الزعيم الكبير محمد علال الفاسي
(1328 - 1394ه / 1910 - 1974م)
مولده ونشأته
هو علال (أو محمد علال) بن عبد الواحد بن عبد السلام بن علال بن عبد الله ابن المجذوب الفاسي الفهري، هاجرت أسرته إلى الأندلس.
وُلد بمدينة (فاس) بالمغرب سنة (1328ه/ 1910م) وتعلّم بجامع القرويين حتى حصل على الشهادة العالمية عام 1932م، ونشأ نشأة عصامية جمع بين العلم الديني والحماس الوطني فهو زعيم وطني منذ كان طالبا، ومن كبار الخطباء والشعراء والعلماء بالمغرب، وكان له دور في مقارعة الاستعمار الفرنسي ومحاربته بكل الوسائل وأهمها نشر التعليم وتنظيم قطاعات الأمة للعمل الجماعي وخوض المعارك السياسية والتصدي لكل مخططات الاستعمار.
جهاده وجهوده
عارض منح الفرنسيين استغلال ماء مدينة فاس، وعارضهم حين أصدروا الظهير البربري لشقّ صفوف الأمة المغربية سنة 1930م فاعتقلته السلطات الفرنسية وهو طالب بالعالمية، ويعمل مدرسًا في المدرسة الناصرية، ونفته إلى بلدة (تازة) ثم عاد بعد الإفراج عنه إلى فاس سنة 1931م فمنعته من التدريس، فانصرف إلى جامع القرويين يلقي الدروس العلمية الليلية عن تاريخ الإسلام.
وفي عام 1933م، حاولت الإدارة الفرنسية اعتقاله فسافر إلى إسبانيا وسويسرا، واتصل بالأمير شكيب أرسلان وإخوانه المناضلين العرب والمسلمين، ثم عاد إلى البلاد عام 1934م، وأسس أول نقابة للعمال سنة 1936م، وأنشأ كتلة العمل الوطني السرية سنة 1937م فأبعدته السلطات إلى (الغابون) منفيًا من سنة 1937م إلى سنة 1941م ثم نُقل إلى (الكونغو) من سنة 1941م إلى سنة 1946م وهناك أُطلق سراحه فأنشأ مع رفاقه (حزب الاستقلال) ثم سافر متنقلاً بين البلاد العربية والأوروبية يدعو لاستقلال المغرب عن فرنسا، وعاد إلى المغرب سنة 1949م فمنعه الفرنسيون من الدخول، فأقام بمدينة (طنجة) وكانت يومئذ منطقة دولية.
وحين أُبعد الملك محمد الخامس سنة 1953م ونُفي من البلاد، دعا علال الفاسي الشعب المغربي للثورة ضد فرنسا وحين رجع الملك واستقرّت الأمور شارك في الحكم فترة قصيرة بعد وفاة محمد الخامس، حيث تولى وزارة الدولة للشؤون الإسلامية عام 1961م، ثم استقال عام 1963م.
ثم انصرف من خلال الحزب (حزب الاستقلال) إلى المعارضة غير العنيفة في مجلس النواب الذي كان عضوًا فيه وبقي رئيسًا للحزب من 1960م إلى عام 1967م.
إن أستاذنا العلاّمة المجاهد والزعيم الكبير علال الفاسي رجل من رجالات الإِسلام المعاصرين الذين حملوا دعوته وجاهدوا في سبيله وأمضوا حياتهم يقارعون الظلم والاستبداد ويحاربون الاستعمار، وهو رئيس حزب الاستقلال المغربي الذي اضطلع في بواكير إنشائه بالتصدي للاستعمار الفرنسي ومحاولته لنيل حقوق الشعب المغربي.
وكان الأستاذ علال الفاسي العالم المبرّز الذي قاد المسيرة نحو استرداد الحقوق للشعب المغربي العربي المسلم وشارك في المقاومة الوطنية بلسانه وقلمه وبدنه، وصار يتحرك في طول البلاد وعرضها مشجعًا الناس على الجهاد ومقاومة الاستعمار والتصدي لأعداء الإسلام الذين احتلوا البلاد وأذلّوا العباد ونهبوا الخيرات ونشروا الفساد.
ثم هاجر من بلده مطاردًا من الاستعمار وأعوانه، وطاف الأقطار العربية والإسلامية والعالمية معرِّفًا بقضية بلاده، معرِّيًا أساليب الاستعمار ووسائله، كاشفًا خططه ومراميه، موضِّحًا الطريق لاسترداد الحق ونيل الاستقلال وإقامة الشرع. وقد حيّاه الأديب الكبير علي أحمد باكثير بقصيدة جاء فيها:
ذكرتك يا علال والناس هجّع وللهمِّ حزٌّ في فؤادي قاطع تكاد الدّجى تقضي عليّ لأنها تداعت على قومي الشعوب فما وَنَتْ ذكرتك يا علال فانتابني الأسى كأني أنا المنفي دونك فاصطبر وددت لو اني في فلسطين ثائر وفي برقة أو في الجزائر قاصم فتلك بلادي لا أفرق بينها |
وليس سوى جفني وجفنك ساهد ولليأس فتك في أمانيّ حاصد دجى العرب تاهت في عماها المقاصد مصادرها عن حوضهم والموارد أكابد من آلامه ما أكابد فهذا شعور في بني العرب سائد لأهلي تنعاني الظبى لا القصائد ظهور العدى والباترات رواعد لها طارف في مجد قومي وتالد |
وقد استجاب لنداء علال الفاسي الكثير من داخل البلاد وخارجها والتفّ حوله الشباب واتخذوه زعيمًا لهم وقائدًا لمسيرتهم، فانطلق بهم مجمعًا لصفوفهم، شارحًا لهم خطوات العمل ومراحل الجهاد وأعباءه وتكاليفه. وقد استطاع في هذه الجولات أن يتصل بالكثيرين من القادة والزعماء والمجاهدين في العالم الإسلامي أمثال الإمام حسن البنا ومحمد صالح حرب وأمين الحسيني والبشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني وحسن الهضيبي وغيرهم.
لقاءاتي به
ولقد سعدت بلقائه مرات ومرات، واستفدتُ من دروسه ومحاضراته وندواته، حين كنا ندرس في مصر في أوائل الخمسينيات الميلادية.
وكنا - نحن الطلاب الوافدين - نشكّل جنسيات مختلفة من أنحاء الوطن الإسلامي ولكن رباط الإسلام وأخوته كانتا الأساس المتين الذي يقوم عليه تجمّع طلبة البعوث الإسلامية بمصر، وقد جرى حوار طويل معه أثاره بعض إخواننا الطلبة المغاربة المعارين الذين طالبوا الزعيم الفاسي بأن يُعنى حزب الاستقلال بالجانب التربوي بحيث لا يطغى الجانب السياسي على معظم نشاط الحزب، وقد تلقّى الزعيم الراحل هذه المناقشات بروح الود والإكبار واعتبرها بادرة طيِّبة من الشباب المغربي الذين استفادوا من وجودهم بمصر في الاتصال بالحركة الإسلامية المعاصرة.
مواقفه ورجولته
كان الأستاذ علال الفاسي وثيق الصلة بالدعاة الإسلاميين والعاملين في الحقل الإسلامي، ينسّق العمل معهم ويقف إلى جانبهم في محنهم ويتصدى للذود عنهم والدفاع عن أهدافهم، وقد اضطلع بمهمة تصعيد الحملة ضد طغيان السلطة الحاكمة بمصر أيام عبد الناصر التي أقدمت على زج العاملين للإسلام ودعاته في السجن وتعليقهم على أعواد المشانق أمثال الشهداء: عبد القادر عودة ومحمد فرغلي وسيّد قطب ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب وهنداوي دوير ومحمود عبداللطيف وعبد الفتاح إسماعيل ومحمد يوسف هواش.
وقد أصدر علال الفاسي العديد من البيانات والتصريحات وعقد الكثير من المؤتمرات لتفنيد مزاعم السلطة واستنكار أعمالها وسطر المقالات الطويلة التي تتحدث عن جهاد هؤلاء الدعاة في (جريدة العلم) المغربية لسان حزب الاستقلال، كما أقام الحزب المهرجانات لاستنكار تلك المجازر البشعة لأولئك الدعاة المجاهدين في أرض الكنانة.
ولن أستطيع الاسترسال في تسجيل المواقف البطولية الرائعة التي كان يقفها المجاهد المرحوم علال الفاسي فهي أكثر من أن تحصى.
ومرَّت الأيام تجري سراعًا ثم التقيتُ به في زيارة قام بها إلى الكويت قبل سنوات وكان بيننا وبينه أحاديث عن هموم المسلمين ومشكلاتهم وطرائق العمل الناجح لإخراجهم من محنتهم.
وكانت أحاديث وخطب ومحاضرات وندوات خرج منها الفقيد (رحمه الله) بضرورة توثيق العمل مع الشباب المسلم باعتبارهم الركائز الأساسية لحمل دعوة الإسلام كما أيقن بأهمية البناء التربوي العقائدي للشباب حتى يكونوا طلائع البعث الإسلامي المرتقب لهذه الأمة التي طال أمد رقادها واستكانتها لوعود الحكام وخداعهم، أولئك الذين لا يهمّهم إلاّ البقاء على كراسي السلطة ولو هلكت الشعوب بكاملها ولو ضاعت المقدسات وديست الكرامات، ومن هنا أخذ (رحمه الله) يبحث عن العناصر المؤمنة الشابة ليوطد الصلة بها ويكسبها من خبراته وتجاربه في ميدان السياسة والعلم والجهاد والكفاح.
وهكذا كان الزعيم الراحل لا يدع مجالاً من مجالات العمل الإسلامي إلاّ أسهم فيه وبذل من الجهد ما يستطيع، ورغم أننا نخالفه في بعض اجتهاداته السياسية فإنه ليس لنا إلا أن نعترف بأن مواقفه كانت تنبع من اقتناعه بأن الإسلام هو طريق الخلاص لهذه الأمة من كل ما تشكوه من ويلات وما تعانيه من محن وكوارث.
آثاره ومؤلفاته
لعل الكثير من الناس لا يعرفون عن المرحوم علال الفاسي إلا أنه رجل من رجال السياسة وزعيم من زعماء الوطنية بينما هو علم من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وداعية من دعاة المدرسة الإصلاحية التي بدأها المرحوم محمد رشيد رضا، كما أن له باعًا طويلاً وقدمًا راسخة في الفقه الإسلامي وخاصة الفقه المالكي والفقه المقارن، وله اجتهادات فقهية يحتج بها علماء المغرب والجزائر وتونس، ولكن غلبة الطابع السياسي والوطني جعلتْ انصرافه للأمور الفقهية يحتل المرتبة الثانية من اهتماماته.
درّس في كلية الحقوق، وأصدر كتبًا كثيرة، منها:
- دفاع عن الشريعة
- الحماية في مراكش
- السياسة البربرية في مراكش
- النقد الذاتي
- الحركات الاستقلالية في المغرب العربي
- الحرية
- الحماية الإسبانية في المغرب
- واقع العالم الإسلامي
- مهمة علماء الإسلام
- منهج الاستقلالية
- رأي مواطن
- نحو وحدة إسلامية
- دائمًا مع الشعب
- أناشيد وطنية
- حديث عن التبشير المسيحي
- كي لا ننسى
- المدخل لعلوم القرآن والتفسير
- المثل الأعلى
- الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها
- مقاصد الشريعة ومكارمها
- المدخل لدراسة النظرية العامة للفقه الإسلامي
- المدرسة الكلامية وآثار الشيخ الطوسي
- المغرب العربي منذ الحرب العالمية الأولى
- أساطير مغربية
- عقيدة وجهاد
- ديوان علال الفاسي (أربعة أجزاء)
- حديث المغرب في المشرق
- التقريب: شرح مدونة الأحوال الشخصية
- معركة اليوم والغد
- بديل البديل
- نضالية الإمام مالك
- دفاع عن وحدة البلاد
- لفظ العبادة وهل يصح إطلاقه لغير الله؟
- نداء القاهرة
- الجواب الصحيح والنصح الخالص
- المختار من شعر علال الفاسي
- رياض الأطفال.. وغيرها كثير لم يطبع بعد.
وهو عضو في المجمع العلمي العربي بدمشق، ومجمع اللغة العربية بالقاهرة. وله شعر كثير نذكر بعضه كنماذج:
نماج من شعره
من قصيدة له بعنوان «ذكرى مرور أربعة عشر قرنًا على نزول القرآن الكريم»، يقول:
يا أمةً قرآنها دستورها عودي إلى الدين الحنيف عقيدة ما في سوى القرآن خيرٌ يُجتبى هذي فلسطين الجريحة أصبحت والقدسُ أولى القبلتين يُعِدُّه عودوا إلى الإسلام يصلح شأنكم |
وزعيمها كان النبي المرسلا وشريعة وتخلقًا وتعقلا أو في سوى الإسلام نهجٌ يبتلى بيد اليهود أسيرة لن ترسلا أعداءُ أحمد كي يقيموا الهيكلا ويُنِلْكم نصرًا مبينًا في الملا |
ومن قصيدته في رثاء الشهيد سيد قطب يقول:
في ظلال القرآن دوما مشيتا قد أنرت السبيل للسالك الحر لم تزل في ضمائر الناس هديًا دعوة الدين لم تخنها ولكن |
فعليكَ السلامُ حيًّا وميتا وفي نورك البهيّ احترقتا نبويًّا آياته ما شرحتا لم تطق عن خؤونها قط صمتا |
ومن قصيدة له بعنوان «اضطهاد لغة القرآن» يقول:
إلى متى لغة القرآن تُضطهدُ أما دَرَوْا أنها في الدهرِ عُدَّتُهم ولن تقوم لهم في الناس قائمة إن لم تَتِمَّ لهم بالضاد معرفةٌ إن العقيدة في الأوطانِ ناقصةٌ |
ويستبيح حِماها الأهلُ والولدُ وما لهم دونها في الكونِ مُلتحدُ أو يستقيم لهم في العيش ما نشدوا أو يكتمل لهم بالضاد مُعتقدُ ما لم تكن للسان الشعبِ تستندُ |
كما كان خطيبًا مفوّهًا وفقيهًا عالمًا وسياسيًا بارعًا وداعيةً عاملاً يشدّ القلوب والعقول إليه ويستجيب لنداءاته الشباب، فكانوا يستضيفونه بالحلقات العلمية والتجمعات الطلابية والندوات الفكرية ويطرحون عليه كل تساؤلاتهم ومشكلاتهم والطريقة المثلى لتحرير بلادهم من نير الاستعمار، وفي الولايات المتحدة الأمريكية حين كنتُ أنا وهو والدكتور حسن الترابي والأستاذ إبراهيم الوزير مدعوين لحضور المؤتمر السنوي لاتحاد الطلبة المسلمين سنة 1968م كانت فترة من أجمل الفترات وأيامًا من أسعد الأيام حيث امتدت زيارتنا وتطوافنا في الولايات المتحدة قرابة شهر وقفتُ فيها على الكثير من جوانب شخصيته الفذّة التي تمثّل الرجولة والعصامية في أجلى صورها.
من أقوال علال الفاسي
- «تستطيع القوة أن تنال من جسم المسلم، وتستطيع أن تسلبه ماله وحياته أو تخرجه من أرضه وعشيرته، ولكنها لا تستطيع أن تسلبه الإيمان أو تزيل عنه اعتزازه بنفسه واعتداده بعقيدته».
- «ما أحوج المسلمين اليوم للرجوع إلى الدين كما أُنزل غضا طريًا، وما أحوجهم للتحرر من عقدة النقص التي ركّبها الاستعمار الأجنبي في بلادهم حتى أصبحوا لا يفهمون ولا يُقدِّرون إلا بمقاييس المستعمرين».
وكان آخر عمل مشكور قام به هو جهوده في حمل حكومة المغرب على التخلي عن موقفها في المساهمة بإخراج فيلم عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي تكمن وراءه جهات تريد الإساءة لرسول الإسلام ودين الإسلام وأمة الإسلام.
ولقد كنت في زياراتي للمغرب العربي ألتقي العلماء والدعاة والمفكرين ورجال السياسة والأدب فأجد أن الجميع متفق على أن الأستاذ علال الفاسي من أفذاذ رجال المغرب المكافحين ضد الاستعمار والمنافحين عن العروبة والمجاهدين في سبيل الإسلام. فقد جمع من الصفات وتوفّر له من الإمكانات ما جعله في طليعة الرجال ومقدمة الأبطال الذين أرخصوا الغالي والنفيس في الذود عن حياض الإسلام ومقارعة الاستعمار والتصدي للتغريب والفرنسة.
ومن هنا كان له هذا الرصيد الضخم من التقدير والإجلال والمحبة في قلوب الجماهير فكان العلم المبرّز والفارس المقدام والداعية الواعي والسياسي القدير والقائد المُحنك الذي استقطب الجماهير الإسلامية والنخب المثقفة بالاحترام والإجلال من الجميع.
ولقد كان هدفه الأساس هو خدمة الإسلام والمسلمين والعمل الجاد الدؤوب لرفع المعاناة عن المظلومين وإحقاق الحق ومحاربة الفساد والطغيان وتربية النشء على منهج الإسلام وانتظام الدعاة في صف واحد للعمل الجاد لإنقاذ الأمة من آثار الاستعمار ومناهجه في التعليم والتربية والسلوك والاقتصاد والسياسة والاجتماع.
ولقد رأيت ثمار جهوده وجهود إخوانه وتلامذته في المغرب العربي في جيل الصحوة الإسلامية المباركة التي شملت المغرب كله في المدن والأرياف والمؤسسات والجامعات والمدارس والمساجد والنقابات المهنية والبلدية والنيابية وغيرها.
وفاته
وقد انتقل إلى رحمة الله يوم الاثنين 20 ربيع الثاني عام 1394ه - 13/5/1974م.
رحم الله الفقيد رحمة واسعة وجزاه الله خيرًا عن كل عمل صالح قدمه وتجاوز عن أخطائه وسيئاته وغفر الله لنا وله.
وسوم: العدد 915