الاستاذ الداعية أبو الحسن الندوي
رجال في ذاكرتي :
علماء - أدباء - دعاة !!
أبو الحسن الندوي هذا هو اسمه الشائع بين المثقفين وغيرهم ، وهو غني عن التعريف ! لكنني سأذكر كيف عرفته ؟ ومتى ؟ وأين ؟
كانت أكثر كتبه المترجمة إلى العربية تصل إلينا من بيروت ، وقليل منها من دمشق وحلب ! ولعل كتابه ( المسلمون والقضية الفلسطينية ) كان من أوائل مااطلعت عليه مع الأخ محمد جميل جانودي في بدايات السبعينيات فقرأنا منه فصولاً ، واستشهدنا بمقاطع منه في حواراتنا مع الآخرين .
أحسسنا من خلال قراءتنا لكتب أخرى له أننا امام داعية وأديب ومؤرخ ورجل إصلاح !
كنت في دمشق عام ١٩٧٣ عندما تناقل بعض المعجبين به وعارفي قيمة علمه وقدره أن سلطات البعث بالسوري بعد حصوله على تأشيرة زيارة لسورية ، وبعدزيارة قام بها لعدد من الرموز العلمية ، ومكوثه أياماً قليلة فيها ، فاجأته ومن معه بحضور أشخاص بلباس مدني ، يطلبون منهم جمع أغراضهم والخروج معهم ؛ ليجدوا أنفسهم في الحدود اللبنانية !؟
وقد أشار إلى هذه الحادثة في كتابه ( من نهر كابل إلى نهر اليرموك ) في فصل زيارة خاطفة لدمشق ، ونشرت الخبر صحيفة الحياة البيروتية في عددها ٦آب ١٩٧٣ ، وبعض الإذاعات في اليوم نفسه !؟
والأستاذ الندوي سبق له أن زار سورية بدعوة من كلية الشريعة عام ١٩٥٦ ، وألقى محاضرات بعنوان : التجديد والمجددون في تاريخ الفكر الإسلامي ، ضُمت بعد ذلك إلى كتابه ( رجال الفكر والدعوة في الإسلام ) قدم له الدكتور مصطفى السباعي والدكتور مصطفى الخن ، وقد بلغ أربع مجلدات !
فازداد إلحاحي على طلب كتبه في منطقة الحلبوني لوجود عدد من المكتبات ، حتى ظفرت بكتابه ( روائع إقبال ) فقرأته بتمهل واستمتاع ، فقد كان الشيخ على معرفة واسعة بالشاعر إقبال ، وقد بدأت صلته به مبكراً ، وهو في السنة السادسة عشرة من عمره ، يتتبع أخبار الشاعر وإصدارات دواوينه ، حتى إنه ترجم قصيدة للشاعر ( القمر ) وقدمها إليه !
واستمرت هذه الصلة بأبي الحسن وإقبال ! ولكنها صلة ذهنية روحية .... حتى قدر الله اللقاء بالندوي في المدينة المنورة ، في محاضرة له على مسرح الجامعة الإسلامية مابين المغرب والعشاء عن النموذج المسلم المؤمن برسالته والمعتز بها ، والعارف مهمته في الحياة في شخصية ربعي بن عامر ودخوله على رستم قائد الفرس !!
في هذه الأثناء كانت الجهود لإبراز رابطة الأدب الإسلامي العالمية قائمة ، وقد سبقتها مؤتمرات ومناقشات ؛ فاختير أبو الحسن الأديب المؤرخ الداعية ليكون على رأس هذه الرابطة !!
وحظيت في ذلك الوقت ١٤٠٥- ١٩٨٤ بتصنيف عضو عامل فيها ، وكنت قد طبعت بعض إنتاجي الذي كان شرطاً للعضوية ، ولازلت أحتفظ ببطاقة العضوية وعليها توقيعه واسمه الكريم ٠
ومما زاد معرفتي به زياراته لأعضاء الرابطة الموجودين في المدينة المنورة في منزل الدكتور عبد الباسط بدر - تغمده الله برحمته - وقد أفدنا من جلساته وتوصياته وحسن أدبه ، واستمع في إحداها لقصيدتي ( أم في القيود ) التي تتحدث عن أطفال إحدى السجينات في بلدتنا ليلة العيد !
وفي إحدى زياراته للمدينة المنورة أعلن عن محاضرة له عن إقبال ودوره في توجيه الشعر والأدب ، في قاعة مكتبة الملك عبد العزيز القريبة من المسجد النبوي الشريف ، وقد غصت القاعة على سعتها بالمستمعين ، وفيهم كبار العلماءوالأساتدة والشباب المثقف والمعنيون بالأدب والشعر ، واضطر كثير إلى الوقوف خارج القاعة لعدم وجود مكان للجلوس ، وكانت في ليلة الثلاثاء في الرابع والعشرين من ربيع الآخر ١٤٠٥ !!
ومما يذكر لصديقنا الأديب محمد هاشم رشيد رئيس نادي المدينة الأدبي - رحمه الله -اهتمامه الملحوظ بالمحاضر ، فألقى أبياتاً جميلة رحب فيها بالضيف ، وأشاد بجهوده في خدمة الأدب الإسلامي ! كلماتها تفيض محبة وتقديراً ....... وكأني بالمحاضر المتواضع خشي أن تتوجه الأنظار إليه ، فعلق في أدب متفرد ، وبصوت خفيض شاكراً ، وقال : سادتي إخواني ! إني لأستحيي أمام الله ، ومن حضر من الإخوان أن أذكر في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي ظل مسجده العظيم شخصاً غير شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن أشيد به ، وقد قال الشاعر العربي القديم :
ولما نزلنا منزلاً طٓلُّه الندى - أنيقاً وبستاناً من النور حاليا
أجَدّ لنا طيبُ المكان وحُسنُه- مُنىً فتمنينا ، فكنتَ الأمانيا
هذا هو المكان الذي طله الندى ، طله ندى الرسالة السماوية الأخيرة ، والصحبة النبوية المعطرة ، فلا ينبغي إلا ذكر مَن نالت به هذه المدينة الشرف! ونالت به الإنسانية الحياة الجديدة ، والمعنوية الحقيقية !
إن شاعرنا العظيم محمد إقبال كان - وقد شهدت ذلك بعيني - وأشهد بذلك بجوار المسجد ، إذا ذُكرت المدينة ، فضلاً عن الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم دمعت عينه ، ولم يتمالك ، وقد قال بيتين من الشعر بالفارسية : لقد لامني إخواني ، واستغربوا توجهي إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم على كبر سني ، وأنا في سرور وحنين ، ونشيج ورنين ! وقالوا : هذا إرهاق وتكليف بمالا يطاق !؟ فقلت لهم : ياإخواني ! ألا تعرفون أن الطائر يهيم على وجهه في الصحراء ، ويحلق في الفضاء ، فإذا أدبر النهار ، وأقبل الليل تذكر وكره ، ورفرف بجناحيه إلى وكره ! يطير إليه ليأوي فيه ! والمدينة وكر الروح ، ووكر العقيدة ، ووكر الإيمان بالنسبة إلى المسلم ! فكيف لاأطير إلى وكري ، وقد دنا أصيل حياتي !!٠
وقد كانت محاضرة ماتعة نافعة تستدر المدامع ، وتستثير الأشواق !
رحم الله أبا الحسن ، فقد لقي ربه في الثالث والعشرين من رمضان ١٤٢٠ للهجرة
** المحاضرة كاملة مطبوعة في كتاب : نظرات في الأدب ، إصدار رابطة الأدب الإسلامي - دار البشير /عَمّان ١٩٩٠
وسوم: العدد 927