خلافة ذو النورين عثمان بن عفّان رضي الله عنه
سلسلة الخلافة الإسلامية ٣
*الباب الأول : ذي النورين عثمان بن عفّان رضي الله عنه بين مكة والمدينة*
*رابعا: إسلامه:*
كان عثمان قد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، ولم يعرف عنه تلكؤ، أو تلعثم، بل كان سباق أجاب على الفور
دعوة الصديق، فكان بذلك من السابقين الأولين حتى قال أبو إسحاق : كان أول الناس إسلاما بعد أبي بكر، وعلي، وزيد بن حارثة عثمان (1)، فكان بذلك رابع من أسلم من الرجال، ولعل سبقه هذا إلى الإسلام كان نتيجة لما حدث له عند عودته من الشام، وقد قصه رضي الله عنه على رسول الله (ﷺ) حين دخل عليه هو وطلحة بن عبيد الله، فعرض عليهما الإسلام، وقرأ عليهما القران، وأنبأهما بحقوق الإسلام، ووعدهما الكرامة من الله، فأمنا، وصدقا . فقال عثمان: یا رسول
الله ! قدمت حديثاً من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء، ونحن كالنيام إذا مناد ينادينا: أيها النيام ! هبوا ؛ فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا، فسمعنا بك (2) .
لا شك أن هذه الحادثة تترك في نفس صاحبها أثرا إيجابية لا يستطيع أن يتخلی - عنه، عندما يرى الحقيقة ماثلة بين عينيه، فمن ذا الذي يسمع بخروج النبي (ﷺ) قبل أن يصل إلى البلد الذي يعيش فيه ؛ حتى إذا نزله، ووجد الأحداث والحقائق تنطق كلها بصدق ما سمع به، ثم يتردد في إجابة الدعوة ؟! لا يستطيع الإنسان مهما كان مكابرا إلا أن يذعن للحق، ومهما أظهر الجفاء فإن ضميره لا يزال يتلجلج في صدره؛ حتى يؤمن به أو يموت، فيتخلص من وخز الضمير وتأنيبه، ولم تكن سرعة تلبيته عن طيش، أو حمق، ولكنها كانت عن يقين راسخ، وتصديق لا يتطرق إليه شك (3)، فقد تأمل في هذه الدعوة الجديدة بهدوء كعادته في معالجة الأمور، فوجد: أنها دعوة إلى الفضيلة، ونبد للرذيلة، دعوة إلى التوحيد، وتحذير من الشرك، دعوة إلى العبادة، وترهيب من الغفلة، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وترهيب من الأخلاق السيئة، ثم نظر إلى قومه، فإذا هم يعبدون الأوثان، و ياكلون الميتة، ويسيئون الجوار، ويستبيحون المحارم من سفك الدماء، وغيرها(4)،
وإذا بالنبي محمد بن عبد الله (ﷺ) صادق أمين، يعرف عنه كل خير، ولا يعرف عنه شر قط، فلم تعهد عليه كذبة، ولم تحسب عليه خيانة، فإذا هو يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى صلة الرحم، وحسن الجوار، والصلاة، والصوم، وألا يعبد غير الله (5)، فأسلم على يد أبي بكر الصديق، ومضى في إيمانه قدما، قويا، هادئا، وديعا، صابرا، عظيما، راضيا، عفوا، کریما، محسنا، رحیما، سخيا، باذلا، يواسي المؤمنين، ويعين المستضعفين، حتى اشتدت قناة الإسلام (6)، وفي إسلام عثمان قالت خالته سعدی بنت کریز :
هدى الله عثمانا بقولي إلى الهدى ** وأرشده و الله يهدي إلى الحقِ
تابع بالرأي السديد محمدا **وكان برأيٍ لا يصد عن الصدقِ
وأنكحه المبعوث بالحق بنته ** فكان كبدرٍ مازج الشمس في الأفقِ
فداؤك يابن الهاشميين** مهجتي وأنت أمينُ الله أُرسلت إلى الخلقِ (7)
*خامسا: زواجه من رقية بنت رسول الله(ﷺ):*
فرح المسلمون بإسلام عثمان فرحا شديدا، وتوثقت بينه وبينهم عُرا المحبة وأخوة الإيمان، وأكرمه الله تعالى بالزواج من بنت رسول الله (ﷺ) رقية، وقصة ذلك: أن رسول الله (ﷺ) كان قد زوجها من عتبة بن أبي لهب، وزوج أختها أم
کلثوم من عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت سورة المسد: تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلی نارا ذات له وامرأته حمّالة
الحطب في جيدها حبل من مسد * [المسد: 1-5] قال لهما أبو لهب، وأمهما أم جميل بنت حرب بن أمية ( حمالة الحطب ): فارقا ابنتي محمد ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما کرامة من الله تعالى لهما، وهوانا لابني أبي لهب (8)
وما كاد عثمان رضي الله عنه يسمع بخبر طلاق رقية حتى استطار (9) فرحة ... وبادر فخطبها من رسول الله (ﷺ) فزوجها الرسول الكريم (ﷺ) منه، وزفّتها(10) أم المؤمنين خديجة بنت خویلد، وقد كان عثمان من أبهى قریش طلعة وكانت هي تضاهيه قسامةً، وصباحةً، فكان يقال لها حين زُفّت إليه :
أحسن زوجين رأى إنسان ** رقيه، وزوجها عثمانُ (11)
وعن عبد الرحمن بن عثمان القرشي: أن رسول الله (ﷺ) دخل على ابنته وهي تغسل رأس عثمان، فقال: يا بنية ! أحسني إلى أبي عبد الله، فإنه أشبه أصحابي بي خُلُقاً(12)
ظنّت أم جميل بنت حرب، وزوجها أبولهب: أنّما بتسريح رقية، وأم كلثوم رضي الله عنهما سيصيبان من البيت المحمدي مقتاً، أو سيوهنانه، ولكن الله -عز وجل- اختار لرقية، وأم كلثوم الخير، ورد الشقيين أم جميل، وأبا لهب بغيظهما لم ينالا خيراً، وكفى الله البيت النبوي شرهما، وكان أمر الله قدرة مقدور(13).
*سادسا: ابتلاؤه، وهجرته إلى الحبشة:*
إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد، والجماعات، والشعوب، والأمم، والأول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام، وتحملوا من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم، ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فقد أوذي عثمان، وعذب في سبيل الله تعالى على يدي عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية، الذي أخذه، فأوثقه رباطاً، وقال له: أترغب عن ملة ابائك إلى دين محدث ؟ والله لا أحُلُّك أبدا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين ! فقال عثمان رضي الله عنه: والله لا أدعه أبدا، ولا أفارقه ! فلما رأى الحكم صلابته في دينه ؛ تركه(14)، واشتد الإيذاء بالمسلمين جميعا، وتجاوز الحد ؛ حيث قتل ياسر، وزوجته سمية، والنبي يتألم أشد الألم، ويفكر إلى أين يذهب المسلمون ؟ ثم اهتدى رسول الله (ﷺ) إلى الحبشة، حيث قال للمسلمين : « لو خرجتم إلى الحبشة ؛ فإنّ بها ملكا صالحا، لا يظلم عنده أحد»(15).
وبدأت الهجرة والنبي(ﷺ) يتألم، وهو يرى الفئة المؤمنة تتسلل سرا(16) خارجة من مكة، ويركبون البحر، وخرج يمتطي بعضهم الدواب، والبعض الاخر يسير على الأقدام، وتابعوا السير حتى وصلوا ساحل البحر الأحمر، ثم أمَّروا عليهم عثمان بن مظعون، وشاءت عناية الله أن يجدوا سفينتين، فركبوا مقابل نصف دينار لكلٍ منهم، وعلمت قريش، فأسرعت في تعقبهم إلى الساحل، ولكنهم كانوا قد أبحرت بهم السفينتان (17)، وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى، والهجرة الثانية
عثمان بن عفان، ومعه فيهما امرأته رقية بنت رسول الله (ﷺ)، وكان وصولهم للحبشة في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة، فوجدوا الأمن، والأمان، وحرية العبادة، وقد تحدث القران الكريم عن هجرة المسلمين الأوائل إلى أرض الحبشة قال تعالى : وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل: 41].
وقد نقل القرطبي - رحمه الله - قول قتادة - رحمه الله - : المراد: أصحاب محمد(ﷺ)، ظلمهم المشركون بمكة، وأخرجوهم ؛ حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة، وجعل لهم أنصار من المؤمنين (18).
وقال تعالى:
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10 ]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد جعفر بن أبي طالب، والذين خرجوا معه إلى الحبشة(19). وقد استفاد عثمان رضي الله عنه من هذه الهجرة، وأضاف خبرة ودروسا لنفسه، استفاد منها في مسيرته الميمونة، ومن أهم هذه الدروس، والعبر:
1 - أن ثبات المؤمنين على عقيدتهم بعد أن ينزل بهم الأشرار، والضالون أنواع العذاب والاضطهاد دليل على صدق إيمانهم، وإخلاصهم في معتقداتهم، وسمو نفوسهم، وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضمير، واطمئنان النفس، والعقل، وما يأملونه من رضا الله - جل شأنه - أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من تعذيب، وحرمان، واضطهاد، لأن السيطرة في المؤمنين الصادقين،والدعاة المخلصين، تكون دائما وأبدا لأرواحهم، لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطلب أرواحهم من حيث لا يبالون بما تتطلبه أجسامهم من راحة، وشبع، ولذة، وبهذا تنتصر الدعوات وبهذا تتحرر الجماهير من الظلمات، والجهالات (20) .
2 - وقد تعلم عثمان رضي الله عنه من هدي النبي (ﷺ) الشفقة على الأمة، وظهرت هذه الشفقة عندما تولى الخلافة، وقبلها لما كان في المجتمع المدني في عهد النبي (ﷺ)، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما فقد رأى بعينه وبصيرة قلبه شفقة النبي (ﷺ) على أصحابه، ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عن أمنهم، وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد، فكان الأمر كما قال (ﷺ)، فأمِنوا في دينهم، ونزلوا عنده في خير منزل (21) فالرسول (ﷺ) هو الذي وجه الأنظار إلى الحبشة، وهو الذي اختار المكان الامن لجماعته، ودعوته؛ كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر أن تخَطِط بحكمة، وبعد نظر لحماية الدعوة، والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركز من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي
للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه، فجنود الدعوة هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم، وحمايتهم، دون أن يتم أي تفريط بأرواحهم، وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ما على الأرض من بشر خارجين عن دين الله، وتوحيده (22)
3 - وتعلم عثمان رضي الله عنه من هدي النبي ( ﷺ) في هجرة الحبشة: أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد، وأهله، ورحمه، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة، فهو منهج بعيد عن نهج النلي(ﷺ)(23)، ولهذا لما تولى ذو الثورين الخلافة كان أقرباؤه في مقدمة الجيوش، فهذا عبد الله بن أبي سرح في فتوحات إفريقية، وذاك عبد الله بن عامر في فتوحات المشرق، وألزم معاوية أن يركب البحر ومعه زوجته، وأن يكون في مقدمة الجيوش الغازية، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله عند حديثنا عن الفتوحات .
4 - كان عثمان رضي الله عنه أول من هاجر إلى الحبشة بأهله من هذه الأمة (24)، قال رسول الله(ﷺ): «صحبهما الله ! إ عثمان الأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط »(25).
ولما أشيع: أن أهل مكة قد أسلموا وبلغ ذلك مهاجري الحبشة أقبلوا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا، فدخلوا في جوار بعض أهل مكة، وكان فيمن رجع عثمان بن عفان وزوجه رقية رضي الله عنهما(26)، واستقر المقام به حتى أذن الله بالهجرة إلى المدينة، ومنذ اليوم الذي أسلم فيه عثمان لزم النبي(ﷺ) حيث كان، ولم يفارقه إلا للهجرة بإذنه، أو في مهمة من المهام التي يندب لها، ولا يغني أحد فيها غناءه، شأنه في هذه الملازمة شأن الخلفاء الراشدين جميعا، كأنما هي خاصة من خواصهم، رشحهم لها ما رشحهم بعد ذلك للخلافة متعاقبين (27)، لقد كان ذو النورين على صلة وثيقة بالدعوة الكبرى من سنتها الأولى، فلم يَفُته شيء من أخبار النبوة الخاصة، والعامة في حياة النبي (ﷺ)، ولم يفته شيء بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشيخين، ولم يفته بعبارة أخرى شيء مما نسميه اليوم بأعمال التأسيس في الدولة الإسلامية (28) .
*انتهت الحلقة الثانية من حلقات خلافة ذي النورين عثمات بن عفان وسنتكلم في الحلقة القادمة عن عثمان والقرآن كيف كانت حياته مع كتاب الله*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المراجع والهوامش*
(1) السيرة النبوية لابن هشام ( 287/1 ، 288 ، 289 ) .
(2) الطبقات ، لابن سعد ( 55/3 ) ۔
(3) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين ، ص ( 302 )
(4) انظر: مرويات العهد المكي ، لعادل عبد الغفور (805/2 ) .
(5) عثمان بن عفان رضي الله عنه ، لصادق عرجون ، ص ( 53 ) .
(6) فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ( 37/1)
(7) البداية والنهاية ( 210/7 )۔
(8) ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه لمحمد رشيد رضا ، ص ( 12 ) .
(9) كاد يطير من شدة الفرح
(10) زفّتها. قدمتها إلى زوجها
(11) أنساب الأشراف ، ص ( 89 ) ۔
(12) رواه الطبراني ورجاله ثقات ، قاله الهيثمي ، المجمع ، رقم ( 81/9 ) -
(13) دماء على قميص عثمان ، د. إبراهيم المنتاوي ، ص ( 84 )
(14) التمهيد والبيان ، ص ( 22 ).
(15) الهجرة في القران الكريم ، ص ( 290 ) . والسيرة النبوية لابن هشام ( 413/1 ) .
(16) دماء على قميص عثمان ، ص ( 15 ) . والطبقات ( 204/1 ) .
(17) الطبقات ( 204/1 ) ، وتاريخ الطبري ( 69/2 ) .
(18) الجامع لأحكام القران ( 107/10 ) .
(19) المصدر السابق نفسه ( 240/15 ) .
(20) السيرة النبوية ، للدكتور مصطفى السباعي ، ص ( 57 ) .
(21) الهجرة في القران الكريم ، ص (312).
(22) التربية القيادية ( 333/1 ).
(23) المصدر السابق نفسه ( 333/1 ) . والسيرة النبوية للصبي ( 348/1 ) .
(24) الصواعق المرسلة ( 314/1 ) .
(25) المعرفة والتاريخ ( 268/3 ) ضعيف الإسناد .
(26) السيرة النبوية لابن هشام ( 402/1 ) .
(27) عثمان بن عفان ، للعقاد ، ص ( 80 ) .
(28) المصدر السابق نفسه ، ص ( 78 )
وسوم: العدد 895