العالم العامل الشيخ محمد سالم البيحاني
(1326 - 1391ه / 1908 - 1972م)
مولده ونشأته
هو محمد بن سالم بن حسين الكدادي البيحاني مؤسس المعهد العلمي في عدن، وُلد سنة (1326ه/ 1908م) في بيحان بعدن باليمن الجنوبي، تلقى علومه الدينية على يد والده، ثم هاجر إلى حضرموت حيث أخذ العلم عن أستاذه الشيخ عبد الله بن عمر الشاطري. ثم عاد إلى عدن، ومنها رحل إلى منطقة الشيخ عثمان، وأخذ العلم عن الشيخ أحمد العبادي، ثم سافر إلى مصر للدراسة بالأزهر الشريف، وهناك التقى إخوانه النعمان والزبيري والباحميش، ومنهم تشكلت نواة أحرار اليمن، وأصدروا جريدة (اليمن الخضراء)، وكان لهم نشاطهم في سبيل تحرير اليمن من الاستبداد.
والتحق بكلية الشريعة لكنه لأسباب قاهرة توقف عن متابعة الدراسة، وعاد إلى عدن، وعمل في حقل التربية والتعليم والوعظ والإرشاد، وألّف الكتب الكثيرة ونظم الشعر وألقى المحاضرات ونشر المقالات.
وكان (رحمه الله) فاقد البصر. يقول عن نفسه:
يقولون لي أعمى وما أنا بالأعمى ولكنما الأعمى الذي فقد العلما
والشيخ البيحاني رجل من الدعاة العاملين والعلماء المخلصين والمجاهدين الصابرين، يقول كلمة الحق بكل صراحة وجرأة، وقد انصرف لتربية الناشئة على مبادئ الإسلام الشامل الكامل لكل أمور الحياة، وتحدى الطغاة والأقزام من اللاهثين وراء سراب المادة والسائرين في ركاب الاستعمار، وكان من مؤسسي (الجمعية الإسلامية) في عدن التي حملت لواء الوعي الإسلامي، وكان يخطب في جامع العسقلاني، ثم افتتح المعهد الإسلامي الذي احتله الماركسيون الجنوبيون، واتخذوه مقرًا لوزارة الداخلية، وحاربوه منها ففر إلى اليمن الشمالي، واستقبل أحسن استقبال من الإخوان المسلمين وغيرهم من رجالات اليمن أمثال المحسن الكبير الحاج هائل سعيد.
معرفتي به
إن صلتي به قديمة؛ فقد كانت تربطني به رابطة الأخوة في الله، والعمل من أجل دينه الحنيف، والدعوة إلى تحقيق رسالة الإسلام السامية باستئناف الحياة الإسلامية على هدي الكتاب والسُّنَّة، في وقت تنكر فيه الكثيرون لهذا الدين الذي جهله أبناؤه، وعجز عن نصرته علماؤه، وخذله حكامه، وبخل عن البذل في سبيله أغنياؤه، وصار الدعاة الصادقون والعلماء المخلصون يلقون من البلاء والعنت ما الله به عليم.
إلا أن الثقة بالله الذي تكفل بحفظ كتابه والاطمئنان إلى أن المستقبل لهذا الدين والمجاهدة الصادقة لوضع معالم في الطريق لهذه الأمة التي تعيش في جاهلية القرن العشرين حتى تفيء إلى ظلال القرآن الكريم ومقوماته ودور الإنسان بين المادية والإسلام وتفقهه في رسالة التعاليم الإسلامية وأحوال المسلمين بين الأمس واليوم ودعوة الإسلام في طورها الجديد وشخصية رجل العقيدة.
إن هذه وغيرها هي التي جعلت من أمثال الشيخ البيحاني ومن سبقه من المجاهدين يصرّون على حمل رسالة الدعوة إلى الله ومواجهة الطغاة أينما وجدوا ويتحملون التكاليف والأعباء مهما تساقط المتساقطون وتقاعس المتقاعسون من أصحاب الدنيا وأذناب السلطة من أدعياء العلم.
كانت معرفتي به قديمة ولكنها سماعية وعن طريق المراسلة فقط حتى شاء الله أن يسعدنا به بالزيارة إلى الكويت سنة (1384ه/ 1964م) وهي زيارته الثانية للكويت، وكانت الأولى سنة (1376ه / 1956م)، وشرفت به في بيتي إذ حضر الندوة الأسبوعية العلمية التي نعقدها مع إخوان العقيدة مساء يوم الجمعة من كل أسبوع، فتحدّث الرجل المهيب والشيخ الجليل حديث العالم المتمكّن من مادته القوي في أسلوبه الذي رزقه الله بصيرة نفّاذة، وذكاءً متوقدًا، وغيرة على الدين لا يخاف معها في الحق لومة لائم، فأخذ بمجامع القلوب، وأفاض على الجميع من غزير علمه، وأدهشهم بحسن أسلوبه، وقوة حجته، ونصاعة بيانه يجمع بين القديم النافع والجديد الصالح مشربًا بروح الإيمان ورقة العاطفة وصدق اللهجة وقوة اليقين.
ورغم كبر سنه وفقده نعمة البصر؛ فقد عوضه الله بها نفاذ البصيرة ومنحه حيوية الشباب، وكم تمنينا أن يكون الكثير من مشايخ اليوم على شاكلة الشيخ البيحاني في مقارعة الظلم والتصدي للطغاة، والثقة بما عند الله لا بما عند الناس، وبذل العلم، ونشر المعرفة لراغبيها ابتغاء وجه الله تعالى وطلبًا لمرضاته وطمعًا في مثوبته.
أقوال العلماء فيه
يقول الأستاذ عبد الله عبد الوهاب القدسي في تقديمه لكتاب (إصلاح المجتمع) للشيخ البيحاني:
«... إن الشيخ محمد بن سالم البيحاني قائد الحركة الدينية في الجنوب اليمني؛ قد كرّس جهودًا جبارة في نشر لواء الدين الحنيف، وأرسل صوت هدايته مدويًا في سماء هذا الجنوب، وعمل على بناء المشاريع الخيرية الكثيرة، وأهمها المعهد العلمي الذي يعد بحق مفخرة زماننا الحاضر، وآية خلوده وإعجابه، ولقد بذل شيخنا البيحاني قصارى جهده في تعليم مبادئ الدين الإسلامي، وتفهيمه تفهيمًا صحيحًا خالصًا من الخزعبلات والخرافات التي ألحقت به، وحسبوها من الدين، وليست من الدين في شيء.
إنك حين تجلس إلى الشيخ البيحاني يتحدث إليك حديثًا له حلاوة وهو يمتاز على غيره بالحلم والورع وصلابة الرأي والصراحة في القول والتريث والثبات على المبدأ؛ وقد اشتهر صيته في الآفاق ووصلت فتاواه إلى أنحاء الجزيرة العربية وغيرها من البلدان الإسلامية...» انتهى.
ويقول عنه شاعر اليمن وأديبها الكبير (المجاهد الشهيد القاضي محمد محمود الزبيري):
«عرفت صاحب الفضيلة الأستاذ محمد سالم البيحاني في مصر، وسمعتُ به في اليمن، وصحبته في عدن؛ وعهدته في مصر رائدًا من رواد العلم البارزين، وسمعته هنالك في الأندية والمحافل متكلمًا لبقًا، وخطيبًا لسنًا، ومحاضرًا بارعًا. لا أقول إنه كان في صف المثقفين من شباب العرب، بل أعتقد أنه كان من أرفعهم رأسًا وأبعدهم صوتًا؛ ثم دارت الأيام دورتها وإذا أنا باليمن وهو في عدن، وإذا به يكتب إلى زميله الأستاذ الخطيب الشيخ أحمد محمد نعمان ويشكو إليه حياته في عدن، ويتبرم بالدنيا وما فيها، فعجبتُ لهذه الظاهرة أشدّ العجب، فهو العالم المستنير الذي عبّ من معين الثقافة، وعرف القديم والحديث، واستفاد من ألوان التيارات الفكرية المختلفة. ثم لا يستطيع أن يكون سعيدًا في البيئة العدنية. ثم عصفت بي الأقدار، وساقتني إلى عدن حيث استطعت أن أفهم السبب لشكواه، فقد تبيّن لي أن الثقافة الإسلامية الصحيحة في عدن تكاد تكون مفقودة لقلة العلماء، فما من مثقف يحاول الإصلاح في هذه البيئة إلا وتعترض سبيله صعوبة معضلة من الأوهام التي لا زالت هي معتقد الأغلبية الساحقة في عدن. وأعتقد أن هذا هو السبب لشكوى الأستاذ البيحاني إلى صديقه النعمان، لأن البيحاني قدم من مصر وعنده أمل واسع عريض يطمح به إلى أن يوجد في البيئة العدنية ثقافة إسلامية جديدة. وفي نفسي كلمة لا بد أن أكتبها لأنها متصلة بفن الخطابة من حيث هي، ذلك أن الأساليب الخطابية لها طبيعة خاصة تخالف سائر فنون الكلام، وتنفرد باعتبارات ومميزات آتية من شتى الملابسات التي تكتنف الخطيب والجمهور. ويجب أن نشير إلى أن البيئة التي يخلق فيها الأدب، إنما يُبتكر الأدب لأجلها وعلى غرارها، لاسيما إذا كان الأدب من النوع الذي يُقصد به التأثير على كل فرد من أفراد السامعين وذلك كالخطابة الدينية؛ فالخطيب الديني مرغم أن يفكر مع الجمهور ويتكلم مع الجمهور ويعالج خواطرهم برفق وحنان، وهذه هي الحقيقة الكبرى للبلاغة وأعني بها مطابقة مقتضى الحال.
فالموضوعات الدينية تفتح للخطيب آفاقًا واسعة لتوجيه المجتمع الإسلامي إلى كل سبب من أسباب القوة بأن يثير في المسلمين غريزة اللهفة على المجد الذاهب والحسرة على التاريخ الضائع ويقص عليهم عبرة الدهر في آبائهم وعظة الأيام في أنفسهم، ويربط الأسباب بالمسببات ويأسو الضعف بالقوة ويعالج الخور بالشجاعة والذلة بالصرامة، وأن لا يبعث لهم شجى إلا وأردفه بالسلوى، ولا خطأ إلا وكشف معه وجه الصواب ولا ألمًا ماضيًا إلا وذكر له علاجًا حاضرًا، ويضع بين أيديهم المشاريع العملية التي يستطيعون بها أن يطفئوا ما تأجج من حماسهم واهتاج من عواطفهم، حتى لا يخرجوا عن موضوع الخطابة وفيهم شيء من الحيرة والارتباك أو الألم العابث الخاوي الذي يقذف بالروح الإسلامية إلى وهدة اليأس والركود.
وهناك سرٌّ من أسرار الإسلام أغفله المسلمون في عصور الانحطاط، ذلك هو الدعوة إلى القوة والاستعداد ولن تجد عملاً من أعمال النبوة إلاّ وفيه معنى من معاني القوة أو سبب من أسبابها وبمثل تلك التربية النبوية العالية تنبع القوة الهائلة من أعماق النفس الإنسانية، ونحن نرى أن خطيبنا الأستاذ البيحاني يشير في كثير من خطبه إلى ما لا تتمُّ القوة الإسلامية إلاّ به، وهو تماسك الأخلاق ومحاربة الرذائل النفسيّة والحسيّة، والدعوة إلى العلم والصناعة والتفريق بين خير المدنيّة وشرها وذمّ البطالة وغير ذلك من الموضوعات المفيدة النافعة» انتهى.
مؤلفاته
إن الشيخ البيحاني مفخرة من مفاخر اليمن ترك لنا تراثًا ضخمًا من المؤلفات العلمية والأدبية والاجتماعية والشعر العربي الرصين المزين بالحكم والنصائح والمواعظ، ومن أشهر هذه المؤلفات:
- إصلاح المجتمع.
- عبادة ودين.
- أستاذ المرأة.
- كيف نعبد الله.
- أشعة الأنوار على مرويات الأخبار (وهو ديوان يتألف من أربعة آلاف ومئتين وستة وستين بيتًا من الشعر السهل الممتنع في سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين وخلافة بني أمية ودولة بني العباس إلى يومنا هذا)، وقد كتب مقدمة هذا الديوان علاّمة الشام الشيخ محمد بهجت البيطار.
- الفتوحات الربانية بالخطب والمواعظ القرآنية.
- زوبعة في فنجان.
- العطر اليماني في شعر البيحاني.
زيارتي الأخيرة لليمن
ولقد أكرمني الله في زيارتي الأخيرة لليمن في شهر ربيع الآخر سنة (1421ه/ يوليو 2000م) برفقة الأخ أبي أيمن الناصر والأخ خالد العقيل أن نزور المعهد الذي أسسه الشيخ البيحاني في عدن واطلعنا على نواحي النشاط المختلفة لجمعية البيحاني الخيرية للتربية والتعليم التي يقوم عليها تلامذة الشيخ من بعده حيث تقام الدورات التأهيلية والشرعية والحلقات القرآنية والكفالات التعليمية والحقيبة المدرسية والمراكز الصيفية. وهذه الجمعية التي أسسها تلامذة الشيخ البيحاني هي امتداد للجمعية الإسلامية للتربية والتعليم التي أسست عام 1950م برئاسة الشيخ البيحاني نفسه (رحمه الله)، ويتبعها المعهد العلمي الإسلامي وقد أسهم في دعم الجمعية والمعهد الكثير من المحسنين في عدن والسعودية والكويت والبحرين وقطر وإريتريا والحبشة وجيبوتي وغيرها لما يتمتع به الشيخ البيحاني من ثقة في تلك الديار وقبول عند الناس في العالم العربي والإسلامي.
وإن بلاد اليمن السعيد حريّة بأن تتحفنا بأمثال الشيخ البيحاني كما أتحفتنا بأمثال الشوكاني والصنعاني والزبيري وغيرهم من أفذاذ الرجال.
ولنا في أبناء الصحوة الإسلامية المباركة في اليمن وغيرها أكبر الأمل في تقديم الإسلام للدنيا كلها بصورته المشرقة المضيئة النقية الصافية التي تتجاوز العقبات وتنصرف إلى البناء التربوي الذي يصوغ الرجال ذوي العزائم القوية والهمم العالية والمواقف العلية التي تستعصي على الذوبان وتتعالى عن الهبوط في منحدرات العصبيات الدينية أو القبلية أو الإقليمية وتجعل الإسلام نصب أعينها وتعمل جهدها لإقامة دولته وتحقيق رسالته وتطبيق شريعته وحماية ثغوره. والله غالب على أمره.
وفاته
توفي الشيخ البيحاني في مدينة (تعز) يوم 26/12/1391ه. ولقد وفقني الله وإخواني محبي الشيخ البيحاني وتلامذته بإعادة طباعة كتابه (إصلاح المجتمع) الذي لقي رواجًا كبيرًا لدى الدعاة والخطباء وأئمة المساجد في الكويت وخارجها.
كما وفقنا الله لطباعته مرة أخرى بالمملكة العربية السعودية حين التحقت بالرابطة أمينًا عامًا مساعدًا وقد عهدنا إلى الأخ الدكتور أحمد المقري بتحقيق الكتاب وتخريج أحاديث الشواهد فقام بالعمل خير قيام وقد تكفّل بطباعته الشيخ محمد السبيع بادحدح على نفقته جزاه الله كل خير.
وما زال الكثير من مؤلفات شيخنا البيحاني في حاجة إلى إعادة الطبع مرات ومرات لتعم الفائدة منها، وتشيع المعرفة لدى جماهير الأمة وشبابها. كما أن هناك بعض المخطوطات المحتاجة لتهيئتها للطباعة ونشرها بين الناس، وآمل من شباب اليمن وطلاب الشيخ ومريديه أن ينهضوا بهذا العبء ويُشمِّروا عن ساعد الجد، وهم إن شاء الله أهل لذلك، فالإيمان يمان والحكمة يمانية كما قال المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
كما أرجو من إخواني أساتذة الجامعات اليمنية أن يوجهوا طلابهم في الدراسات العليا للكتابة عن الشيخ ومنهجه في الإصلاح وتبليغ دعوة الله وبيان جهوده العلمية وآثاره الدعوية في اليمن شماله وجنوبه، وإسهامه في الحياة السياسية وتصديه للدعوات الماركسية والمبادئ المستوردة من الشرق والغرب على حدٍ سواء، ودعوته لإقامة نظام الحياة وفق المنهج الإسلامي المستقى من الكتاب والسُّنَّة وما أجمع عليه سلف الأمة مما فيه صلاح حال المسلمين والنهوض بهم من كبوتهم. والله الموفق لكل خير.
رحم الله شيخنا محمد سالم البيحاني العالم الرباني وأسكنه فسيح جناته مع النبييين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
وسوم: العدد 907