الشيخ العالم المجاهد طاهر بشير خير الله
(1340ـ1409هـ/1922ـ1989م)
هو الشيخ العالم المجاهد القارئ طاهر بن بشير خير الله أحد أبرز علماء السنة في حلب وفي بلاد الشام.
اسمه، ونسبه:
هو الشيخ طاهر بن الشيخ بشير خير الله الحسيني الرفاعي الحنفي الحلبي ثم المدني.. يتصل نسبه بسيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عن آل بيت سيدنا رسول الله الطاهرين، وصحابته الكرام أجمعين .
المولد، والنشأة:
ولد الشيخ طاهر خير الله في مدينة حلب بسورية عام 1340للهجرة / الموافق 1922م، وفيها نشأ، وترعرع على حب العلم والعلماء والصالحين .
الدراسة، والتكوين:
حفظ الشيخ طاهر خير الله القرآن الكريم في سن مبكرة .. ثم لازم دار الأرقم الاسلامية بحلب، وكان أحد أصغر مؤسسيها عام 1936م وقد اشترك معه في تأسيسها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والقاضي عبد الوهاب ألتونجي، والشاعر عمر بهاء الدين الأميري، والمحامي عبد القادر السبسبي .
الدراسة، والتكوين:
تلقى الشيخ طاهر مرحلة التعليم الابتدائي في مدارس حلب، ثم دخل الكلية الشرعية بحلب ( الخسروية ـ نسبة إلى خسرو باشا ـ والتي أصبح اسمها فيما بعد: الثانوية الشرعية)، وهي مدرسة عريقة كانت بمثابة الأزهر، وتخرج منها كبار العلماء الأعلام) .
وأفاد من علمائها الأجلاء. وتخرَّج منها سنة: 1364هـ / الموافق لعام: ( 1945م )، وكان من أقرانه: الأستاذ المحامي الشيخ الفقيه أحمد مهدي خضر، والأستاذ الفاضل محمد حكمت المعلم الإدلبي، والدكتور محمود ناظم النسيمي، والأستاذ محمد منير الإدلبي، والأستاذ محمد الدباس، والأستاذ عبد الحسيب العلبي، والشيخ الفرضي سامي البصمه جي .. وغيرهم .
ثم تابع تحصيله العلمي في الأزهر الشريف ـ منارة العلم والعلماء ـ وحصل على الشهادة العالية من كلية أصول الدين سنة: 1372 هـ / الموافق لعام: 1952 م.
ولم يكتف الشيخ طاهر خير الله بالتحصيل الجامعي بل لجأ الى المطالعة بنهم شديد وقد لازم حلقات الشيوخ في المساجد، فحصل على إجازات في علم الحديث النبوي الشريف، من بعض العلماء المحدثين .
شيوخه، وأساتذته:
وقد تتلمذ الشيخ طاهر خير الله على أيدي العديد من العلماء الأعلام ، نذكر منهم:
1- الشيخ محمد نجيب خياطة: أخذ عنه القرأن تلاوة وتجويدا.
2- الشيخ عمر مسعود الحريري : أخذ عنه علم القراءات.
3- الشيخ محمد راغب الطباخ: أخذ عنه علوم الحديث ومصطلحه.
4- الشيخ العلامة مصطفى الزرقا: قرأ عليه الفقه الحنفي.
5- الشيخ محمد الرشيد: أخذ عنه الفقه الحنفي بعد الشيخ الزرقا.
6- الشيخ أحمد الحجي الكردي الجد: وقد تلقى على يديه دروسا في الفقه الحنفي.
7- الشيخ عبد الله الحماد: أخذ عنه علم الأخلاق.
8- الشيخ أحمد الشماع: درس عليه التفسير .
9- الشيخ أسعد العبجي: درس عليه قواعد اللغة العربية ونحوها وصرفها.
10- الشيخ عبد الوهاب سكر: أخذ عنه السيرة النبوية.
كما التقى الشيخ طاهر خير الله -رحمه الله- في أثناء دراسته بعدد من العلماء الفضلاء، فأخذ عنهم بعض العلوم الكونية كعلم الأشياء والجغرافيا،والحساب والعلوم الطبيعية ...وغيرها.
وفي مصر أخذ العلوم الشرعية من علماء الأزهر الشريف.
وكان على علاقة قوية مع عدد من العلماء البارزين كالشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ عبد الباسط خلف، والشيخ أحمد عز الدين البيانوني، والشيخ محمد علي الصابوني.....وغيرهم .
الوظائف، والمسؤوليات:
تولى الشيخ طاهر خير الله الخطابة في جامع بانقوسا قرب دوار باب الحديد في حلب...وكان يتصدى لمعالجة مشكلات الواقع بروح العصر يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم فأحبه الناس لشجاعته وجرأته.
ثم خطب في جامع الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله قرب الحديقة العامة، فتبعه الجمهور الى هناك حتى ازدحم المسجد بالمصلين.
ثم خطب الشيخ طاهر في جامع الروضة، وجذب اليه الشباب الجامعي المثقف، وبقي فيه مدة عشر سنوات، وذلك من سنة: 1389هـ إلى سنة: 1399هـ / الموافق لعام: 1970 م ولغاية عام: 1979م.
وتولى إدارة الثانوية الشرعية ( الخسروية)، التي تخرج منها سابقاً، فأحسن إدارتها، وكان يخطب في مسجد المدرسة أحياناً.
ونشر بعض المقالات في مجلة الشرعية ( صوت الاسلام) منها مقالة أزمة أخلاق...
ومن تلاميذه:
الشيخ د. محمد أبو الفتح بيانوني، والشيخ د.حسين قاسم محمد النعيمي، والشيخ عبد المجيد الجمعة، والشيخ د. عبد العزيز عمر الخطيب ...وخلق كثير غيرهم.
ثم عمل بعدها مدرساً فيها لمادة التفسير والحديث الشريف.. هذا بالإضافة إلى دروسه في بعض المساجد، حيث كان مدرس محافظة في عام1949م .
وعمل في إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية، المشرفة على دار الأيتام. .وقد رعى الأطفال رعاية حسنة، وكان يؤانسهم، ويرعاهم، ويرشدهم..
وكان له أثر طيب، وذكر حسن، وجهود مثمرة فيها..حيث كان بمثابة الأب الرحيم والوالد الكريم للأيتام .. فكان يشاركهم طعامهم وشرابهم في بعض الأحيان، ويشرف على لباسهم ونظافتهم، ويحث إخوانه على مساعدتهم، مما كان له أحسن الأثر .
في جامع الروضة:
كان جامع الروضة، في حيٍّ من أحياء حلب الراقية،( حي السبيل)، موئلاً لكثير من المثقفين، ومقصداً لجمهور المسلمين، يقصدونه لسماع خطبة الجمعة من فضيلة الشيخ طاهر الذي أوتي موهبة خطابية نادرة وجرأة صادقة، ومعالجة لقضايا الأمة، كما كان الشيخ قارئاً متقناً، ذا صوتٍ شجي، ونغمة محببة، وترتيل رائع، يملك القلوب والأرواح، ولذا توافد المئات للصلاة خلفه، ولاسيما في صلاة التراويح، حيث يمتلئ المسجد، ويغص بجميع ساحاته، كما كان يلقي في جامعه درسين أسبوعيين:
أحدهما: يوم السبت بعد صلاة المغرب يقرأ فيه "رياض الصالحين" ويشرحه شرحاً وافياً.
والآخر: يوم الأحد، درس يعقده للنساء.
كما كان يعقد كل يوم ثلاثاء، مولداً، يحضره الكثير من أهل العلم، ومنهم: الشيخ عبد الباسط أبو النصر خلف، رحمه الله تعالى.. ويفتتح القراءة القارئ المتقن: محمد مرطو، وينشد فيه: صبري مدلل، وحسن حفار، وعبد الرؤوف حلاق، ومنذر سرميني، وأديب الدايخ كما كانت تعقد في المسجد حلقات تحفيظ القرآن، وتقام فيه دورة صيفية، يشرف الشيخ عليها، ويدرس فيها، مجموعة من طلابه النابهين، وبقي هذا الجامع منارةً للعلم، والدعوة، والتربية.
وعندما مات جمال عبد الناصر في شهر أيلول عام 1970م هرع الناس الى جامع الروضة لعلهم يسمعون كلاما يشفي الغليل، فهم يعلمون كره الشيخ للطواغيت ولكنهم تفاجؤوا بأنه لم يعلق، ولو بكلمة فلما انتهت الخطبة سألوه، فأجاب: لاشماتة بالموت..لقد أفضى الى سوء عمله.
وفي أثناء الأحداث في الثمانين كان مع وفد العلماء في المفاوضات مع مصطفى طلاس ومع حافظ أسد وقد سعى الوفد لاطفاء الفتنة وأثناء الاجتماع هدده الطاغية بشكل مباشر بأنه سوف يمسح به شوارع حلب اذا لم يسع في تهدئة الأمور، فتدخل الشيخ محمد الشامي، وهدأ الوضع ..فخطب الشيخ طاهر بعدها خطبة الجمعة في مسجد الروضة طلب فيها انهاء الاضراب والتهدئة، ووعد المجاهدين بأن علماءهم أذكياء، وليسوا أغبياء، وأنهم شجعان، وليسوا جبناء، ولكن اذا لزم الأمر فسوف يحملون أكفانهم على أكتافهم، وينازلون الطواغيت .
فانفجر المسجد بالهتاف والتكبير الله (أكبر والنصر للاسلام)، فطلب منهم الهدوء والطاعة، فالتزموا الصمت فأكمل خطبته، ولكن الأحداث كانت متسارعة، وقد خرجت الأمور عن السيطرة حتى اضطرت الظروف فضيلة الشيخ طاهر للسفر إلى المدينة المنورة.
إقامته في المدينة المنورة:
حج الشيخ طاهر خير الله ، واعتمر عدة مرات، ولقي أكابر العلماء في مكة المكرمة، والمدينة المنورة.
فقد هاجر إلى المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام، وبقي فيها مهاجراً مجاوراً مدة تسع سنوات، من سنة:1400هـ ـإلى سنة: 1408هـ /الموافق لعام: 1979 م إلى عام: 1989 م، سنة وفاته.
عمل خلالها مدرساً في الجامعة الإسلامية، في كلية الدعوة وأصول الدين، من سنة: 1400 هـ إلى سنة: 1407 هـ / الموافق لعام: 1980م ـ 1986م. أستاذاً لمادة الحديث الشريف، ثم تفرغ للعبادة.
وفاته:
أُدخل الشيخ طاهر خير الله - رحمه الله تعالى- مستشفى الملك فهد بالمدينة المنورة، بتاريخ: 20/ 12/ 1988م، وبقي فيها ستة عشر يوماً، حيث فارق الحياة.بسبب مرض الاستسقاء.
وكان راضياً مبتسماً، يتهلل وجهه بالبشر والسرور .. ويسأل عن إخوانه العلماء والدعاة.. وكان آخر ما تكلَّم به قبل وفاته، أن قال لبعض زواره من أهل العلم: اسمعوا لي هذا الحديث الشريف":اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت "، ثم سألهم: هل أخطأت في لفظ الحديث؟ فأجابوه: بل هذا صحيح، فتبسم، وقال: الله، الله، الله، ثم أسلم الروح لبارئها.
وكان ذلك في ليلة الجمعة، السابع والعشرين من شهر جُمادى الأولى سنة 1409 هـ/الموافق لعام: 1989 م. عن عمر ناهز السابعة والستين سنة، قضاها في طلب العلم والتعليم، وكان الأمين المأمون، والرائد الذي لا يكذب أهله، وقد صلي عليه صلاة الجنازة، بعد صلاة الجمعة، في المسجد النبوي الشريف، ودفن في البقيع ـ مقبرة المدينة المنورة ـ بقرب قبر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقبره هو آخر قبر على يسار الذاهب إلى قبر سيدنا عثمان، قبل الوصول إليه، وهو معروف.
وكانت جنازته حافلة، حضرها كثير من العلماء والمحبين للشيخ طاهر رحمه الله.
آثاره العلمية:
شارك في تأليف عدد من الكتب المنهجية المقررة في الثانوية الشرعية، بالاشتراك، وقام بنشر كتاب:
- الصارم المشهور على أهل التبرج والسفور، للشيخ حمود التويجري ، وأشرف على طباعته، وقدم له.
- نشر عدة مقالات في مجلة صوت الاسلام التي كانت تصدرها الثانوية الشرعية في عام 1956 وما بعدها ومنها مقالة بعنوان : أزمة أخلاق: بين فيها أن الأمة لا تعاني من أزمة اقتصادية أو سياسية بقدر ما تعاني من أزمة في الأخلاق:
واذا أصيب الناس في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
وللشيخ طاهر خير الله مئات الخطب، لو فرغت لبلغت عدة مجلدات.
حياته الأسرية:
والشيخ طاهر خير الله متزوج من سيدة حلبية فاضلة وله من الأولاد، أحد عشر ولداً، سبعة ذكور، وأربع إناث:
1- أكبرهم محمد هاشم، وبه يكنى.
2-والدكتور: بشير رحمه الله تعالى.
3- وسعد طاهر خير الله.
4- ومن أولاده الشيخ الداعية المهاجر عبد المنعم طاهر خير الله:
( 1441 - 1367 )/ ( 2020 - 1948م ):
هو الشيخ العالم والداعية المهاجر عبد المنعم بن الشيخ العلامة طاهر بن بشير خير الله ينتمي الى أسرة مسلمة سنية ملتزمة بتعاليم ربها وأحكام دينها وسنة نبيها يرجع أصلها الى الدوحة المحمدية...
المولد، والنشأة:
ولد الشيخ الداعية أبو طاهر عبد المنعم بن طاهر بن بشير خير الله سنة 1367 للهجرة الموافق 1948 م في حلب.
وسكن جزءا مهما من عمره في حي السبيل أمام جامع الروضة لاحقا، مع والده الشيخ الجليل طاهر خير الله. سليل العترة النبوية الشريفة.
وتوفي - رحمه الله تعالى- فجر يوم السبت 14من شوال 1441 الموافق 6 من حزيران 2020 في المدينة المنورة عن ثلاثة وسبعين عاما..بعد مسيرة حافلة بالدعوة الى الخير والهدى والرشاد.
وهو أحد الأبناء الثمانية لوالده، وهم: هاشم، والدكتور بشير رحمه الله، و سعد، ومنذر، وحسان، وأيمن، ومحمد الفاتح -حفظهم الله-..وللشيخ طاهر عدد من البنات متزوجات من المهندس عدنان عقلة، والشهيد حسني عابو ...
الدراسة، والتكوين:
طلب الشيخ عبد المنعم خير الله العلم الشرعي في الثانوية الشرعية بحلب، وكان من أقرانه في الدراسة السادة: د. حسن أبوغدَّة، ومصطفى نزار دامرجي، وصلاح زين العابدين، وعبد الله مسعود، ..
وتتلمذ على أيدي شيوخ الخسروية ونهل العلوم الشرعية عليهم، وكان من شيوخه:
الشيخ عبد الرحمن زين العابدين وشقيقه أبو الخير، والشيخ نجيب خياطة، والشيخ محمد أديب حسون...وغيرهم.
وتتلمذ بشكل خاص خارج المدرسة على يدي الشيخ المربي عبد القادر عيسى رحمه الله..شيخ الطريقة الشاذلية في حلب.
وأفاد منه أيما فائدة، وقد انعكس ذلك على جهوده الدعوية.
ثمَّ أتمَّ دراسته الجامعية في كلية الشريعة بجامعة دمشق.
وكان من شيوخه فيها: د. وهبة الزحيلي ود. فتحي الدريني ود. محمد سعيد رمضان البوطي ود. نور الدين عتر ود. محمد أديب الصالح ...وغيرهم.
أخلاقه وصفاته:
كان -رحمه الله- ضخم الجثة بدينا، وكان المرحوم بحق آية من آيات الله في الدعوة إلى الله، وتحبيب المؤمنين بدينهم.. وخاصة مع فئة الفتيان والشباب، قلما تجد له مثيلا فيمن عرف الناس من الدعاة.
إن جلسة واحدة منه مع شاب مسرف على نفسه كانت كافية بفضل الله لأن يثوب إلى رشده، ويقبل على الخير وصحبة الصالحين.
حتى لقد رأه الناس ( وعلى مدى سنوات) يجالس الشباب المتسابق الى الخيرات، المتشبع بالأدب، والمتمسك بالاستقامة، يوجههم، ويعظهم، وينصحهم، ويحل مشاكلهم، ويحذرهم من الفتن (وما أكثرها).
ويوجههم إلى القرآن والعلم والإقبال على الله، لقد نذر نفسه لحب الله ورسوله ﷺ.
وهناك عدد كبير من الشباب الذين أفادوا من صحبته، حتى إن أي واحد من هؤلاء لتراه الآن وجها معتبرا من وجوه المجتمع المؤمن، وكلهم تراه يثني عليه أعطر الثناء مترحما على ما فقدت الأمة في شخصه من كريم الخصال والسجايا، رحمه الله تعالى.
ومن عجائب أسلوبه في الدعوة أنه يجذب الشباب بارتياد المباحات من اللعب بكرة القدم، أو ركوب الخيل، أو سفر النزهات إلى الساحل السوري.
ومن صفاته التي تمتع بها - رحمه الله - (وهو ما يشهد به كل من عرفه) لطفُه ومرحه وحكمته وانفتاحه وتواضعه وكرمه وحضوره الشخصي وجاذبيته وإحساسه بالمسؤولية وبُعد نظره.
كان ينوب بالإمامة في جامع الروضة عن والده عند غيابه ...
هاجر الشيخ عبد المنعم مع والده إلى المدينة المنورة سنة 1400- 1980 والتزم بخدمته والتفاني ببره ..
انقطع الشيخ عبد المنعم خير الله للإقامة في الجوار المبارك في المدينة المنورة للعبادة، وتعليم القرآن لأبناء المسلمين، وخرَّج أجيالا من الطلبة الصالحين.
فيصدق فيه بحق قول النبي ﷺ: " خيركم من تعلم القرآن وعلّمه".
كان يدرّس القرآن في رباط الجفري، ويعدّ أحد أركانه، ولما أغلقت المدرسة تابع التدريس في بيته، وقد استفاد منه خلق كثير من أبناء المدينة المنورة سواء أهلها أو المقيمين فيها.
وختم الله له في المدينة المنورة التي جاورها هو ووالده من قبله.
وقد توفي باذلًا للخير والبر، صابرًا راضيًا، إثر إصابته بمرض لم يمهله إلا أيامًا معدودة بعد أن صام رمضان، وقامه إيمانًا واحتسابًا في مدينة رسول الله ﷺ.
من مآثره أنه كالجندي المجهول يحمل مسؤولية بعض سُفَرِ الكرم للمعتكفين من ضيوف الحبيب الاعظم ﷺ في المسجد النبوي الشريف دون أن يعرفه أحد. وإني لأرجو له بهذا العمل الاخلاص المقبول عند الله تعالى.
أسأل الله تعالى أن تكتحل عيناه بالاجتماع بجده المصطفى ﷺ.
وأن يكرم نزله، ويرفع درجاته، ويتقبله في عباده الصالحين الأبرار، ويبارك في ذريته ومن يلوذ به.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثناء العلماء والدعاة عليه:
علماء في ذاكرتي: الشيخ طاهر خير الله:
كتب الشاعر الاسلامي يحيى بشير حاج يحيى يقول:
تمر الأعوام، ويبقى لكثير من الشخصيات التي رآها الإنسان في حياته حضور في ذاكرته لا تمحوها الأيام.
سمعت عنه من بعض الأصدقاء في مدينة حلب في الستينيات من القرن المنصرم، ولكن حينما رأيته كان أجل وأفخم مما تصورته، فقد كان جميل الطلعة، طويل القامة، أنيق الملبس، ممتلئ الجسم، إذا رآه الإنسان أحبه، وأحس أنه قريب منه! له ابتسامة ترتسم على شفتيه فتزيده جمالا ومهابة. وقد سعدت به وأنا طالب في جامعة حلب مع جمع من إخواني، كنا نتسابق لحضور صلاة العشاء والتراويح معه في جامع الحريري بطلعة سيف الدولة، أما حضورنا للصلاة معه فقد كان يحتاج إلى همه، إذ كنا نسكن في باب النصر، وكان علينا بعد الإفطار وصلاة المغرب أن نستقل الحافلة إلى موقف الحافلات، ثم نستقل حافلة أخرى إلى حي الأنصاري، ولطالما أحسسنا بنشوة روحية راقية ونحن نجد أنفسنا في صفوف المصلين، وقد وصلنا مع الإقامة؟!
كان القادمون من أمثالنا قد قدموا من أحياء متعددة، يعلمون أن الشيخ يؤدي صلاة التروايح مع الدعاء في الوتر، في ساعة أو تزيد! ولم يكن ذلك مألوفا عند الكثيرين. إذا وقف الشيخ للصلاة لم يكن مجرد إمام تؤدي خلفه ركعات وتمضي، ولكنه وهو يجذبك بترتيله الجميل وصوته البديع، واطمئنانه في الركوع والسجود يشدك بكل مشاعرك وأحساسيك.
أما الدعاء فإنه لبلاغته، واختيار صيغه، وصدق التوجه الذي تحسه، وأنت تؤمن عليه، فقد كان يستدر الدموع، فتتركز الخواطر كلها في عظمة الخالق، وقرب رحمته من عباده المخبتين، ولكم كان لتلك الصلاة من أثر في نفوسنا!
كما كان الشيخ - رحمه الله - يخطب الجمعة في جامع عمر بن عبد العزيز القريب من الحديقة العامة، وما أجملها من خطب! وما أقربها من الواقع، وهي تعالج مشكلاته دون مواربة أو التفاف؟! وقد كان - رحمه الله - كالأسد الهصور يهدر بصوته الجهوري وكأنه منذر جيش؟!
وأذكر مما أذكر من عباراته، وقد مضى عليها أربعون سنة أو يزيد، حين أقر مجلس الشعب قسما لرئيس الدولة، يقسم فيه بشرفه ومعتقده؟!! فانبرى الشيخ - طيب الله ثراه - بعد أن تحدث عن أحكام اليمين في الإسلام، وعن بعض الأقسام التي تجري على ألسنة الناس، وهي باطلة غير مشروعة، وقد اشتد غضبه، وعلا صوته مرددا: وهناك من يقسم بشرفه ومعتقده، وما يدرينا أنه لا شرف له ولا معتقد؟!
وقد كان عدد من إخواننا وزملائنا في الجامعة لا يتأثرون بخطبه فحسب، بل كان أحد هؤلاء وهو الأخ (فاروق محمد علي الغباري) رحمه الله، يحفظ موضوعاته، ويتمثل موقفه على المنبر، ويحاكي نبرته، حتى كأنه الشيخ نفسه؟!!
كان الشيخ - في حد علمي - غير منتم لأية جامعة إسلامية ولكن أصابه ما أصاب كثيرا من الدعاة، إن لم يكن أشد؟! فقد سجن مع مجموعة كبيرة من الدعاة والمثقفين على إثر المقال الوقح الذي نشر في مجلة جيش الشعب الرسمية وقد تعرض للذات الإلهية بالتنقص وسوء الأدب؟! وقد حكى لنا بعض أساتذتنا ممن كانوا معه في المعتقل أن الشيخ - رحمه الله - كان يداعب بعض السجناء الذين ضاقوا بالسجن، وتوهموا أن مستقبلهم سيضيع إن طال سجنهم؟!ولكن الله من على الجميع بالخروج على إثر العدوان الإسرائيلي في الخامس من حزيران 1967 م.
وحين بنى أهل الخير مسجد الروضة في محلة السبيل، كان اختيار الشيخ طاهر ليكون إمامه وخطيبه توفيقا من الله، جعل المسجد يزداد تألقا وحسنا، وأذكر أن شيخنا عبد الباسط أبو النصر - عليه رحمة الله ورضوانه - اصطحبني إلى دعوة تضم كثيرا من العلماء والفضلاء لإلقاء قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، التفت بعدها الشيخ موجها كلامه إلى الخيرين الذين سعوا في بناء المسجد قائلا: لقد أصبتم في الاختيار، فالشيخ طاهر يليق بهذا المسجد، والمسجد يليق بالشيخ طاهر!
استمر الشيخ - رحمه الله - سنوات في مسجده ترتاده نخبة من أهل العلم والفضل والشباب الجامعي، فقد كانت خطب الشيخ متميزة، ودروسه متفردة!
ومع تسارع الأحداث في عام 1979 - 1980 م، اعتقل الشيخ كما اعتقل غيره من العلماء، وأدخل سجن المخابرات، وقد حدثني أحد معارفه أنهم وضعوه في زنزانة ترشح بالماء، وتضيق بحجمه، وكان مما أهمه أنه لا يدري هل الماء الذي ينزل طاهر أم نجس؟!
ثم أخرج كغير من البلاد بعد تضييق وإيذاء، وقد لقيته في المدينة المنورة، إذ عاش سنوات مدرسا في الجامعة الإسلامية، وشاء الله أن يضم ثرى طيبة الطيبة جسد الشيخ وقد أنهكه المرض، وبلغت به الشيخوخة، وقد نقل لي أحد إخواننا عن مرافق له في المستشفى أن الشيخ أحس بدنو الأجل فطلب أن يجدد وضوءه ويبدل ثيابه!
وتوفي الشيخ وقد وجد في البقيع بالمدينة النبوية مثواه الأخير بعد أن ضاقت عليه الشام بما رحبت، رحمك الله أبا عبد المنعم، وأشهد أن المئات من أمثالنا قد انتفعوا بك، وأنك بخطبك وتوجيهاتك قد جنبتنا كثيرا من المزالق - وما أكثرها في ذلك الوقت - والصحوة المباركة كانت في بداياتها تزداد إشراقا مع كل صباح.
رثاء الشعراء له:
وقد رثاه عدد من الشعراء، ومنهم شاعر طيبة : الأستاذ محمد ضياء الدين الصابوني، والشيخ محمود الفحام،حيث يقول في قصيدة:
عليك سحاب الجود والفضل عامر
فقبرك معروف وبالعرف عامر
قضيت حياة بالمحامد كلها
حليف العلى تزدان فيك المنابر
فقد كنت بالتقوى لسانك ذاكر
وصدرك بحر بالشريعة ذاخر
وقد كنت في دنياك كاسمك طاهراً
نقيا من الأدران بالحق تجهر
أبوك بشير كان رمز مكارم
وقد كان منهجه العلا و المفاخر
ومن بيت خير الله تأتيك نسبة
لخير نبي الضعيف يناصر
دعاك إله العرش نحو جواره
إلى جنة المأوى بهاالخير وافر
فلبيت مسروراً بغير تردد
فلا تخش ذنباً فالمهيمن غافر
إلى قدرك العالي رفعت مؤرخاً
يوافي له الجنات مثواك طاهر
وقال في قصيدة أخرى:
يا قبر فيك لقد ثوى بحر العلوم الأوحد
العالم الحبر الذي نظيره لا يوجد
هو طاهر رمز التقى للخلق نعم المرشد
ابن البشير المرتضى لخير بيت يسند
من آل خير الله هم نسباً لأحمد يصعد
حفظ الكتاب بصدره ليلاً به يتهجد
داعي المنون له دعا كيما يفوز ويسعد
لبى النداء لما دعا للخلد لا يتردد
حاد حدا مترنما لم أدر ماذا يقصد
أرخ: ( هدى يا طاهر هنأ فعيشك أرغد )
رحم الله الشيخ العلامة المجاهد طاهر خير الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
المراجع:
1ــ ترجمة ذاتية من أولاده الكرام..نشرها الشيخ فياض العبسو في موقع رابطة العلماء السوريين.
2ـ إفادات وإضافات يسيرة من الشيخ مجد مكي تلميذ المترجَم ـ رحمه الله تعالى ـ مشرف الموقع.
3- كتاب: نخبة من أعلام حلب الشهباء من أنبياء وعلماء وأولياء ــ للشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسين الأويسي الشافعي الحلبي الحسيني ــ طبع دار الرضوان ودار التراث بحلب .
4- ترجمة الشيخ طاهر خير الله- علماء حلب في القرن الرابع عشر- بقلم الأستاذ عدنان كاتبي.
5- رابطة أدباء الشام: علماء في ذاكرتي الشيخ طاهر خير الله - بقلم يحيى بشير حاج يحيى...
وسوم: العدد 942