحب المجموعة المذكورة ويسلمها للدار الأخرى أم ينتظر؟ قلت له: ولم لا تكتب مجموعة جديدة، قال: المدة قصيرة لا تتجاوز خمسة عشر يوماً أو شهراً، قلت: فليكن فكانت مجموعته القصصية الثانية "ولهان والمتفرسون" وكانت الانعطاف الأكبر الذي فتح له باب الشهرة الأدبية، أما كيف استطاع اجتراح هذا الإنجاز، وكيف تناقشنا فيه، فندعه لفرصة سانحة، أما "ولهان" فإحدى الشخصيات التي التقط ملامحها من مجتمع الأزمات، أزمات الفرد رجلاً أو أنثى، ومن مجتمع جسر الشغور الطريف الذي هو على رغم ألوانه الخاصة جزء من مجتمع سورية المسحوق المنتهك جهاراً نهاراً، الولهان أصيب بانفصام في الشخصية، وهو شاب في مقتبل العمر، فحلق شعره "على الصفر" وصبغ وجهه، وكحل عينيه، ونتف حواجبه، ولبس التنورة النسائية على طريقة الاسكوتلانديين، وحذاء نسوياً ذا كعب عال، فإذا مرّ به سرب من الفتيات الكاسيات العاريات صاح صيحة تهز الثقلين، وصفّق بكفّيه، وضرب بكعبي حذائه واستدار دورة كاملة على رجل واحدة، ثم أخذ يقهقه عالياً قهقهات رنانة، يجعلك تتساءل: عاقل هذا أم مجنون؟
حين نشرت هذه القصة لأول مرة في مجلة "الآداب" اللبنانية هاجمها عبد الرحمن الربيعي، فتصديت له أنا والأستاذ عبد الله الطنطاوي، ودافعنا عن أخينا المبدع إبراهيم دفاعاً يستحقه، لكن كيف ندافع عنك الآن يا أبا عمار؟
أما "المتفرسون" فمجموعة من رواد المقاهي العاطلين المبطلين، همهم مراقبة الغادين والرائحين، والتفرس في وجوههم أو أقفيتهم، لتخمين نفوسهم وحرفهم ومشكلاتهم، وحدث عن براعة الأستاذ إبراهيم عاصي الساخرة في تصوير النفوس وتحليلها، ثم صرت يا إبراهيم ممن نصفه، ونتحدث عنه بعد أن كنت ملء السمع والبصر.
شاب ممشوق القامة كالرمح، عريض المنكبين، كالابتسامة، رقيق الحاشية كالماء الرقراق، كحيل العينين كالحلم أو كالحمام، حاضر البديهة كالأمنيات، عذب الحديث كشراب الورد، لاسع السخرية كقرصات النحل، مشرق الابتسامة كالفجر الضحوك، أبيض البشرة، أسود الشعر كتعانق الليل والنهار.
لو لم يكن الأستاذ إبراهيم مدرساً للغة العربية وقصاصاً أدبياً لكان أحد نجوم التمثيل لما وهبه الله تعالى من وجه صبيح وملامح لطيفة، ولو لم يكن خطيباً مفوهاً لكان منشداً مرموقاً لما لصوته من حلاوة وما عليه من طلاوة، فإذا فاتك أن تستمع إلى إحدى خطبه أو محاضراته، فاقرأ ما سطّره، أو ما تناوله من تحليل أدبي فلسفي في قصته "رحلة مع الجمال" مجموعة من المسافرين في سيارة اجرة مع شابة جميلة مسافرة مثلهم، كل واحد منهم يلم بها في خياله مشرقاً أو مغرّباً، أحد المسافرين هام بهذا الجمال المتحرش، وتمنى الأمنيات الخلابة طوال الطريق، ضارباً بالقيم والذوق والأخلاق عرض الحائط، ولم يجد من الجمال إلا صورته الحسية، وكانت النتيجة أن جوزي على شهواته العارية بكتل متلاحقة من مخزون معدة الحسناء وبصاقها اللزج الحامض المر النتن!
أخيراً اعتقل الأديب القاص الموهوب إبراهيم عاصي، واستشهد ولده البكر الطالب الجامعي "عمار" في أحداث 1980 الدامية، وترملت زوجته، ومازالت أسرته الصغيرة تطحن في غيابه وتمضغ مخزون الملح والكمون، تعد النجوم، وتجأر بشكواها للحي القيوم.
قبل اعتقاله بساعات تداولت معه بشأن النزوح عن البلد، وموجات الاعتقال تحصد الأبرياء، فقال: ماذا جنيت حتى اغترب عن أهلي وبلدي، بلد آبائي وأجدادي وعن وطني؟ وأنا الآن أتساءل بعد عشرين عاماً، ماذا جنى أبو عمار المدرس الأديب المربي، وماذا جنت أسرته ومحبّوه ومحبو أدبه؟ ...
مع الأستاذ الأديب إبراهيم عاصي -رحمه الله تعالى-:
وكتب ( يحيى حاج يحيى): اللقاء الأخير مع أستاذنا الشهيد إبراهيم عاصي في جسر الشغور !! وفي السجن !! كان إبراهيم عاصي ملء عين بلدته ، وأهله وتلاميذه ، وقراء مقالاته في مجلة حضارة الإسلام ، وكتبه وقصصه التي انتشرت في صفوف السوريين وغيرهم !؟ ومن الطرائف أنني استمعت إلى خطبة جمعة في بغداد ١٩٨١ ، فكان موضوعها ما كتبه أستاذنا عن المرأة التي يتاجر بقضاياها التجار والفجار - كما أسماهم - تعود بي الذاكرة إلى اليوم الرابع من نيسان ١٩٧٩ م ، وكان آخر درس له في تفسير سورة يوسف عليه السلام ، في جامع الأ نصار ، وهو يغصُّ بالحضور من المدينة ومن الأرياف المجاورة ، وللذكرى فإن هذا الجامع كان جامع المواجهة مع النظام المجرم ، وكان للعيون والمخبرين وجود ظاهر وإن تظاهروا بالتقوى والخشوع المصطنع !؟ وقد كان خطيب المسجد الأخ الشهيد عبد الكريم النايف ، يكاد يميّزهم واحداً واحداً ! ولم يكن هذا ليمنعه من قول الحق ، بل كان يكويهم مرة ، وينصح مرة ، كما كان لأستاذنا عبارات تنغرز في جنوبهم لعلهم يستيقظون !؟ - ولعل من حكمة الله تعالى أن تكون هذه السورة، والحديث عن السجن والبراءة من آخر ما سمعه الحاضرون ! كأن القدر يعده لهذه المرحلة التي طالت ، وتحدث عنها في رسالته من السجن إلى ابنه الشهيد عمار ، ومن خلال مقالته التي كتبها ( شيء من النيران ) وسرّبها بعض السجناء ، والتي تعدُّ من أرقى الكتابات الأدبية والتحليل النفسي والتصور الإيماني، وقد نشرتها النذير في أعدادها الأولى بمقدمة كتبها أستاذنا الراحل الاديب محمد الحسناوي - رحمه الله - لم يكن المجرمون ليجرؤوا على اعتقاله في جسر الشغور؛ لأنهم يعلمون مدى خطورة الأمر عليهم، فاعتقلوه في إدلب ليلاً، وهو في بيت شقيقته، بعد نقله من التعليم إلى إحدى الدوائر في المحافظة !؟ في الوقت الذي كانت المدارس في حاجة إليه وإلى أمثاله ممن نُقلوا أو سُرّحوا أو سُجنوا، أو شُرّدوا !؟ ومما يُذكر أن عدد المسرَّحين من التعليم في الدفعة الأولى في محافظة إدلب كان أكبر من بقية المحافظات، وقد نالنا شرف ذلك بعد أحداث آذار ١٩٨٠ في جسر الشغور مع عدد من الإخوة زادوا على العشرين من الجسر وريفها !؟ وأترك لقلم الأخ الشاعر سليم عبد القادر - رحمه الله - وقد انقطعت أخبار الأستاذ إبراهيم عن أهله وإخوانه ، لينقل لنا في كتابه ( نقطة ... انتهى التحقيق ) صورة عن انطباعاته وصحبته له في السجن ، فيقول :
كان الأستاذ إبراهيم عاصي عالٓماً من الذوق والأدب والفكر ! تعرفت إليه أول مرة من خلال كتبه اللطيفة التي تضم المقالات الرشيقة ( همسة في أذن حواء) والقصص الساخرة الماتعة ( ولهان والمتفرسون )، و( سلة الرمان ) ، وقصدته مع ثلة من أصحابي في بيته في جسر الشغور، حاملاً توصية من أستاذي وصديقه الأديب الشاعر محمد الحسناوي، فاستقبلنا بحفاوة كبرى، وأكرمنا أكراماً لا يمحوه النسيان ... وتوطّدت بعدها العلاقة فيما بيننا، ثم اجتمعنا أخيراً في المهجع السادس في سجن كفر سوسة ، فازدادت المعرفة ، وازداد الإعجاب والود ..كان الأستاذ الكبير يمثل السجناء أمام إدارة السجن ، وينطق بلساننا ، ويعبر عن أحوالنا ، وينقل شكوانا ، وكان رئيس الفرع يستدعيه كلما جدّ أمر ، وحين يعود يحدّثنا عما جرى ... وكان يتمتع بلباقة عالية ، ومهارة في الحوار ، وذكاء وحكمة ، مع روح مطبوعة بالدعابة .... دعاه مرة رئيس الفرع بعدما صادروا لنا راديو مهرب نستمع فيه إلى الأخبار، ودار بينهما حوار طويل، ثم سأله الأستاذ: حتى راديو صغير تصادرونه !؟ فقال له: كيف دخل الراديو ؟ قال الأستاذ: تهريباً !؟ قال رئيس الفرع :وهل من المعقول أن نترك لكم راديو ، وأنتم لا تستمعون إلا إلى نشرات أخبار الكتائب ومونتي كارلو وما شابه !؟ ردّ الأستاذ باسماً: وهل من المعقول أن نطلب من الشباب أن يستمعوا لإذاعة دمشق ؟! وفي إحدى الليالي جاءت لجنة إلى السجن تمثل القيادة القطرية ، وأجرى أعضاؤها حوارات مع السجناء من قادة الإخوان، ابتدؤوها بالأستاذ إبراهيم، ثم راحوا يستدعون الآخرين واحداً بعد الآخر ،ً فيسمعون كلاماً قوياً تعلو وتيرته باستمرار، ويحمّل السلطة مسؤولية ما يجري من عنف في البلاد، ولما فرغت اللجنة من مهمتها عادت، فاستدعت الأستاذ إبراهيم ثانية، فقال أحدهم: الكلام الذي سمعناه من إخوانك غير معقول !؟ قال الأستاذ: لماذا ؟ قال: إنهم يحملوننا المسؤولية كاملة، ولا يتورعون عن توجيه النقد اللاذع، والإهانات المبطنة ... ابتسم الأستاذ ابتسامته العذبة وقال: ماذا تريدون ممن يعتقدون أنهم معتقلون ظلماً أن يقولوا!؟ على كل حال، إذا أردتم أن يغيروا مواقفهم، فأطلقوا سراحهم !! ويضيف الأخ سليم: كتب الأستاذ إبراهيم رواية عن السجن، ولما فرغ منها حاول تهريبها مع أهله عند الزيارة، ولكن المحاولة فشلت، وصودرت الرواية التي لم يكن يمتلك نسخة أخرى منها. كان الأستاذ إبراهيم يجلس مستمعاً إلى دروس الشيخ عثمان جمال، في العقيدة والفقه، رغم أنه يكبره ببضع سنوات ! كان يجلس مصغياً بأدبه الجم، وعقله اليقظ، يتدخل أحياناً مستفسراً أو معلقاً ، أو محاوراً بتلقائية وهدوء ورحابة صدر ... وما من أحد ألا أحبه، وتعلم منه الكثير !! أما النهاية فكانت في مذبحة تدمر المرعبة، مع ألف من إخوانه، دخلت أجسادهم مقبرة جماعية، ورفرفت أرواحهم سرباً واحداً نحو بارئها !! رحم الله أستاذنا الحبيب، وكتب له أجر المجاهدين والشهداء، ورحم الله أخي وصديقي العزيز سليم الذي استطاع مع ستة عشر أخاً سجيناً الفرار من السجن، وظل شوكة في عيون الطغمة المحتلة لسورية يكتب للكبار والصغار، ويبشر بيوم الخلاص الذي كنا نترقبه !
وكتب يحي حاج يحي يقول: كان إبراهيم عاصي ملء عين بلدته، وأهله وتلاميذ، وقراء مقالاته في مجلة حضارة الإسلام، وكتبه وقصصه التي انتشرت في صفوف السوريين وغيرهم !؟ ومن الطرائف أنني استمعت إلى خطبة جمعة في بغداد 1981، فكان موضوعها ما كتبه أستاذنا عن المرأة التي يتاجر بقضاياها التجار والفجار - كما أسماهم.
تعود بي الذاكرة إلى اليوم الرابع من نيسان 1979 م، وكان آخر درس له في تفسير سورة يوسف عليه السلام، في جامع الأنصار، وهو يغص بالحضور من المدينة ومن الأرياف المجاورة ، وللذكرى فإن هذا الجامع كان جامع المواجهة مع النظام المجرم
وكان للعيون والمخبرين وجود ظاهر وإن تظاهروا بالتقوى والخشوع المصطنع !؟ وقد كان خطيب المسجد الأخ الشهيد عبد الكريم النايف، يكاد يميزهم واحداً واحداً ! ولم يكن هذا ليمنعه من قول الحق، بل كان يكويهم مرة، وينصح مرة، كما كان لأستاذنا عبارات تنغرز في جنوبهم لعلهم يستيقظون !؟
ولعل من حكمة الله تعالى أن تكون هذه السورة، والحديث عن السجن والبراءة من آخر ما سمعه الحاضرون! كأن القدر يعده لهذه المرحلة التي طالت، وتحدث عنها في رسالته من السجن إلى ابنه الشهيد عمار، ومن خلال مقالته التي كتبها (شيء من النيران) وسرّبها بعض السجناء، والتي تعد من أرقى الكتابات الادبية والتحليل النفسي والتصور الإيماني، وقد نشرتها النذير في أعدادها الأولى بمقدمة كتبها أستاذنا الراحل الأديب محمد الحسناوي رحمه الله.
لم يكن المجرمون ليجرؤوا على اعتقاله في جسر الشغور؛ لأنهم يعلمون مدى خطورة الأمر عليهم، فاعتقلوه في إدلب ليلاً وهو في بيت شقيقته، بعد نقله من التعليم إلى إحدى الدوائر في المحافظة !؟ في الوقت الذي كانت المدارس في حاجة إليه وإلى أمثاله ممن نُقلوا أو سُرّحوا أو سُجنوا، أو شُرّدوا !؟
ومما يُذكر أن عدد المسرحين من التعليم في الدفعة الأولى كان أكبر من بقية المحافظات، وقد نالنا شرف ذلك بعد أحداث آذار 1980 في جسر الشغور مع عدد من الإخوة زادوا على العشرين من الجسر وريفها !؟
وأترك لقلم الأخ الشاعر سليم عبد القادر - رحمه الله - وقد انقطعت أخبار الأستاذ إبراهيم عن أهله وإخوانه، لينقل لنا في كتابه (نقطة ... انتهى التحقيق) صورة عن انطباعاته وصحبته له في السجن، فيقول:
كان الأستاذ إبراهيم عاصي عالماً من الذوق والأدب والفكر ! تعرفت إليه أول مرة من خلال كتبه اللطيفة التي تضم المقالات الرشيقة (همسة في أذن حواء) والقصص الساخرة الماتعة (ولهان والمتفرسون) و(سلة الرمان)
وقصدته مع ثلة من أصحابي في بيته في جسر الشغور، حاملاً توصية من أستاذي وصديقه الأديب الشاعر محمد الحسناوي، فاستقبلنا بحفاوة كبرى، وأكرمنا إكراماً لا يمحوه النسيان ... وتوطدت بعدها العلاقة فيما بيننا، ثم اجتمعنا أخيراً في المهجع السادس في سجن كفر سوسة، فازدادت المعرفة، وازداد الإعجاب والود ..كان الأستاذ الكبير يمثل السجناء أمام إدارة السجن، وينطق بلساننا، ويعبر عن أحوالنا، وينقل شكوانا، وكان رئيس الفرع يستدعيه كلما جدّ أمر، وحين يعود يحدثنا عما جرى ... وكان يتمتع بلباقة عالية، ومهارة في الحوار، وذكاء وحكمة، مع روح مطبوعة بالدعابة ....
دعاه مرة رئيس الفرع بعدما صادروا لنا راديو مهرب نستمع فيه إلى الأخبار، ودار بينهما حوار طويل، ثم سأله الأستاذ: حتى راديو صغير تصادرونه !؟ فقال له: كيف دخل الراديو ؟ قال الأستاذ: تهريباً !؟
قال رئيس الفرع: وهل من المعقول أن نترك لكم راديو، وأنتم لا تستمعون إلا إلى نشرات أخبار الكتائب ومونتي كارلو وما شابه !؟ ردّ الأستاذ باسماً: وهل من المعقول أن نطلب من الشباب أن يستمعوا لإذاعة دمشق ؟!
وفي إحدى الليالي جاءت لجنة إلى السجن تمثل القيادة القطرية، وأجرى أعضاؤها حوارات مع السجناء من قادة الإخوان، ابتدؤوها بالأستاذ إبراهيم، ثم راحوا يستدعون الآخرين واحداً بعد الآخر، فيسمعون كلاماً قوياً تعلو وتيرته باستمرار، ويحمل السلطة مسؤولية ما يجري من عنف في البلاد، ولما فرغت اللجنة من مهمتها عادت فاستدعت الأستاذ إبراهيم ثانية، فقال أحدهم: الكلام الذي سمعناه من إخوانك غير معقول !؟
قال الأستاذ: لماذا ؟
قال : إنهم يحملوننا المسؤولية كاملة ، ولا يتورعون عن توجيه النقد اللاذع ، والإهانات المبطنة.
ابتسم الأستاذ ابتسامته العذبة، وقال: ماذا تريدون ممن يعتقدون أنهم معتقلون ظلماً أن يقولوا !؟ على كل حال، إذا أردتم أن يغيروا مواقفهم، فأطلقوا سراحهم !!
ويضيف الأخ سليم:
كتب الأستاذ إبراهيم رواية عن السجن، ولما فرغ منها حاول تهريبها مع أهله عند الزيارة، ولكن المحاولة فشلت وصودرت الرواية التي لم يكن يمتلك نسخة أخرى منها .
كان الأستاذ إبراهيم يجلس مستمعاً إلى دروس الشيخ عثمان جمال، في العقيدة والفقه، رغم أنه يكبره ببضع سنوات ! كان يجلس مصغياً بأدبه الجم، وعقله اليقظ، يتدخل أحياناً مستفسراً أو معلقاً، أو محاوراً بتلقائية وهدوء ورحابة صدر ... وما من أحد ألا أحبه، وتتعلم منه الكتير !!
أما النهاية فكانت في مذبحة تدمر المرعبة، مع ألف من إخوانه، دخلت أجسادهم مقبرة جماعية، ورفرفت أرواحهم سرباً واحداً نحو بارئها يوم 27/ 6/ 1980م/ الموافق 13 شعبان 1400هـ.
بيانات / نداء من اللجنة السورية لحقوق الإنسان للإفراج عن الأديب والمواطن السوري إبراهيم عاصي:
وفي 7-تموز-2003م أصدرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان بياناً جاء فيه:
ولد إبراهيم عبده عاصي عام 1935 في بلدة جسر الشغور التابعة لمحافظة إدلب شمالي سورية .
كانت أسرة والديه تعيش حياة بسيطة، لكنه استطاع أن يتفوق على ظروف بيئته الشخصية وفي تحصيله العلمي.
تخرج من دار المعلمين بحلب ثم انتسب إلى كلية الآداب بجامعة دمشق (قسم اللغة العربية) وهو يعمل معلماً في المدارس الابتدائية في الأرياف، وأثناء أدائه الخدمة الإلزامية في الجيش حتى تخرج ونال الإجازة في اللغة العربية وآدابها عام 1960 م .
كان عمل إبراهيم عاصي في التربية والتعليم جزءاً من رسالته الإصلاحية في الحياة، فقد تصدى لمظاهر التخلف والانحراف في المجتمع والسلطات الاستبدادية فاستجاب له الناس ، لما لمسوه من صدق في لهجيته وسلوكه، كما تعرض للمضايقة من الحزب البعث الحاكم بسبب ذلك، فحُرم من حقه الانتخابي في نقابة المعلمين، وعوقب بنقله بعيداً عن بلده، فقد نقل في الأعوام 1964-1965 إلى محافظة السويداء جنوبي سورية .
دأب إبراهيم عاصي على إلقاء دروس ومحاضرات فكرية واجتماعية أسبوعياً وفي المناسبات الاجتماعية والوطنية والدينية في بلدة جسر الشغور وأريافها الكثيرة.
ألقت السلطات الأمنية المركزية القبض على إبراهيم عبده عاصي مساء 28/4/1979 ، وللضغط عليه لاحقت ابنه الأكبر “عمار” -وهو طالب جامعي في كلية الهندسة بجامعة حلب – فتوارى عن الأنظار عام 1980، إلى أن قتلته قوات المخابرات وهو نائم في ضاحية قريبة من جسر الشغور في شهر آذار 1982.
قابل إبراهيم عاصي في فروع المخابرات بدمشق عدد من ذويه في العام 1979، ثم انقطعت أخباره. أكد ضابط كبير أن إبراهيم عبده عاصي لم يكن موجوداً في سجن تدمر ساعة وقوع مجزرة تدمر التي نفذتها مجموعة من سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد يوم 27/6/1980 … لم يُحاكم إبراهيم عبده عاصي ولم يصدر حكم بحقه.
إبراهيم عبده عاصي متزوج، وله أربعة أولاد، وشقيق واحد مريض يحتاج إلى الرعاية، ووالد تجاوز الثمانين، توفي، وهو يلهج باسم ابنه إبراهيم …
إبراهيم عاصي أديب وناقد اجتماعي، يكتب القصة القصيرة والمقالة الهادفة.
له في القصة القصيرة، المجموعات التالية:
– سلة الحرمان
– حادثة في شارع الحرية
– ولهان والمتفرسون
– مشاركة في كتاب “أصوات” بالاشتراك مع عدد من الكتاب السوريين والعراقيين.
وله في النقد الاجتماعي:
– للرجال فقط
– همسة في أذن حواء
وفي ميدان الفكر:
– حوار مفتوح مع مالك بن نبي
كتب عنه الدكتور عماد الدين خليل في كتابه “محاولات جديدة في النقد” ، ومحمد حسن بريغش في كتابه “الأدب الإسلامي” ، ومحمد الحسناوي في كتابه “في الأدب والأدب الإسلامي” ، ويحيى الحاج يحيى في كتابه ” القصص الإسلامي المعاصر” .
وبعد ما يقرب من 22 عاماً على اعتقال الأستاذ إبراهيم عبده عاصي بواسطة أجهزة المخابرات السورية، تناشد اللجنة السورية لحقوق الإنسان كل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن يكشف عن مصير هذا المعتقل ، وأن يعمل على إطلاق سراحه فقد تجاوز سنه السادسة والستون عاماً.
مصادر الترجمة:
1- في الأدب الإسلامي المعاصر (دراسة وتطبيق) – تأليف محمد حسن بريغش – الطبعة الثانية، صدرت عن مكتبة المنار بالأردن عام 1405ه/ 1985م.
2- للأزواج فقط: تأليف إبراهيم عاصي، ط2، صدرت عن دار الثقافة – قطر، عام 1987م.
3- القصص الإسلامي المعاصر ( عرض، وتوثيق) –يحيى حاج يحيى – نشر دار المجتمع للنشر والتوزيع بجدة، ط1 عام 1415ه/ 1994م.
4- مقالة محمد الحسناوي.
5- معلومات من الأديب محمد سعيد مبيض.
6- معجم الأدباء الإسلاميين – أحمد الجدع.
7- مقال عن: إبراهيم عاصي- رابطة أدباء الشام. 1 أغسطس 2003 م.
8- مقالة يحيى بشير حاج يحيى – رابطة العلماء السوريين.
9- القصة عند إبراهيم عاصي – عبد العزيز الشمري.
وسوم: العدد 860