وفاة أشهر صحافي أجنبي في الشرق الأوسط.. روبرت فيسك
وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” مرة بأنه أشهر صحافي في الشرق الأوسط، وهذا وصف يقترب من الصحة، فقد عاش روبرت فيسك (1946- 2020) معظم حياته في الشرق الأوسط، وغطى معظم النزاعات التي مرت عليه والانقلابات والثورات والمجازر، فهو أول صحافي أخبر العالم عن مجزرة حماة عام 1982 والتي ارتكبتها قوات حافظ الأسد ضد مدينة حماة والمعارضين الإسلاميين، وكان أول صحافي يدخل أجنبي يدخل مخيم صبرا وشاتيلا ويكشف عن المجزرة الفظيعة التي ارتكبتها الميليشيات المسيحية بدعم من القوات الإسرائيلية عام 1982.
وما بين عمله في تغطية الحروب الأهلية والاجتياحات الخارجية للمنطقة، ظل المراقب لتطورات المنطقة بحيث أصبحت مركز اهتمامه، خاصة القضية الفلسطينية التي ظلت محل اهتمامه الكبير في محاضراته ومقالاته الدورية التي كتبها في صحيفة “إندبندنت” التي عمل مراسلا لها في الشرق الأوسط حتى وفاته.
وظلت فكرة الظلم التي تعرض لها الشعب الفلسطيني مركز اهتمامه بالإضافة للنفاق الغربي. وكتب عن الانتفاضة والمستوطنات حيث انتقد نفاق الصحافة الغربية التي أطلقت عليها “أحياء”. ومع ذلك لم يوفر القيادة الفلسطينية من النقد مثل غيرها من القيادات العربية الديكتاتورية، خاصة حكام السعودية ومصر. وأعمل في مقالات، خاصة في السنوات الأخيرة لغته الساخرة، وحاول تفكيك اللغة المراوغة معتمدا في ذلك على فهمه لمجال اللغة ودلالاتها من محاضرات المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي الذي دافع عن حق الفلسطينيين.
ولقد هيأ عمل فيسك الصحافي في أيرلندا للعمل في مناطق النزاعات، فأول مهنة صحافية عمل بها كانت تغطيته للحرب الدائرة بين المطالبين باستقلال شمال أيرلندا والقوات البريطانية.
وكان فيسك قد دخل مستشفى سانت فينسنت في دبلن، جمهورية أيرلندا، وقالت مصادر إنه تعرض لجلطة دماغية توفي على إثرها.
بدأ فيسك عمله الصحافي في “صاندي اكسبرس” ثم انتقل إلى “التايمز” حيث ظل مراسلها في مدينة بلفاست في الفترة ما بين 1972- 1975، في ذروة الحرب أو ما تعرف بالمشاكل أو الاضطرابات.
وانتقل في 1976 للعمل كمراسل للصحيفة في الشرق الأوسط من العاصمة اللبنانية بيروت التي اتخذها مركزا ومحل إقامة له، ومنها غطى الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990) والثورة الإيرانية (1979) والاجتياح السوفييتي لأفغانستان (1979) واجتياح إسرائيل للبنان من بين عدة حروب.
واستقال منها في عام 1989 بعد خلاف مع صاحبها روبرت ميردوخ، وانضم لصحيفة “إندبندنت” حيث ظل مراسلها حتى وفاته.
وغطى للصحيفة الاجتياح العراقي للكويت، والحرب في يوغسلافيا والحرب الأهلية في الجزائر، أو “العشرية السوداء” وكان واحدا من أوائل الذين رصدوا صعود تنظيم القاعدة، وقابل زعيمه أسامة بن لادن عندما لجأ إلى السودان، ومن ثم قابله أكثر من مرة في أفغانستان، وذلك قبل وبعد هجمات 9/11 وسجل انطباعاته عنه. ووصفه بأنه “رجل خجول” ويبدو “في كل بوصة من جسمه كمحارب جبال من أسطورة المجاهدين”. وسافر إلى الحدود الباكستانية- الأفغانية لمقابلته بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان، وتعرض لاعتداء من اللاجئين الغاضبين من قتل أبناء بلدهم على يد القوات الغربية.
وحوّل الحادث إلى خبر على الصفحة الأولى في “إندبندنت” حيث أرفق صورته والجراح والكدمات على وجهه. وكتب: “اكتشفت أن معظم الرجال والأولاد الذين هاجموني كانوا من الأفغان، ولم يكونوا ليفعلوا لك، إلا أن وحشيتهم هي نتاج لوحشيتنا، لأننا من سلّح كفاحهم ضد الروس وتجاهلنا معاناتهم وضحكنا على حربهم الأهلية ومن ثم سلّحناهم وموّلناهم مرة أخرى في الحرب العظمى للمدنية على بعد أميال ثم قصفنا بيوتهم ومزقنا عائلاتهم وقلنا إن هذه آثار جانبية”.
وبعد هجمات أمريكا، غطى فيسك الحروب الأهلية والغزو والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المنطقة وظل فيها حتى وفاته. وعرف عن فيسك كرهه للصحافيين الكسالى الذين يجلسون وراء مكاتبهم ولا يخرجون لمواقع الحدث بحثا عن الأحداث الحقيقية. وأطلق عليهم أثناء عمله في بغداد “صحافيو الفنادق”. ونال على هذا الاحترام والجوائز التقديرية والتكريمات.
ولد فيسك في ميدينستون بمقاطعة كينت وكان والده ويليام (بيل) فيسك يعمل في مجلسها المحلي وقاتل في الحرب العالمية الأولى، وهو موضوع عاد إليه فيسك في مقالاته بالسنوات الأخيرة. وتلقى تعليمه الإبتدائي في مدرسة ياردلي وساتون فالينس للكبار ومن ثم أنهى دراسته الجامعية في جامعة لانكستر حيث عمل في صحيفتها أثناء الدراسة.
وفي عام 1983 أنهى دراسته العليا بكلية ترينتي في دبلن وكانت أطروحة الدكتوراة التي ناقشها عن محدودية الحروب. وكان فيسك في كل عام يقوم بجولة محاضرات في كندا والولايات المتحدة حتى وقت قريب، ولكنه ظل عرضة لهجمات اللوبي المؤيد لإسرائيل في البلدين، بسبب نقده الحاد لإسرائيل والسياسة الأمريكية، وهو موضوع ظل يكتب عنه كل صيف.
وقبل غزو أمريكا للعراق، كتب فيسك عن خطاب وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أمام مجلس الأمن الذي قدم المبرر للحرب. ووصف الجنرال الذي كان يعانق كل من في القاعة وخلفه جاك سترو، وزير الخارجية البريطاني الذي كان يحضر نفسه للعناق الأكبر. وطالما انتقد رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، الذي وصفه بجرو جورج دبليو بوش، و”بلير كوت العمارة” تذكيرا بالهزيمة البريطانية في الحرب العالمية الأولى في جنوب العراق.
وسجل فيسك مواقفه الناقدة للغرب في كتابه الضخم “الحرب العظمى من أجل الحضارة- غزو الشرق الأوسط” (2005) عن صراعات المنطقة بما فيها النزاعات التي غطاها ناقدا السياسات الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية. ويعد كتابه عن الحرب الأهلية اللبنانية “ويلات أمة” من أشهر كتبه الصادر عام 1990 وصدرت منه عدة طبعات وترجم لعدة لغات منها العربية.
وعرف عنه وهو الذي كان يتحدث العربية بطلاقة، اهتمامه بأرشفة تقاريره التي احتفظ بها واعتمد عليها في كتابه الضخم عن الشرق الأوسط، كما اهتم بالموضوع الأيرلندي.
وقرر الحصول على الجنسية الأيرلندية. وتزوج فيسك من الصحافية الأمريكية لارا مارلو في 1994 وانفصلا في 2006 بدون أولاد. وبالإضافة للجوائز التي حصل عليها لتغطيته الحروب مثل حرب الخليج وجائزة أوريل وحصوله على جائزة الصحافة البريطانية سبع مرات في فئة الصحافي الدولي، تسابقت الجامعات لمنحه شهادات دكتوراة فخرية، مثل الجامعة الأمريكية في بيروت، وجامعة كوين في بلفاست، ولانكستر وليفربول وسانت أندروز والجامعة المفتوحة في بريطانيا وكارلتون وكينت وكلية ترينتي في دبلن، بالإضافة لجوائز تقديرية ومحاضرات فخرية وما إلى ذلك، تعطي صورة عن أهميته ودوره في كشف الأوضاع في المنطقة.
لكن فيسك تعرض في السنوات الأخيرة لانتقادات بسبب تغطيته للحرب الأهلية السورية، حيث جاءت تغطياته لها مراوغِة، واعتمد فيها على علاقاته مع نظام بشار الأسد، فتغطيته من بلدة دوما جاءت بعد وصوله دوما التي تعرضت عام 2018 لهجوم كيماوي.
وصف فيسك نفسه كشخص محايد، ولم يصوت أبدا، ولكنه آمن أن الصحافي يجب عليه تحدي السلطة خاصة الحكومات التي تأخذ مواطنيها للحرب. وكان معجبا بكتّاب إسرائيليين ناضلوا للدفاع عن حقوق الفلسطينيين مثل عميرة هاس وجدعون ليفي الذي قابله العام الماضي. ونقل عن هاس قولها: “هناك مفهوم خاطئ، وهو أن الصحافي يلتزم بالموضوعية ولكن مهمته هي رصد السلطة ومراكزها”.
وظل فيسك يتحدث عن “الأكاذيب والتقارير المشوهة والكارثة في الشرق الأوسط”. وكتب في عام 2010 أن مهمة الصحافي الأجنبي هي أن يكون محايدا وغير متحيز ويقف مع الذين يعانون أيا كانوا. وفي كتابه “الحرب العظمى من أجل المدنية” رد كل مشاكل المنطقة إلى الخطوط التي رسمت على الخرائط بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. فقد رسم المنتصرون بعد هذه الحرب وبسرعة الخطوط التي قسمت شمال أيرلندا ويوغسلافيا ومعظم الشرق الأوسط، وقال: “قضيت معظم حياتي في بلفاست وسراييفو وبيروت وبغداد أراقب الناس داخل هذه الحدود”.
وسوم: العدد 901