الدكتورة سعاد ماهر... راعية الآثار الإسلامية
الدكتورة سعاد ماهر...
راعية الآثار الإسلامية
أبو الحسن الجمّال
يزايد المغرضون على عدم أخذ المرأة لحريتها فى بلادنا، رغم وجود نماذج ناصعة تبدد مزاعمهم المريضة، فقد ولجت المرأة فى بلادنا كل المجالات، وبرعت فيها، ومن هذه النماذج الدكتورة بنت الشاطىء التى بزت اقرانها فى العلوم العربية والشرعية وخلفت العديد من الكتب والأبحاث، والدكتور سميرة موسى عالمة الذرة الشهيرة التى لقيت مصرعها أثناء عودتها من أمريكا لأنها فضلت مصلحة الوطن على المغريات التى عرضت عليها، ومنهم الدكتورة سعاد ماهر(موضوع مقالنا) عالمة الآثار الإسلامية المشهورة، التى لها جهودا عظيمة فى العناية بها فى التأليف والتدريس والإشراف على ترميمها، وتعهدها لمعظم الباحثين فى هذا المجال بالرعاية والإرشاد، ومن أشهر ما خلفت كتابها الموسوعة "مساجد مصر وأولياء الله الصالحين"، وكانت أول سيدة فى العالم حصلت على الدكتوراه فى الآثار الإسلامية، ونشرت لها الصحف والمجلات مئات البحوث الهامة والمقالات العليمة فى الآثار الإسلامية وتخصصت فى الكتابة عن مساجد مصر وأولياؤها والمزارات الإسلامي.
ولدت الدكتورة سعاد ماهر فى 29 أغسطس 1917، تخرجت فى كلية الآداب 1946، ثم حصلت على الدكتوراه في الآثار الإسلامية من جامعة القاهرة سنة 1954م، تحت إشراف العالم الكبير الدكتور زكي محمد حسن، وكان موضوع الرسالة "المنسوجات المصرية في عصر الانتقال من الفتح الإسلامي وقيام الدولة الفاطمية"، وقد عينت عميدة كلية الآثار بجامعة القاهرة من 1974م- 1977م، ثم أعيرت لكلية الآداب بجامعة الملك عبد العزيز بحدة، أستاذ للدراسات العليا منذ 1977-1985م.
كان لها الفضل فى الإشراف على الحفائر منها: حفائر كلية الآثار – قسم الآثار الإسلامية - بمنطقة الفسطاط خلال ثلاث مواسم متتالية بين عامي 1973-1975م، وحفائر كلية الآثار بالجبانة القبطية بسقارة لمدة موسمين 1976-1977 ونشرت نتائج الحفائر في مجلة كلية الآثار – جامعة القاهرة عام 1977م ، وحفائر كلية الآثار بمنطقة بطن أهريت بمحافظة الفيوم لمدة موسمين 1975-1976م ونشرت نتائج الحفائر في مجلة كلية الآثار – جامعة القاهرة عام 1978م.
وقد أشرفت على أكثر من 64 رسالة للماجستير والدكتوراه لطلاب من مختلف بلاد العالم مثل سورية والأردن والعراق والسعودية وإيران وباكستان والصين وألمانيا الغربية والولايات المتحدة.
تقول الدكتورة سعاد ماهر: "أن أهم وظيفة شغلتها فى حياتي واعتز بها هى أنني أم لولد واحد اعتقد انه مواطن صالح نشأ على حب دينه ووطنه ويعمل الآن بصفة دائمة فى الصفوف الأولى لجبهة القتال وهو نقيب مدرعات يشارك أخوانه على خط النار حبهم للقتال وإيمانهم الكامل بمعركة التحرير للأرض العربية والمقدسات الإسلامية واستعادة مدينة القدس والمسجد الأقصى الشريف مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى القبلتين فى الإسلام واعتقد أن هذه هى الوظيفة الأولى .. أما حياتي العلمية فأنني بحمد الله أول سيدة فى العالم حصلت على الدكتوراه فى الآثار الإسلامية كما أننى أول سيدة فى العالم أيضا حصلت على وسام جمعية سانت مارتينون – التى أنشئت فى القرن الرابع عشر الميلادي وكان ترتيبي ال12 ممن حملوا وسامها فى العالم وهم بالترتيب احد عشر رجلا وكنت أنا أول سيدة تمنح هذا الوسام العالمي تقديرا لما قدمته من بحوث وموضوعات علمية أبرزت التسامح فى الإسلام حيث كنت أقوم بتدريس الآثار القبطية إلى جانب تخصصي فى الآثار الإسلامية".
ومن أقوالها أيضاً : "أننى أدعو إلى إراز معالم الآثار
الإسلامية وان لا تقوم حولها إلا مبان ذات طابع إسلامي إذا دعت الضرورة إلى قيام
مباني حولها وهذا بالنسبة للقاهرة
- والمسلمون يستطيعون أن يجدوا روائع المباني المودرن فى
أوريا وغيرها ولكنهم يذهبون إلى مكة والمدينة والمعالم الإسلامية للعبادة فى جو من
الروحانية التى يضيفها التكوين الإسلامي على مساجدهم وما حولها".
عالمة الموسوعات:
ألفت الدكتورة سعاد ماهر أكثر من ثمانين مؤلفا عن الحضارة والآثار والفنون الإسلامية والقبطية منها: "موسوعة مساجد مصر وأولياء الله الصالحين"، فى خمسة أجزاء فى أكثر من ألفين صفحة ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1971-1983م، و"موسوعة البلد الأمين خلال 14 قرن"، ثلاثة أجزاء، في عشر مجلدات، دار العلم، جدة، و"موسوعة مدينة طيبة خلال 14 قرن"، عشرة أجزاء، دار العلم للطباعة، جدة، و"القاهرة في ألف عام"، وزارة الثقافة المصرية، شاركت بكتابة المادة العلمية للعصر القبطي والإسلامي حتى عصر محمد على، و"لجامع الأزهر أثر وحضارة"، و"مدينة أسوان وآثارها القبطية والإسلامية"، الجهاز المركزي للكتب، القاهرة، 1977م .
مساجد مصر وأولياء الله الصالحين:
"الحضارة أسمى وأبقى للأمة من تراث، لقد كان للعرب والذين دخلوا فى الإسلام تراث ومشاركة وإبداع منذ أقدم العصور، ولكنه لم يصبح عميقاً شاملاً مضيئاً وهاجا إلا بالإسلام، الذى امتدت فتوحاته من الهند شرقاً إلى المحيط الأطلسى غرباً ..مستقراً فى بعض بلدانها، ماراً أو مجاوراً بعضها الآخر، كان لهولاء وهؤلاء علوم وفنون فادخلوا فيه ومزجوا بين علومه وعلومهم، وهنا سطع نور الإسلام بما أقام للعلم من دولة وللفنون من طلاوة وللصناعات من نهضة ولسباب الحياة من أمن وتقدم وسعادة".
بهذه الكلمات قدمت الدكتور سعاد ماهر لموسوعتها الخالد "مساجد مصر" ورأت أن العمارة هى السجل الذى يستقى منه تاريخ الأقدمين بما فيه من تقدم وازدهار أو تدهور أو تخلف وان العمارة الاسلامية وخاصة الدينية منها قد سجلت لنا تاريخ الدول المتعاقبة واعطتنا صورة صادقة عن منشئها وذلك أن العقيدة الإسلامية التى تغلغلت فى نفوس معتنقيها لسماحتها ولملاءمتها لطبيعة النفس البشرية ولحرصها علفى الاسعاد فى الدارين، ارتبطت ارتباطا وثيقا بعمارة المساجد التى يعمرها من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله ويعمرها الزاهدون والمتصوفون والذاكرون الله كثيراً والعرفين بالله ويعمرها حلقات الدرس من فقد وحديث ومنطق وكلام ومجالس أدب من نحو وبلاغة ونقد ندوات الاجتماع التى لكافة العلوم ويعمرها الفقهاء والعلماء والأئمة والأدباء ويقوى بها الضعيف والغريب وياتى إليها ابن السبيل والمسكين ويرفع صوته فيها الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر والداعى إلى الخير .وإذا كان هو حال العمارة فى العالم الإسلامى فإن مصر تزخر بعدد من العمائر يكفى لتسجيل احداثها اليومية خلال الأربعة عشر قرناً التى مرت عليها منذ اعتناقها الدين الحنيف ويكفى للتدليل أن مدينة القاهرة بها 660أثراً مسجلاً ، هذا إلى المشاهد والأضرحة عددها بضعة آلاف ...
وقد وجدت الدكتور سعاد ماهر وهى تشغل أستاذ كرسى العمارة الإسلامية فى جامعة القاهرة أن من واجبها أن تدلى بدلوها فى هذا المجال خاصة وأنه لم يلج هذا المجال من قبلها سوى الدكتور حسن عبدالوهاب فى كتابه "تاريخ المساجد الأثرية" فشمرت عن ساعد الجهد وكان هذا الموسوعة العظيمة التى لم تكتف فيها بتاريخ المساجد وإنما تناولت الأضرحة والمشاهد والمزارات وتراجم أصحابها وتناولت فى المجلد الأول دراسة تمهيدية عن المسجد فى الاسلام وتطوره المعمارى وتحدثت عن المدرسة التى جمعت بين العبادة والدراسة وتدرجت فى تسلسل زمنى حتى وصلت فى الجزء الأول إلى العصر الفاطمى ثم تناولت فى الجزء الثانى العصر الايوبى وجزء من العصر المملوكى وفى الجزء الثالث باقى العصر المملوكى الزاخر بالعمارة التى وصلت للذروة فى الإبداع والخلق ثم تناولت فى الجزء الرابع عمارة العصر العثمانى ومساجده ومزارته وأضرحته وهذا العصر أولى أهمية عظمى للتصوف ورجاله لذا كثرت الأضرحة والمقامات لأولياء الله الصالحين.(1)
وقد جمعت الدكتور سعاد ماهر فى هذه الموسوعة فى دراسة هذه العمائر بين ترجمة المنشىء أو صاحب الضريح والتاريخ السياسى للفترة الذى أنشىء فيها الأثر، فمثلا عندما تناولت مسجد الإمام زين العابدين بحى زين العابدين ترجمت له ترجمة موسعة ذاكرة مناقبه وخصاله وفضله وتاريخ عصره وأسرته، ثم تناولت الحديث عن طائفة الزيدية وهى أكبر فرق الشيعة وأماكن انتشارها فى طبرستان واليمن ولا يزال معظم اليمنين يعتنقون المذهب الزيدى الذىاشتهر منهم الإمام الشوكانى المتوفى 1250م، ثم عرجت بعد هذه التفاصيل التاريخية لتصف المشهد وصفا معماريا دقيقاً، (2) وأمثلة تكررت عند حديثها عن الجامع الأزهر حيث استوفت تاريخه على مدار ألف عام ..
كما تناولت فى كثير من الأحيان دراسة الحى أو البلد الموجود به الأثر واتبعت هذا بوصف معمارى للأثر منذ إنشائه والإصلاحات والترميمات التى أجريت له خلال العصور، مثل حديثها عن مسجد الإمام الطرطوشى بالإسكندرية فبعد أن تحدثت عن الإمام الطرطوشى صاحب كتاب "سراج الملوك" وهو الإمام أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن بن سليمان بن أيوب القرشى الفهرى الطرطوشى المعروف بابن رندقة المولود سنة 450أو 451هـ فى مدينة طرطوشة وإليها ينسب ثم تحدثت عن مدينة طرطوشة الأندلسية فقالت "أنها مدينة كبيرة من مدن الأندلس تقوم على سفح جبل إلى الشرق من مدينة بلنسية وقرطبة وبينها وبين البحر عشروة ميلاً، ثم تحدثت عن تلقيعه العلم فى الأندلس ثم رحيله من الأندلس عام 476هـ لتأدية فريضة الحج ثم ذهابه لبغداد التى كانت تزدحم بالعلماء وذهبه بعد ذلك إلى الشام ثم تولية شطره إلى مدينة الأسكندرية التى كانت خارجة للتو من مجاعات ومشاكل حدثت أيام المستنصر الفاطمى ثم مكوثه لآخر حياته بمدينة الإسكندرية".. ثم تخبرنا عن مذهب مصر الشيعى الذى بذل الفاطميين جهودا كبيرة فى تحول مصر إليه إلا أن الإسكندرية استعصت على هذا المذهب الدخيل وصارت عاصمة للمذهب السنى طوال قرنين ونصف هى مدة حكم الفاطميين لمصر ونزح إليها العديد من الأعلام مثل الحافظ السلفى وغيرهم وذلك بفضل نزوح الآلاف من المغاربة إليها عبر ذهابهم للحج ،ثم بعد ذلك تعرضت للمسجد ووصفته معماريا(3)
هذا وقد زودت الكتاب بمجموعة من الصور الملونة أو السوداء للأثر ورسمت كروكى له.
وبعد عمر حافل بالانجازات توفيت الدكتورة سعاد ماهر سنة 1996 عن عمر اقترب من الثمانين عاما ..
الهوامش :
1- سعاد ماهر، مساجد مصر ، ص11- 13
2- سعاد ماهر، مساجد مصر ، ص104- 106
3- سعاد ماهر، مساجد مصر ، ص330- 335