مصطفى السباعي الرجل الإعصار
تمهيد:
شخصية السباعي شخصية قيادية عامة، فكرية، وعلمية، وسياسية، واجتماعية خاض غمار الحياة السياسية، والعلمية، والاجتماعية وكان فيها الأبرز والأشهر بين الزعامات المنسوبة إلى تلك الميادين، ولكن الميدان الذي صال فيه وجاهد وجال، إنما كان توعية الناس عامة بهذا الدين، وتفهيمهم مبادئه، ومقاصده، والدفاع عنه، بكل ما فيه من تعاليم وقيم، فكان المحارب الذي لا يخلع لَأْمَةَ الجهاد في سائر أحواله، منذ وعى ما الإسلام، وما الأوطان، وما الأصدقاء، وما الأعداء، إلى أن لحق بالرفيق الأعلى، وهو يجاهد بقلمه، يبثه فكراً نيراً، وعلماً وأدباً، وفقهاً حضارياً يليق بخير أمة أخرجت للناس.
كانت آفاقه الفكرية مترامية الأطراف، عميقة الجذور، لم يترك جانباً فكرياً تفيد منه الأمة، ويذود به عن الإسلام، ويقدر على الخوض فيه، أو يسعفه الوقت في تناوله، إلا طرقه ودعا إليه، أو حاول استيعابه عبر مشروعاته الحضارية التي استثمرها في حمل أفكاره إلى الناس عامة، وإلى شباب الإسلام خاصة، كالصحافة التي تعامل معها في وقت مبكر من حياته الفكرية، عندما باشر النشر في مجلة (الفتح القاهرية) وهو ابن تسع عشرة سنة، وكان طالباً في الأزهر، وكانت (الفتح) ميداناً لكبار الكتاب العرب، وفي مجلة "الرسالة" الذائعة الصيت في بلاد العروبة والإسلام، وهو ابن خمسة وعشرين عاماً، ويرد فيها على الدكتور أحمد أمين، وهو باحث كبير، مشهور بمؤلفاته الكبيرة، وعميد كلية الآداب، والسباعي طالب في الأزهر(1).
فكر في الوسائل التي يوصل بها أفكاره إلى الناس، فوجد من وسائل الإعلام المتاحة، الصحافة، فبادر إلى الكتابة فيها، ثم بادر إلى إنشاء جريدة المنار اليومية، وكان يكتب فيها افتتاحيات نارية، ثم أصدر جريدة "الشهاب" الأسبوعية، ومجلة "المسلمون" الشهرية، ثم مجلته الشهيرة (حضارة الإسلام) الشهرية، إلى جانب الكتابة في الصحف الأخرى، وإلى جانب خطبه، ومحاضراته، وكتبه، ودروسه الجامعية الجامعة.
ثم كان مشروعاه الحضاريان الكبيران: إنشاء كلية الشريعة في جامعة دمشق، وإنشاء موسوعة الفقه الإسلامي، وكانا مشروعين طموحين رائعين، أمل هو منهما، ومعه المخلصون من أبناء الأمة خيراً كثيراً، وقد بذل من أجلهما جهوداً مضنية.
لا أستطيع أن أزعم أني سوف أحيط، في هذه الدراسة، بفكر السباعي بآفاقه وأبعاده، فالسباعي من نوادر القادة والمفكرين الإسلاميين في العصر الحديث، ومن رصفاء الأئمة: حسن البنا، والمودودي، وسيد قطب، والندوي، والنورسي، وابن باديس، والإبراهيمي، والفاسي، أوتي من صفات القادة الفكر الكثير، كالإيمان الواعي العميق بالفكرة التي يحملها ويبشر بها، وبالحماسة الهائلة لها، وبالشجاعة والإقدام في طرحها، وشرحها، والذياد عنها، ومن شمول الثقافة، والوعي والاستقامة، والبراءة من كل ما يثلم مروءة أو جهداً من جهوده، ومن عفة، وطهارة قلب، وحزم، وحسم، وما إلى ذلك من الصفات التي أهلته ليكون المفكر الذي تتطلع إليه الأمة، وتأسى لفقده..
لقد كان السباعي، كما يقال، بحراً لا ساحل له، بعيد الغور، ذا عقل كبير تجلى في مشروعاته وكتبه، عميقاً، ثجاجاً، ترفده ينابيع زخارة بالحكمة والفكر المتجدد الذي فهم الإسلام فهماً شمولياً، فهو – كما وصفه – دين وسياسة، عبادة وقيادة، مصحف وسيف، نظام شامل كامل يهيمن على جميع مرافق الحياة.
هذا هو فهمه للإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وليس كما تريده الأحزاب العلمانية محصوراً في الصوامع والجوامع، ليس له صلة بالحياة، بما فيها من ساسة، واقتصاد، وسائر شؤون الحياة، كما فعلت أوروبا، متجاهلين الفروق الكبيرة بين المسيحية والإسلام (1).
سوف أرود بعض رياض فكره، وأقطف من أزاهيره ما يفيد الدارسين، ويدفع بالشداة إلى ارتياد تلك الرياض، وسوف يشعرون بمتعة ماتعة، فكرية وروحية، إن شاء الله..
ثقافته ورسالته:
لا بد للمفكر الحر الأصيل من ثقافة حرة أصيلة تكون الذخر المذخور لأفكاره التي سوف تتفاعل مع مجتمعه لتؤثر فيه، وتحمله إلى ناصية المجد، أو بر الأمان في مرحلة من مراحل تطوره.
والذي يطالع السيرة العلمية والفكرية والأدبية للسباعي، فسوف يرى أنه درس تاريخ أمته، ودرس حضارتها، وفهم ما خلفه علماؤها وأدباؤها ومفكروها من تراث، وأضاف إلى ذلك ما حصله من تراث الفكر الإنساني المترجم، كما درس مجتمعه، وعرف واقعه، والمشكلات التي تعترض تقدمه، وفكر في إزاحة المعوقات من طريق مشروعه الإصلاحي الكبير، ورسم الخطوط العريضة لتحقيق ذلك المشروع، ثم بادر، تحدوه رغبة العزم على تجاوز الصعاب مهما كبرت، وتحمل الأعباء مهما ثقلت وآذت وآدت وآضت، وكذلك كان في حياته العقلية، وحياته الروحية، وحياته العملية، في أداء الرسالة الإصلاحية التي ندب نفسه لها.
كان يؤدي رسالة، بكل ما تعنيه الرسالة من مطابقة الحال على المقال، والمقال على الحال، والظاهر على الباطن، والباطن على الظاهر... مهما نتج عن ذلك من ضيق وضنك وعذاباتٍ الآخرون في منأى عنها، لأنهم لذواتهم وأشخاصهم يعملون، وليس للجماهير والوطن والقيم..
كان قد درس حيوات العديد من المصلحين، وعرف ما ذاقوا من ويلات على أيدي الطواغيت.. درس حياة ابن المبارك، وابن تيمية، وابن القيم، والعز، والسرخسي وسواهم وعرف أن الذي ينتدب نفسه ليكون ثائراً حقيقياً، أو مصلحاً حقيقياً، لا بد له من أن يلقى مثل ما لقوا، وقال لنفسه: حاضر، ثم شمر عن ساعد الجد، وهتف:
ذهب وقت النوم، ودقتْ ساعة العمل.
وفكر في تفعيل الجماهير، وهداه تفكيره إلى أن ينقل الإسلام الحي النابض الفعال، الإسلام المحرر في مثاليته ونضاليته إلى هذه الجماهير، وأن ينقل الجماهير إلى جو الإسلام.. فأزال ما كان في الواقع بين الدين والحياة من بعد وجفاء، في واقع الجماهير المسلمة(1)، وبذلك جعلها تشارك عن طريق دينها في تسيير هذه العجلة لمصلحتها ومصلحة الإسلام مناط عزها وسبب سعادتها في الماضي، وهكذا ينبغي أن يكون لحاضرها ومستقبلها سبب عزتها وكرامتها..
كل ذلك بسبب قدرته الفائقة على التحسس بمشكلات الحياة الراهنة فقد كان رحمه الله، يعيش في حاضره بعقله ولبه، وبقلبه وعاطفته وساعده على ذلك فهمه للإسلام أحسن فهم، وإدراكه لمراميه ومقاصده، وأهداف الشريعة، من خلال تعمقه في دراسة الكتاب والسنة، ومعرفته بآراء الفقهاء، فلقد كان يفهم النصوص في إطار الشريعة العامة، ويعرف الجزئيات في مواضعها من كليات الشريعة وقواعدها العامة، وكانت ترفده ثقافته الإسلامية الواسعة التي تعب في تحصيلها وتحصيل سواها من الثقافات التي رفدته بزاد غني من العلم والوعي واستشراف المستقبل، ثقافة أجنبية متميزة، فقد كان ذا اطلاع واسع على مختلف الثقافات العربية والأجنبية، "وهذه لم تبق في نطاق الفكر المحض، بل كانت وسيلة لتحقيق رسالة إصلاحية كبرى، ومدداً لقيادة حركة إسلامية جديدة".
ولنقرأ ما كتبه العلامة الفقيه الدكتور وهبة الزحيلي، عن ثقافة السباعي، وسعة اطلاعه، وذلك في معرض حديثه عن كتاب السباعي (شرح قانون الأحوال الشخصية):
"ومما يدل على سعة أفق السباعي، أنه لم يقتصر على شرح قانوننا السوري، وإنما كان يقارن الأحكام بين الشرائع السماوية، وقوانين البلاد العربية، ومذاهب أهل السنة والشيعة(1).
ووصف كتابه: (شرح قانون الأحوال الشخصية) بأنه موضح لكثير من دقائق الفقه، وحافل بجليل الفوائد، مما يجعله مرجعاً هاماً لبحوث الأحوال الشخصية، بحيث لا يستغني عنه شخص، سواء أكان قاضياً أم محامياً، أم فقيهاً أم متفقهاً، وتزداد أهمية لصلته الوثيقة بالحياة العملية، والحاجة إليه في مجال التشريع والقضاء، واعتماده – كشأنه في كل ما كتب وحدث – على أسلوب علمي رصين، وأفكار نيرة واضحة، وتتبع واستقصاء لآراء الفقهاء".
وقال الدكتور عدنان زرزور عن كتابه: (شرح قانون الأحوال الشخصية): إن اهتمام الأستاذ السباعي بمقاصد الشريعة، وفلسفة النظام، إلى جانب حرصه على الاجتهاد، وإعادة تنزيل الأحكام الفقهية القديمة على الواقع المعاصر، أغنى كتابه بنظرات وبحوث ما تزال تخلو منها كتب شرعية وقانونية مماثلة كثيرة (3).
منهجه:
هو المنهج الشعوري الاجتماعي الذي يقوم بتحليل الظواهر الاجتماعية، كما هي حية في شعوره، ويخاطب الجماهير بأسلوب مباشر يشرح لها تلك الظواهر، ويبين لها أسبابها، والنتائج التي ستفضي إليها، ما لم تتدارك بالعلاج، تشذيباً وتهذيباً..
وكتابات السباعي أصدق تعبير عن المرحلة التي شهدها من حياة سورية والمجتمع السوري خاصة، وهي مرحلة اليقظة ومحاولة النهوض من سبات التخلف الذي ألم بها منذ قرون، ثم السير صُعُداً نحو المجد الذي جافته وجافاها منذ زمن بعيد.
كان السباعي شاهداً يقظاً على العصر الذي اكتوى في أتونه، عصر التفجرات، وسقوط إمبراطوريات، ونشوء إمبراطوريات على أنقاض حضارة أودت بها أو كادت، حربان كونيتان أحرقتا عشرات الملايين من البشر، بأيدي (بشر) قتلوا ما كان في نفوسهم من المعاني والمشاعر الإنسانية، فلم يعد لها أي صدى في نفوسهم الخالية من تلك المعاني والنزعات.
وشهادة السباعي شهادة حق تدفع الباطل، وتحكم على الواقع، بعد أن تسبر أغواره، وتعرف علله، والنتائج التي ستنجم عنها، ثم كان الشهيد الذي كشف زيف الدعوات التي ينادي بها رجال ما صدقوا شعوبهم، وما استقامت طرائقهم في تشخيص العلل والأمراض، ثم معالجتها، لأنهم مسيرون من خارج ومن داخل، غامت لديهم الرؤى، فكانت الغشاوات على الأبصار والبصائر، وكان ما كان لهذه الأمة وشعوبها على أيديهم من المآسي والكوارث والويلات التي حذر منها السباعي البصير بعواقب الأمور.
كان يعيش الواقع بكل ما فيه من أزمات ومشكلات، وكان يرى أن مباشرة الواقع هي المطلوبة في مجتمعاتنا التي تئن تحت وطأة التخلف في سائر الميادين الحيوية، بعيداً عن تهويمات الآخرين وعن أوهامهم وخيالاتهم، فعينه على الواقع المعيش، بكل ما يضطرب فيه من مشكلات، وما يترتب على تلك المشكلات من شرور إذا لم يبادر رجال الإصلاح إلى تلافيها.
هذا ما نراه في أحاديثه الإذاعية التي جمعها في كتابه (أخلاقنا الاجتماعية) كان يخاطب جماهير الشعب السوري التي كانت تنتظر أحاديثه هذه، وتتفاعل معها، بأسلوب مباشر تفهمه بمستوياتها الثقافية المتفاوتة، ويعالج بها مشكلاتها في وضوح وصدق وأمانة، بحيث يدركون ما يريده..
كان هذا هو المنهج الشعوري الذي رصد به الأمراض والعلل، ووصف الدواء وقدم العلاج، من خلال مشروعه الإصلاحي الثائر على ما في المجتمع من فساد وإفساد..
السباعي مفكراً اجتماعياً:
توزعت اهتمامات السباعي على ما يعانيه مجتمعنا السوري من ألوان التخلف الاجتماعي، وما ينتج عنها من آفات وأمراض حسية مادية، ومعنوية أدبية، من مثل الفقر، والجهل والمرض، والظلم، وتردي الأخلاق العامة والخاصة، وما تعانيه المرأة، والطفولة من عذابات وشقاء، يصعب عليه غضُّ الطرف عنها، وهو المفكر والزعيم الذي لا ينبغي له إلا أن يسعى إلى تطوير الواقع نحو الأحسن، وإلا أن يكون الحادي للجماهير من أجل التطوير الذي يتطلع إليه، ويعمل من أجله: في خطبه النارية التي تشعل الحرائق في النفوس المتطلعة إلى الحرية والتقدم والمجد، وفي محاضراته وكتبه ومقالاته.
وقد حدد أهدافه الإصلاحية في:
1- تربية جيل تتمثل فيه أخلاق الإسلام وعقيدته، ويحمل في الحياة رسالة الإسلام، ويسعى إلى تحقيق نظامه.
2- الدفاع عن الإسلام، دعوة، ودولة، ونظاماً..
3- رفع مستوى الشعب في عقيدته، وتربيته، وثقافته، ومعيشته (1)، والسبيل إلى تحقيق هذه الأهداف في إصلاح الفرد، والأسرة والمجتمع، بتحريره من الجهل، والخوف، والرذيلة، والفقر، والجوع وسواها من الآفات الإنسانية..
وكان يحرك الخامد، ويبث الحياة في الجلاميد، بتواصل طاقته الهائلة الساعية على التغيير، مع الطاقات الكامنة في النفوس المحبطة والمقهورة والمقموعة والمحبوسة في أطر سياسية واجتماعية وعقدية لا تريد لها أن تتحرر فتتطور فتكنس ما أفكوا وأرجفوا من أباطيل وسمادير، كان السباعي يرفضها ويفضحها ويسعى إلى قتلها في جِواء الواقع المثقل بألوان التلوث الفكري الوافد والمستوطن.
ما كان يكتفي بالكلام المنمق، والخطب الرنانة، ثم لا شيء بعدها... بل كان يقرن القول بالعمل، فإذا نادى بتطوير الريف، وتحمل بعض الأعباء عنه، بادر إلى تشكيل المستوصفات أو العيادات السيارة، وإلى سن القوانين التي ترفع عنه إجحاف المجحفين من المتنفذين وأصحاب السلطة، وعمل على تطوير القرية، وإنصاف الفلاحين البائسين، والذي يقرأ سيرته الإصلاحية، يجدها حافلة بالأعمال الإيجابية، وليست قاصرة على النقد والتنظير الذي لا يعقبه عمل، ويكون عامل إحباط وتهميش وانكفاء إلى حضيض الأوهام.. ولهذا عشقته الجماهير التي نقلها من حالات التخدير بفلسفات التبرير، إلى تفجير طاقتها، بنشر الوعي فيها، توعية سياسية وتوعية اجتماعية كان يمكن لها أن تفعل الأعاجيب بالمجتمع السوري خاصة، والعربي عامة، لولا العقبات الكؤود التي وضعها أصحاب الأهواء في طريق مشروعه الحضاري التطويري الشامل لسائر مجالي الحياة.. ثم كان المرض العضال الذي شلّ الكثير من حركته الجسدية التي كانت قرينة حركته العقلية، وحركته الروحية، بما فيها جميعاً من طاقات هائلة مذخورة ليوم الفصل الذي لم يأت، بسبب عوامل موضوعية ذاتية وخارجية، أفقدت الشعب والأمة قائداً فذاً شهد له كثير ممن عرفه من أصدقاء وخصوم وأعداء بالتميز والعبقرية، وعمل كثير منهم على إحباطه وعرقلة مسيرة الإصلاح لديه.
كان في سائر أحواله، ومع سائر الناس، هو هو السباعي الذي تطابق ظاهره مع باطنه، فكان يفضي بمكنون نفسه على لسانه وفي كتابته كلمات تسمو بسامعيها إلى القمم التي يريد أبناء مجتمعه أن يسموا إليها بواقعهم، وليس بسماديرهم وأخيلتهم..
كان ضمير الشعب المعبر عن آلامه وآماله وطموحاته بصوت جهير ما عرف المنطق التبريري، ومخادعة الجماهير إليه سبيلاً.. كان صادق اللهجة، سليم النية، قوي العزيمة فيما يدعو الجماهير إليه، وكانت الجماهير تعرف هذا فيه، فتنشدَّ إليه، وتنشدُ عنده الدفء والعافية في كثير مما يدعوها إليه، وما كان يدعوها إلا إلى الخير الخالص كما فهمه من كتاب الله وسنة رسوله والسنن الكونية، والحقائق التاريخية والواقع المعيش، من أجل انتشالها من وهدات التخلف التي أوقعها فيها رعاتها وأولو الأمر والنهي فيها، ممن تسلطوا عليها، فساموها الخسف والهوان، وأذلوا كرامتها، وأفقروها، وجوعوها، واستأثروا هم ومَحَاسبيهم بخيرات البلاد دونها.
السباعي ابن هذا الإسلام العظيم، ووريث الأنبياء (العلماء ورثة الأنبياء) فكر فيما صار إليه فقراء الأمة من العمال والفلاحين والعجزة والمحتاجين والمساكين والأرامل والأيتام وسواهم من الكادحين المظلومين والبائسين، وهاله ما يعانونه من ألوان الضنك والعذاب، ففكر وخطط من أجل إنصاف هؤلاء المعذبين في الأرض، فدعا إلى التكافل الاجتماعي لسد حاجاتهم المادية والأدبية، وناقش قانون العمل في البرلمان، وأثناء وضع الدستور السوري عام 1950 وكان له وجوده الفعال في المناقشات التي دارت حول قانون العمل، والنص على حقوق العمال، كتحديد ساعات العمل، وتأمين العمل لمن لا يجدونه، وحماية حقوق العمال، وضمان مصالحهم، وزيادة أجورهم، وتحسين ظروف العمل والعمال، ومنحهم إجازات مناسبة، ووقف ضد التسريح التعسفي، وطالب بسن قوانين تكفل لهم كل ذلك.
وكان يأسى لحياة الفلاحين الذين يلقون ألوان الظلم من ملاك الأراضي، الذين يسرقون جهودهم، ويستخدمونهم ونساءهم وأطفالهم فيما يليق ولا يليق من الأعمال، فكان حرباً على التخلف والحياة البائسة في الريف، ودعا إلى إنصاف الفلاحين، وتأمين الخدمات الصحية والمدارس، والكهرباء، والماء النقي لهم، وشق الطرق إلى قراهم.
ودعا إلى توزيع أراضي الدولة بأثمان معتدلة ومقسطة على الفلاحين غير المالكين، لتأمين العيش الكريم لهم ولأسرهم، كما دعا إلى تحديد الملكيات الزراعية الكبيرة، وإلى توزيع الأراضي الزائدة على تلك الملكيات، على الفلاحين الذين يعملون فيها، ولا يملكون منها شيئاً، ورفض أن تستأثر قلة قليلة، بملكيات كبيرة شاسعة واسعة، وتحرم الكثرة الكاثرة من الفلاحين البائسين من امتلاك شيء منها، وهذا سوف يؤدي إلى الظلم والفساد، ثم إنه يرى أن الملكية وظيفة اجتماعية لصالح المجتمع، وتلك المالكة لتلك الأراضي الشاسعة أعجز من أن تنهض بتلك الوظيفة.
ونادى بابتعاث مؤسسة الزكاة لمقاومة الفقر والجهل والمرض، ورفع مستوى الأسر الفقيرة، وتحقيق خطط التنمية التي تعود أولاً على الطبقات الفقيرة بالنفع، ومن أجل بعث مؤسسات اجتماعية لللاجئين والمسنين، وللضعفاء والأيتام.
قال في مقدمة كتابه الرائع (اشتراكية الإسلام):
"إن مشكلة الفقر والجوع والحرمان ما تزال من أهم مشكلات الحياة منذ أقدم العصور، وكانت مهمة الأنبياء والمصلحين على اختلاف أزمانهم هي الدعوة إلى إنصاف البائسين ورحمة الفقراء ورفع الظلم الاجتماعي عنهم"
وقال:
"والأنبياء جميعاً، قبل محمد صلى الله عليه وسلم، قد عنوا بحقوق الفقراء والضعفاء، والبر بهم، والحفاظ على حقوقهم، والرفع من شأنهم في المجتمع.
ولاحظ "أن اليهود قد حرفوا النصوص عن أنبيائهم بشأن الفقراء، فبعد أن كانت تعاليم الأنبياء – عليهم السلام – إنسانية النزعة، عامة لجميع الناس، قصرها اليهود على عنصرهم، وأبناء دينهم فحسب، مما يتنزه عنه أنبياء الله وحملة رسالاته"، "لذلك كان طبيعياً أن تتجه رسالة المسيح – قبل كل شيء – إلى تطهير المجتمع اليهودي من تلك الرذائل، ومحاربة المادية اليهودية البشعة، وما أدت إليه من تفاوت طبقي مهين".
"وكان شأن الإسلام كشأن الديانتين السابقتين في العناية بالفقراء، ومحاربة ظلمهم وإهمالهم، غير أن الإسلام سلك للوصول إلى هذه الغاية النبيلة مسلكاً يختلف في تفاصيله وفي وسائله.." وأهم ما امتازت به طريقة الإسلام في معالجة مشكلة الفقر والغنى ميزتان:
أولاً – لم ينظر إلى هذه المشكلة على أنها مشكلة قائمة بذاتها، بل متصلة بغيرها من شؤون الحياة، فلا بد لمعالجتها من معالجة تامة صحيحة لكل شؤون الحياة.
ثانياً – أنه لم يقتصر على المواعظ والوصايا الأخلاقية، فذلك مما لا يؤثر في سواد الشعب غالباً، إلا أن تكون معه قوانين واضحة تحدد الواجبات، وتحميها دولة ترهب المسيئين، وتأخذ على يد الظالمين، وتحمل الذي لا تجدي فيهم الوصايا والمواعظ على تنفيذ تلك القوانين، فتلك سنة الله في استقامة الحياة، وانتظام المجتمعات..
"ومن أمعن النظر في قوانين الإسلام، وجد أن هذه القوانين كلها تتوخى تحقيق مصالح الناس، وحاجاتهم الضرورية، والرفاهية، وسعادتهم الاجتماعية في الحياة الدنيا وسعادتهم الخالدة في الحياة الأخرى"..
وعلى ضوء ما تقدم، صاغ السباعي النظرية التالية التي تكفل حقوق الفقراء والفئات التي تحتاج إلى عون المجتمع والدولة:
1- الحقوق الطبيعية لكل مواطن.
2- القوانين التي تضمن هذه الحقوق، وتنظم طرقها.
3- القوانين التي تكفل التكافل الاجتماعي.
4- المؤيدات التي تدعم تلك الحدود والقوانين.
وهي مستمدة من الإسلام القادر على إيجاد حلول معاصرة، في ضوء روح الشريعة، لا فقهها التقليدي، للمشكلات المعاصرة، وتحدياتها.. الإسلام الذي أنشأ نظاماً اقتصادياً يهدف إلى محو استغلال الإنسان للإنسان، وتجاوز التخلف الذي يعتمد الإصلاح الزراعيَ، والتأميم، والضريبة التصاعدية، وانتزاع رأس المال الكبير من أيدي الرأسماليين الكبار، رغماً عنهم، ودون رضا منهم، وإشراف الدولة على فعالية الفرد الاقتصادية، ومراقبتها، وتدخل الدولة في تحديد الأسعار.. إلخ.. كوسائل لتحقيق هذا الهدف (1) الذي هو هدف الإسلام وهدف الإنسانية الكريمة في كل عصورها، ويكون هذا بالانطلاق من مبادئ الشريعة وروحها ومقاصدها العامة إذ إن معيار نصوص الشريعة كلها، يقوم على تحقيق المصلحة العامة.
ويحدد السباعي هذا المعيار بالمبادئ الثلاثة التالية:
1- تحقيق مصالح الناس في كل ما يحتاجون إليه، مما يقر العقلاء وعلماء الشريعة والاجتماع بأنها مصلحته.
2- تحقيق العدالة بين الناس.
3- تحقيق التطور الاجتماعي الصالح في المجتمع الإنساني (2).
وركز على كرامة الفرد، بكل ما تعنيه من حقوق إنسانية لا يمكن التفريط بها تحت أي ذريعة، وعلى رأسها: العقيدة، والحرية، والمال، والعرض، والحياة السعيدة، كما جاء بها الإسلام لحفظ كرامة الإنسان.
وكان السباعي يتبع القول بالعمل، بوضع البرامج التي يستطيع بها تنفيذ أفكاره، لأنه لا يريد لأفكاره أن تبقى أفكاراً عائمة أو طائرة في الفضاء، بل كان يريدها واقعاً معيشاً، وحياة تنبض في النفس والمجتمع والدولة، وهذا كله، كان بسبب تحسسه الشديد بأمراض مجتمعه، ومشكلاته وقضاياه، وكان وعيه الاجتماعي هذا يزيد مع الأيام قوة وعمقاً وفهماً واستيعاباً لكل ما يهدد مجتمعه من موبقات وويلات..
في السياسية الوطنية:
الحس الوطني أصيل في نفس السباعي منذ كان فتى يافعاً في المدرسة الإعدادية، وعداؤه للاستعمار كان ينمو بنمو عمره وعقله، وقد ثار مع الثائرين عليهم ولم تغب عنه قضية بلاده، وهو بعيد عنها في مصر للدراسة، بل كان يتابع أخبارها في الصحف، ويلتقي القادمين منها إلى مصر، وعندما يعود إليها في أيام العطل والزيارات، كان يتابع أوضاعها، ويلتقي الناس المعنيين بالحركة الوطنية، ويحضر المؤتمرات، ويكتب في (الفتح) عنها، ويخطب في الأندية والمظاهرات، وكان يؤيد (الكتلة الوطنية) في الثلاثينيات من القرن الماضي طبعاً ويثني على من يراه نزيهاً، مثل شكري القوتلي، وهاشم الأتاسي، ويأسى لحال كثير منهم، بعد أن رأى وعلم الكثير عن تناحرهم وتهافتهم على مصالحهم الذاتية، وعندما يئس من تلك الزعامات التفت إلى الشباب، رجال المستقبل من شباب محمد صلى الله عليه وسلم، وشباب الجامعة والمعاهد ممن سمت أرواحهم، وقويت عقائدهم، وحسنت أخلاقهم، وأنحى في مقالات أخرى باللائمة على العلماء لتقصيرهم في تحمل مسؤولياتهم، وعدهم قادة الأمة، وهم فوق الزعامات السياسية، وأحق الناس بقيادة المسلمين وقال عنهم:
"فقد تخلوا عن المسؤولية، وقبعوا في البيوت والمعابد، ومكنوا الفوضى والإباحية أن تجوس خلال الديار، ولم يكن منهم إلا قول في مسجد لا يتجاوز الآذان، وأنَّهُ في درس لا يسمعها إلا العجزة والشيوخ، وحوقلةٌ واسترجاع هما عدة العاجز وتكأة المهزوم".
كتب هذا وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، أي أنه كان في فورة الشباب، ويريد إحراق المراحل، وتخليص البلاد من أوزار الاستعمار وأثقاله. وحق له هذا، لأنه رأى المؤامرات تحاك ضد وطنه، فهذه فرنسا المستعمرة تتواطأ مع العلمانيين الطورانيين الحاكمين في تركيا، وتقتطع لواء الإسكندرون من سورية، وتسلمه لتركيا، وعد استلابه نكبة نزلت بسورية، ودعا إلى إعادة هذا الجزء العزيز من الوطن إلى وطنه، وندد بالعلمانيين السوريين الذين أبدوا إعجابهم بأتاتورك، وبالذين انتقدوا مفهوم الرابطة الإسلامية، بسبب عدوان تركيا على اللواء السليب، وقال عن حكومة تركيا: إنها ليست مسلمة، وهي حجة عليكم، وليس على الإسلام والمسلمين، فهؤلاء الأتراك العلمانيون، أشد الناس عداوة للإسلام والعرب والمسلمين..
وألقى السباعي خطبة في مكتب (الكتلة الوطنية) في حمص، على ممثلي الأحزاب والجمعيات بعنوان: (من لم يكن في بلاده حراً فخيرٌ له أن يموت: واجبات الأمة في عهد الاستقلال) أبدى فيها آلامه وأحزانه مما يجري على أرض الوطن، من تناحر بين الأحزاب، وعدّ هذا التناحر انتحاراً وقتلاً للوطن، وتخلياً عنه في أشد أوقاته خطراً ودعا إلى وحدة الصف في مواجهة الأخطار، وقال:
"ها هي بلادكم، يريد ملاحدة أنقرة أن يختطفوها من وطنكم.. وها هي فلسطين، الجزء السوري الجنوبي، يريد المستعمرون أن يخرجوا فيه إلى الوجود أول مملكة يهودية على ظهر الأرض، ليجعلوها شوكة في جسم الوطن العربي الأكبر..."..
كان السباعي يتعاون مع الأحزاب السورية فيما فيه مصلحة وطنية، وكان يصف رجال الأحزاب، على اختلاف نزعاتهم، بالخصوم، لا الأعداء، لأن العدو في رأيه يكون أجنبياً خارجياً، أما هؤلاء فخصوم، يتخاصمون فيها بينهم، كما يتخاصم الأبناء مع الآباء، والإخوة فيما بينهم، والأزواج.. (1).
وعندما انتخب مراقباً عاماً لجماعة الإخوان المسلمين عام 1945م وكان الاستقلال بعد عام (1946) فكر فيما ينبغي عمله في المرحلة الجديدة للوطن وشعبه، وقد هداه تفكيره إلى العمل الجاد السريع لإزالة آثار الاستعمار، وقد كانت آثاراً ثقيلة على الوطن أرضاً وشعباً، حاضراً ومستقبلاً، ويجب العمل على إزالتها حسب برامج واقعية طموحة، وقد حدد تطلعاته وطموحاته في أفكار بثها في برنامجه الانتخابي للجمعية التأسيسية السورية (1949) التي تحولت إلى برلمان حر عام 1950 وهي، فيما يتعلق بالسياسة الداخلية السورية:
* صيانة السياسة الداخلية من التدخل الأجنبي.
* المحافظة على النظام الجمهوري (واستمر طوال حياته يدافع عنه)
* التأكيد على النهج الديمقراطي (واستمر طوال حياته يدافع عنه).
* الفصل بين السلطات: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية.
* أن يتماهى الدستور الجديد الذي سوف تضعه الجمعية التأسيسية مع شخصية الأمة، ويضمن الحريات العامة، ويضرب على أيدي العابثين بحقوقها، وآمالها، واستقلالها، وثرواتها..
* أن تكون الانتخابات حرة نزيهة، لتأتي ببرلمان يمثل الشعب، وأن يكون الشعب مصدر سلطات الدولة..
* إصلاح الإدارة الحكومية، وتنظيفها من الرشوة والمحاباة، والقضاء على البيروقراطية الحكومية، بتسريح العاجزين، وسلوك سياسة تقشفية في التوظيف، مع تحقيق العدالة، وصيانة المصالح العامة.
* تقوية الجيش معنوياً، وأخلاقياً، ومادياً، وإنشاء مصانع لصنع السلاح اللازم لتقويته في مواجهة العدو، وإلزامية الخدمة العسكرية لكل أبناء الشعب، ليكون أبناء الشعب جيشاً احتياطياً مسلحاً قادراً على الدفاع عن الوطن.
* يجب أن يشمل الإصلاح والتطوير سائر أبناء الشعب، دون التمييز بين أبناء المدينة وأبناء الريف، ولا بين الأغنياء والفقراء.
* الشريعة الإسلامية هي مصدر الدستور والقوانين.
* صيانة العقيدة، وغرس روح العزة والنخوة في الأمة، وصيانة أخلاقها من الميوعة، وتوجيه وسائل الإعلام لخدمة هذا الهدف.
* توحيد برامج التعليم في المدارس الحكومية والأجنبية الخاصة على أساس الإيمان بالله، والتمسك بالأخلاق الفاضلة..
* يجب على الحكومة والشعب أن يعملا بقانون التقشف وأن يكون الإنفاق العام على القضايا المهمة، مثل التعليم، والتسليح، والصحة، والبرامج الإصلاحية الأخرى.
* سن سياسة مالية واقتصادية للدولة تقوم على تقوية الدخل الوطني، وتحسين وسائل الإنتاج، وغزو البضاعة الوطنية للأسواق الأجنبية، وترشيد الاستيراد والتصدير ترشيداً يحمي أموال الأمة، ودعا إلى تخفيض الضرائب على الجماهير، وزيادة الضرائب التصاعدية على كبار الملاك والتجار والصناعيين.
* ودعا في بيانه الانتخابي هذا، إلى توزيع أراضي الدولة على صغار الفلاحين، وعلى خريجي المعاهد الزراعية، كما دعا إلى تحديد الملكية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ورفع مستوى معيشة الشعب، ورفع مستواه الصحي والرعاية الطبية، وإلى تعميم التعليم، وإلزاميته، ومجانيته، وإلى إقرار مبدأ الضمان الاجتماعي، ومنحة الشيخوخة والبطالة.
* ودعا إلى حماية مصالح العمال، وسن القوانين التي تضمن حقوقهم، وتزيد في الإنتاج، وتحقق التضامن بين العمل وأرباب العمل.
* ودعا إلى العناية بالقرى، وبطرقاتها، ومدّها بالكهرباء والماء النقي وبمستوصف، وطبيب، ومدرسة، ومسجد، ومكتبة.
* ودعا إلى رفع مستوى المرأة، وصيانة أخلاقها، لتكون أماً صالحة، وسيدة جيل متفوق.
* ودعا إلى تأميم المؤسسات الاقتصادية الأجنبية، لتصير ملكاً للدولة (1).
وعندما ثارت المناقشات الحامية حول دين الدولة في البرلمان، ثم في الصحف والمنتديات، وذرّ قرن الطائفية، ندد السباعي بمثيريها، ورأى أن الدعوة إلى ترك الدين كعلاج للطائفية غفلة قاتلة، لا تقع فيها أمة واعية، ثم إن الفرق بين الدين والطائفية، هو فرق ما بين العلم والجهل، والحق والباطل، والخير والشر، والإيمان والعصيان: فالدين إخاء وتعاون ولقاء، والطائفية عداء وتقاطع وجفاء، الدين حب ورحمة وسلام، والطائفية كرهٌ وقسوة وخصام. الدين وفاء وحسن خلق وسلام، والطائفية غدر وسوء خلق، وخبث نفس، وقذارة يد. الدين شرعة لله ورسالته، والطائفية شرعة الشياطين ووسوستهم. الدين هداية الرسل إلى الله، وطريق الناس إلى الجنة، والطائفية قيادة الأشرار إلى الدمار، والطريق المستقيم إلى النار (1).
كان يكره الطائفية، ويمقت الطائفيين، لأنه كان يدرك مخاطرها على الشعب والأرض، ولهذا حذر منها قبل أن تمتد إلى كل جميل في الوطن فتقتله، وما كان أبعد نظره!
وكان عدواً لدوداً للانقلابات العسكرية، والانقلابيين، ويرفض التعامل معهم، لأنهم ليسوا شرعيين، وجاؤوا على ظهور الدبابات، ولأنهم قتلة للإنسان وكرامته وحريته، وكان يقول: لن يكون من الانقلابيين خير، وسوف يعودون بالبلاد والعباد وما حققوه من تقدم، القهقرى.. إلى الوراء، فيما الآخرون الأحرار يتقدمون.
كان ضد الأنظمة الديكتاتورية، ويعتبرها كلها فاسدة، وضد الاستبداد، لأنه ضد العدل، ولن يكون المستبد عادلاً أبداً، وما يقع الاستبداد إلا مقترناً بأبشع أنواع الظلم والبغي وانتقاص حقوق الأمة، وإهدار كرامتها (2).
وقد تعرض السباعي للأذى من سجن ونفي، لأنه صرّح بأفكاره هذه لأولئك الانقلابيين الذين عرضوا عليه أن يتعاون معهم، وله ما يريد من المناصب، فرفضهم ورفض التعاون معهم، وآثر السجن والنفي والتشريد، على المناصب الكبيرة، وخيانة أفكاره والمبادئ التي أعلنها.
مفكراً سياسياً:
تنبه السباعي الفتى إلى أهمية العمل السياسي، وعرف من مجالس العلماء في بيت أبيه الشيخ حسني السباعي، ما يبيته الاستعمار الصليبي لهذه الأمة، وسمعهم يتحدثون عن الاحتلال، وما جرّ معه من انحلال، وميوعة تستهدف أخلاق الأمة، ومن مدارس تبشيرية تهدف إلى تشكيك المسلمين بدينهم، وعقيدتهم، وأخلاقهم، وتمهد لاستقرار المستعمرين على أرضهم، بعد إقناعهم بالقيم الغربية، وبأن الاستعمار يريد أن يحضرهم، ويمدنهم، وسمع بما فعله ويفعله المستعمرون في بلدان المغرب العربي، وفي مصر، وفلسطين، والعراق، ولبنان، فأدرك أن العمل السياسي ضروري جداً لتخليص بلده وبلدان العرب والمسلمين من شرور الاستعمار، وبادر، وهو فتى، إلى تشكيل لجنة طلابية كانت توزع المنشورات التي يكتبها ضد الاستعمار ومدارسه التبشيرية في سورية، وفي بلدان المغرب العربي، وخطب في الطلاب، وفي مسجد حمص الكبير، وشارك في المظاهرات فاعتقله الفرنسيون مرتين، وهو فتى في عامي 1931 و 1932م.
وعندما ذهب إلى مصر، طالباً في الأزهر، شارك في العمل السياسي، وكان يخطب في المظاهرات مندداً بالاستعمار الإنكليزي، فاعتقلوه عام 1934م، كما اعتقله الإنكليز في مصر عام 941م بعد أن وقَّع على عريضة مع بعض علماء الأزهر وطلابه، قدموها إلى قصر عابدين، وطالبوا فيها بالإفراج عن الزعيم الوطني الفلسطيني محمد علي الطاهر، واتهم الإنكليز السباعي بأنه شكل جمعية سرية لتأييد ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، وأنه يحرض المصريين على الثورة بهم، وبقي في المعتقلات الإنكليزية ثلاثة أشهر، ثم تدخل شيخ الأزهر (المراغي) واتفق مع سلطات الاحتلال الإنكليزي على الإفراج عنه وعن إخوانه، ومنهم الشيخ مشهور الضامن، من فلسطين، فأفرجوا عنهم وأخرجوهم من مصر، وسلموهم إلى الإنكليز في فلسطين، والدم ينزف من أنفه من شدة الحر في غزَّة ذلك اليوم، وهؤلاء أودعوهم في سجن صرفند، ثم أفرجوا عنه وعنهم بعد أربعة أشهر، وسلموه إلى الفرنسيين في سورية، فزج به الفرنسيون في سجونهم سنتين ونصف السنة، كانوا ينقلونه خلالها بين سجون حمص وبيروت والمية مية، وراشيا، وعرضوه للتعذيب الشديد.
كان السباعي يدرك تبعية أكثر حكام العرب للأجانب، يأتمرون بأوامرهم، ويسلطون طغيانهم على الشعب، وينتهكون حقوقه، فارتسمت في نفسه صورة واضحة عن الواقع السياسي المهين، وعدّ هذه المشكلة كبرى مشكلاتنا السياسية، فانطلق يعالجها بدأب وفي حماسة نادرة، وجرأة لا تعرف الحدود.
عمل مع الكتلة الوطنية، على الرغم من مآخذه الكثيرة عليها، ووقف ضد الأحلاف والمشاريع الاستعمارية، كحلف بغداد، ومشروع آيزنهاور، ومشروع النقطة الرابعة الأمريكية، وألقى خطبة هي من أعنف خطبه في الجماهير المحتشدة في أضخم مظاهرة عرفتها البلاد، ألقاها من إحدى نوافذ المركز العام للإخوان في حي الشهداء في 5/12/1954م، وهاجم فيها سياسة الأحلاف، وندد بالسياسات العربية الذيلية الدائرة في فلك السياسة الأمريكية، ونادى بسياسة عدم الانحياز إلى أحد المعسكرين: الغربي والشرقي، وهو ما سمي بسياسة الحياد الإيجابي، وهذه الفكرة لم يسبقه إليها أحد من ساسة العالم الثالث، ثم تبنتها بعض الأنظمة العربية:
بلغ مرحلة النضج السياسي وهو شاب، الأمر الذي أهَّله لقيادة جماعة الإخوان، كبرى الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، ليس في سورية وحدها، بل قاد الحركة في الوطن العربي كله، وكان رئيس المكتب التنفيذي للإخوان في البلاد العربية، وهو منصب مستحدث هو بمثابة منصب المرشد العام، لما تميز به من حس سياسي مرهف، وفكر عميق، ما تزال آثاره في نفوس الرعيل الأول من صحبه، ومن تلاميذه الذين نقلوه إلى من بعدهم.
كان يطرح الأسئلة المحرجة على الناس، في خطبه وكتاباته ومحاضراته، وكان يجيب عليها بصدق.
دخل الانتخابات العامة، وكان نائباً لرئيس البرلمان، وأحد أعضاء لجنة الدستور، وشارك بإخوانه في الوزارات، وخاض عدة معارك في البرلمان وعلى صفحات الصحف، كمعركة الدستور، ومعركة دين الدولة، وسواها من المعارك السياسية ذات الطابع الفكري.
في القضية الفلسطينية:
شغلته القضية الفلسطينية منذ أن كان طالباً في الأزهر، وكأنه كان يستشرف المستقبل، ويعي ما تبيته الدوائر الاستعمارية المتعاونة مع الصهيونية العالمية لفلسطين، فكتب، ونبه، وحذر، واستبكى وأبكى على ما ينتظرها من مصير ليس في صالحها ولا في صالح العرب والمسلمين والإنسانية أيضاً، ونستطيع أن نقرأ هذه الأفكار فيما كتبه في مجلة الفتح القاهرية التي كان يصدرها المفكر الكبير الأستاذ محب الدين الخطيب، الذي فسح صفحاتها لهذا الشاب الأزهري القادم من الشام.
من هذه المقالات:
1- أيها المسلمون: أنقذوا فلسطين، قبل أن تبيد (1356هـــ).
2- موقف سورية من فلسطين (1357هــــ).
3- فلسطين تستيقظ، ولكنها لا تسلك سبيل النجاة (1354هــــ).
4- صبراً فلسطين (1356هـــ).
أثار السباعي الطالب الأزهري القضية الفلسطينية في العديد من الميادين المصرية، على أنها أهم قضايا المسلمين في هذا العصر، في مقالاته، وخطبه، وندواته، بمناسبة ذكرى وعد بلفور المشؤوم، ومعاهدات سايكس بيكو، وسواها من الذكريات المرة في فلسطين (ولو جمعت المقالات التي كان يكتبها عنها في مصر، لبلغت مجلداً، أما الخطب التي ألقاها فيما بين 1943 – 1945م فتبلغ مجلدات)(1) ذلك أنه بعد أن أفرج عنه في أواسط الحرب العالمية الثانية، طاف المدن السورية يخطب في الجماهير ويحذرها وينذرها، وينقل إليها ما سمعه من رجال فلسطين المخلصين، ويقود المظاهرات، ويهاجم بريطانيا التي تمكن لليهود في فلسطين، وتحرم على الفلسطينيين حمل السلاح، والتدريب، فيما كانت تقدم السلاح والتدريب والعتاد للعصابات اليهودية، وكان يهاجم أمريكا والغرب والاتحاد السوفياتي والشيوعية المحلية والعالمية التي تدعم اليهود، وتعمل لإقامة دولتهم المغتصبة، لتكون قاعدة انطلاق لها ضد العرب والمسلمين.
وهاجم حكام العرب الذين لا يستعدون لليوم الموعود الذي غدا على الأبواب، وشكا من تضارب أهوائهم ونزعاتهم، والمتاجرة بالدم الفلسطيني، والتراب الفلسطيني، وأنذرهم وبال هذه الأهواء والأطماع والتواطؤ مع الغرب ضد قضية العرب والمسلمين الأولى في هذا العصر، قضية فلسطين.
استطاع السباعي تعبئة الجماهير وتفعيلها مع القضية الفلسطينية، بعد أن نقل إليها الإسلام الثائر على الظلم والظالمين، الإسلام المحرر الذي يأبى أن تكون بلاد العرب والمسلمين محتلة مغتصبة، ونقل الجماهير إلى جواء الإسلام، وبهذا، جعل للجهاد في سبيل هذه القضية أساساً من العقيدة والدين، فأمدها، بهذا بقوة عظيمة جداً، وقطع الطريق على المستغلين والمتاجرين والمنحرفين الذين استهوتهم المبادئ الضالة لأنواع الشعوبيات الحديثة التي كانت تستغل جواء الإحباط والظلم والقهر، وتتصيد من خلالها تلك الجماهير، وتعزلها عن قضايا أمتها التي هي قضاياها.
كتب السباعي الطالب في مجلة (الفتح) عام 1356هــــ - العدد 575 في ختام مقالته:
أيها المسلمون: إن كارثة فلسطين هي كارثة الأندلس الثانية، ومصيبة الإسلام في عصره الحاضر، إنها مشهد من مشاهد الصراع بين الغرب والشرق، بين الباطل والحق، إنها صولة الباطل الذي يريد أن يتحداكم ليخضعكم لسطوته، فالموت لمن يرضى والحياة لمن يأبى، والسؤدد لمن تمرد(1).
لقد شغلته القضية الفلسطينية منذ كان شاباً في العشرين من عمره، كتب لها ومن أجلها وحاضر وتظاهر، وطالب بالإعداد والاستعداد ليوم الحسم، وما هو ببعيد، وكانت استجابة الجماهير رائعة، واستجابة الحكومات فاترة مخادعة، حتى إذا كان اليوم الموعود، وأعلن اليهود عن قيام كيانهم الصهيوني، بادر السباعي إلى حمل السلاح، وقاد كتيبة من إخوانه، وأبلى وأبلوا بلاءً حسناً في الدفاع عن القدس، فيما كان الأدعياء الآخرون يتاجرون بالدم والأرض، ويتنزهون في العواصم، ورأى السباعي التقصير الذي بلغ حد الخيانة، وعاد إلى الوطن يروي للجماهير ما رأى وما فهم، وقد فهم الكثير مما جرى أمام عينيه..
لقد كانت كتاباته الأولى في رحلة شبابه، ذات رؤية مستقبلية شديدة الوضوح في نفسه، شديدة التحذير، وهو يتحدث عن النذر التي ستكون مقدمات هائجة، تعصف بفلسطين أرضاً وشعباً.. كان يعي طبيعة الصراع مع الغرب وطلائعه المتقدمة في فلسطين، وطبيعة السياسة الغربية المنافقة المخادعة، وعلى رأسها بريطانيا العجوز التي هي سبب هذه المأساة التي لحقت بأهل فلسطين، بريطانيا التي مكنت لليهود، وسهلت لهم الهجرات الكثيفة، وساعدتهم في جلب السلاح الفتاك الحديث، وتسليح عصاباتهم الإجرامية به، ثم تسليمهم كل ما كان عندها في فلسطين من سلاح وعتاد ووسائط نقل واتصالات، قبل أن تغادرها..
وتوقع تفكك إمبراطوريتهم (التي لا تغيب عنها الشمس) وأن العرب والمسلمين جريمتها في فلسطين، حاضنة أولى القبلتين، أرض النبوات والمقدسات، وقلب العروبة النابض، ومفتاح جزيرة العرب التي امتزج ترابها بدماء خير الأجيال، أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
بعد النكبة (1948) ازداد الأمر وضوحاً لديه، وعرف أن صراعنا مع اليهود طويل، وأنه صراع بين عقيدة ولا عقيدة، وبين علم وجهل، وبين نظام وفوضى.
وفي برنامجه الانتخابي الذي خاض به انتخابات البرلمان عام 1949 دعا إلى حل القضية الفلسطينية بإطلاق عنان القوى الكامنة في روح كل عربي ومسلم للظهور والعمل، واستغلال جميع إمكانات الشعب من أجل تحرير الأرض المقدسة من المغتصبين الصهاينة، وإبعاد كل السياسيين والعسكريين المنهزمين في حرب فلسطين عن قيادة أي كفاح في المستقبل، وحل قضية اللاجئين بضمان عودتهم إلى وطنهم من دون أن يكونوا تحت سيطرة اليهود وسلطانهم.
وألقى الدكتور السباعي خطاباً رائعاً في المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي عقد في بحمدون – لبنان في 25/4/1954 فضح فيه مزاعم الغرب وواقع الصهيونية بأسلوب صريح ومؤثر، كان له صداه القوي في أوساط المؤتمرين وقد حملهم هذا الخطاب الذي تحدث فيه عن مشكلات البلاد العربية والإسلامية، وخاصة قضية فلسطين، حملهم على اتخاذ قرار يتعلق بفلسطين واللاجئين وعدل ميثاقه بشكل يعترف بما جاء في هذا الخطاب من وجوب تعديل سياسة الديمقراطيات الغربية، في بلاد العرب والمسلمين، بما يتفق ومبادئ الحق والعدالة، ومما جاء في خطاب السباعي:
"إن الصهيونية تعتمد على الشيوعية وتنشرها، كما تعتمد على الديموقراطية وتدافع عنها، لأن الصهيونية لا دين لها إلا تحقيق مطامعها، وإنكم لتعلمون أن الصهيونية كانت دعامة الحركات الشيوعية في أوروبا وأمريكا، وأن الجاسوسية التي أقضت مضاجع أمريكا وإنكلترا وغيرهما من دول الغرب، إنما يديرها ويسهر عليها صهيونيون كبار، استطاع التحقيق أن يكشف القناع عن وجوه كثيرين منهم، فأسلمهم إلى يد العدالة، ولا يزال القناع قائماً على وجوه كثيرين من كبار الصهيونيين المواطنين في أمريكا وأوروبا، وسيعلم الشعب الأمريكي والشعوب الأوروبية، ولو بعد حين، أن هؤلاء الصهيونيين الكبار، لم يكونوا إلا خونة ومجرمين كباراً في حق أمريكا وأوروبا على السواء، وهذه العناصر الصهيونية القوية، هي التي توجه سياسة الدول الغربية، وتبسط سلطانها ونفوذها على كثير من الرؤساء والزعماء والنواب ودور الصحافة، وبيوت التجارة في بلاد أوروبا وأمريكا...
إن الصهيونية حركة مادية، لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا بالقيم الروحية والأخلاقية.
وهي حركة سياسية تستغل كل الشرائع والقوانين والمثل العليا لتحقيق مطامعها في السيادة والملك.
وهي سياسة ميكيافيلية، تستبيح كل الجرائم الخلقية والاجتماعية، من قتل وتخريب وتشريد للوصول إلى غايتها.
وهي حركة عدوانية تدبر الحروب، وتثير العداوة والبغضاء بين الشعوب.
هذه هي الصهيونية في فكرتها وفي واقعها، فإذا شككتم في ذلك فتعالوا لتروا الصهيونية بأعينكم خراباً، ويتماً، وتشريداً، وإجلاء، وإفناء. تعالوا نزر معكم أماكن اللاجئين لتروا آثار الصهيونية في جولتها الأولى، وهي الآن تستعد للجولة الثانية، والثالثة، وغيرها، حتى تصل إلى ما تريد من إفنائنا كشعب، والقضاء علينا كأمة ذات دين وحضارة روحية، ومثل عليا.
من أجل ذلك نعتبر الصهيونية خطراً قائماً في قلب وطننا العربي والإسلامي، ونعتبر كل من يساندها عدواً للحق وللأخلاق وللأديان، ونحن حين نخوض ضدها معركة الدفاع، إنما نخوضها لا من أجل أنفسنا وتراثنا وقيمنا الأخلاقية فحسب، بل نخوضها من أجل الإنسانية كلها، من أجل القيم الروحية والخلقية التي جاءت بها شرائع الله، ولئن كان الغرب المسيحي وقف حتى الآن موقف المؤيد الممد لهذه الحركة بكل ما يستطيع من نفوذ ومال، فإن العالم الإسلامي يطلب منكم يا قادة الروح في الغرب، أن تُحيوا شعور أممكم وشعوبكم، وتوقظوا الضمير العالمي، لإيقاف هذه الكارثة التي نشأت عن أكبر غزو إفنائي لنا، في تاريخنا القديم والحديث(1).
وفي عام 1955 قدم مذكرة إلى الحكومة السورية، طالبها بتبني وضع مشروع عربي مواجه ومكافئ للمشروع اليهودي الصهيوني، ولكن الاستجابة لهذه الفكرة الاستراتيجية كانت معدومة، ولقد صدق من قال:
وقد حالت مشاغله الكثيرة، ثم مرضه، دون القيام بذلك المشروع، نيابة عن العرب، حكومات وشعوباً، مع أن تحقيق ذلك المشروع الذي كان فكره في ضميره يحتاج إلى جهود الأمة كلها، وليس إلى جهود فرد أو جماعة.
وكتب السباعي في افتتاحية العددين: 6 و7 لعام 1961 من مجلة (حضارة الإسلام)، ملخصاً هذه القضية التي شغلت فكره، وملأت حياته، بالتفكير والأشجان:
لا تزال قضية فلسطين كما بدأت منذ نصف قرن أو أكثر، تتأرجح بين الحق والباطل. لم ينهزم فيها الحق هزيمته اليائسة، ولا انتصر فيها الباطل انتصاره الأخير، تتلقفها أيدي المحترفين من ساسة الشرق والغرب: هؤلاء يتوددون إلى الصهيونية العالمية بإضافة مكاسب جديدة لها، وأولئك يتخذون منها تكأة لنيل مغنم مادي أو معنوي، وأهل فلسطين المنكوبون، ممنوعون من التصرف في قضيتهم، معزولون عن كل مصادر القوة التي تمكنهم من استرجاع حقهم، وجماهيرنا لا تزال تتحمس لها بالعاطفة، وتتذكرها بالحسرة، وترى في الدعايات التي تنطلق من بعض حكوماتها أملاً تستبشر به، وترتاح إليه، والصهاينة ماضون في خطتهم المحكمة لحمل العالم الغربي على تأييدهم في باطلهم، ومدهم بمختلف المعونات التي تمكن لهم من البقاء في فلسطين المحتلة، وتهديد جيرانها العرب بأفتك أنواع الأسلحة".
ورأى "أن نعيد قيادة المعركة لزعماء فلسطين المختصين، وشبابها العاملين، فهم أكثر إخلاصاً، وأشد وعياً، وأعظم اندفاعاً ممن لم يكتوِ بنار معركتها، ولم يشرد له طفل ولا أب من أجلها".
ويرى "أن نصحح خط السير الذي بدأناه في معالجة القضية الفلسطينية، فنسلم القيادة لأبنائها، ونرفع مستوى المشردين منهم، روحياً وخلقياً ومادياً، لتجنيدهم لخوض المعركة المقبلة، ونترفع عن استغلالهم واستغلال قضيتهم لأغراضنا الخاصة، وأن نرفدهم بكل إمكانياتنا من مال وسلاح، ونستمر على تبني قضية فلسطين في المحافل الدولية، بتضامن وتنظيم دقيقين، كما يجب أن تُعد شعوبنا لخوض المعركة المقبلة مع إخواننا أهل فلسطين، وذلك إنما يكون بتحرير جماهيرنا من مختلف أنواع العبودية والمهانة، وتربيتها تربية الأحرار الذين تفيض نفوسهم بالإيمان بالله، وترتفع رؤوسهم بالخلق الكريم، وتهوى أفئدتهم مصارع الشهداء، لينعموا بالخلد في جنات النعيم. إن معركة الحرية لا ينتصر فيها إلا الأحرار، فلنعمل لتظلل الحركة الكاملة سماء وطننا الكبير (1).
ونختم هذا البحث بما جاء في آخر افتتاحية كتبها في مجلته (حضارة الإسلام) قبل وفاته بشهر، رحمه الله وكانت بعنوان (الطريق الصحيح لحل مشكلاتنا) وكانت تعليقاً على مؤتمر القمة العربي الثاني، لاحظ فيها أمرين جديرين بالعناية والاهتمام:
أولهما: أن مشكلة كمشكلة فلسطين، هي مشكلة العرب الأولى، لم يلتفت فيها إلى العناية بالأصدقاء الحقيقيين للعرب في مشكلاتهم، ونعني بهم شعوب العالم الإسلامي.. التي وقفت بجانب العرب ضد أعدائهم وقفة كان لها أثرها الكبير في تضييق دائرة المشكلة، وتخفيض المصاب بها..
ثانيهما: أن السلاح المادي وحده لا يكفي لإحراز النصر في مثل معركتنا، بل لا بد أن يصحبه سلاح معنوي يجعل السلاح المادي في يد صاحبه أقوى أثراً، وأشدَّ نكاية في الأعداء، وحقائق التاريخ في القديم والحديث تثبت هذا، ومما لا يتنازع فيه اثنان، أن الإيمان، وقوة العقيدة، ومتانة الأخلاق، هي أقوى هذه الأسلحة المعنوية خطراً، فلماذا نهمل العناية بالسلاح المعنوي، بل يسعى بعضنا إلى حرمان أمتنا منه، وتسعى الدوائر الاستعمارية والصهيونية إلى ضياعه من أيدينا بكل الوسائل التي تملكها، وما أكثرها، وما أشد تأثيرها وسريانها عند بعض النفوس الضعيفة التي هي شر ما ابتليت به أمتنا في عصرنا الحديث(1).
هكذا عاشت فلسطين في فكر السباعي وضميره الحر، إلى أن لقي ربه سبحانه، وهكذا عاش لها بذلاً وتضحية وعطاء.. عطاءً لا أخذاً..
في السياسة العربية:
كان المجاهد الكبير محب الدين الخطيب على صلة وثيقة بالدعاة النزيهين النظيفين، إلى القومية العربية المؤمنة البعيدة عن الفكر العلماني، وكذلك كان الشيخ محمد رشيد رضا.. وكان للصلة الوثيقة بين السباعي التلميذ، ومحب الدين الأستاذ، أثرٌ كبير في شخصية السباعي وفكره، ومن ذلك، تأثره بفكرة العروبة المقرونة بالإسلام دوماً، حتى أخذت فكرة العروبة والإسلام حيزاً كبيراً من فكره، وكانت شديدة الظهور في سائر خطبه التي ما كانت خطبة منها تخلو من هذا القران بينهما.
وكنا نضيق من ذكر العروبة في خطبه، وعندما شكونا لأستاذنا الشيخ نايف عباس، رحمه الله، هذا الأمر ثار بنا، ووبخنا، واتهمنا بالتخلف، وأننا نخدم أعداء الإسلام بالتخلي عن العروبة، وأشاد بالسباعي الذي كان يقرن بينهما، وطلب منا أن نكون مع السباعي، وكذلك كان موقف شيخنا الأستاذ عبد الغني الدقر.
وكان السباعي يرى أن الأمة العربية هي حاملة الرسالة الخالدة، رسالة الإسلام، فالنبي عربي، والقرآن عربي، وجل الصحابة من العرب، وأكثر العلماء والمجاهدين الذين نشروا الإسلام في الآفاق عرب، واللغة العربية هي لغة الإسلام، وهي التي وسعت كتاب الله تعالى وشريعته السمحة، وأكثر الكتب الإسلامية من تفسير وحديث وسائر العلوم الشرعية والإسلامية الأخرى كتبت باللغة العربية، وأحاديث الرسول تحث على حب العرب، وأنه لا يبغض العرب إلا منافق أو مدخول في عقيدته.
أصل لهذه الفكرة، ثم انطلق في المجال السياسي يناضل دونها، فخلف خصوم الإسلام وأعداءه وراءه، وكان من المجلين، ولهذا عندما دعا الأستاذين الجامعيين البارزين: الدكتور مصطفى البارودي، والأستاذ عمر الحكيم إلى المحاضرة في المركز العام للإخوان في حي الشهداء بدمشق عام 1956 وأكثرا من ذكر العرب والعروبة في محاضرتيهما، ولقيا منا نحن الشباب ما لقيا من هتافات إسلامية كادت تفسد عليهما محاضرتيهما، غضب السباعي من هذا التصرف غير الإسلامي، ووبخنا عليه، وأخذ علينا العهد ألا نكرره مرة أخرى، وقال:
الإسلام ذوق، وذوق سامٍ. والدعوة إلى الإسلام لا تكون هكذا...
دعا في برنامجه الانتخابي عام 1949 إلى العمل من أجل تقوية العلاقات بين الأقطار العربية في جميع الميادين، والقضاء على الحواجز المعيقة عن تحقيق الوحدة المنشودة، وتقوية كل تحالف عربي يخدم مصالح الأمة العربية، بعيداً عن تأثير السياسة الإمبريالية، وعن سيطرة أعوانها في صفوف القادة والرؤساء العرب. كما دعا إلى تعديل ميثاق الجامعة العربية لتصبح أداة قوة، وقائدة للأمة العربية..
قال السباعي في الجلسة الرابعة التي عقدتها الجمعية التأسيسية (البرلمان) بتاريخ 27/12/1949م حول الوحدة العربية:
"إننا دعاة وحدة عربية منذ الصغر، ولكن هذه الوحدة تحول دونها مطامع وأهواء، ومن هذه المطامع والأهواء، مطامع دول أجنبية في بلاد العرب، ولقد علمتنا تجربة فلسطين، أن من أكبر أسباب الهزيمة التي منينا بها: تضارب أهواء الملوك والرؤساء والأمراء (1).
وقال باسم المجلس كله:
"وليس هنا من أحد يكره الوحدة العربية، ولكننا نريدها وحدة شعوب لا وحدة ملوك، ولا وحدة عروش، ولا وحدة تيجان (2).
وقال في معركة الدستور حول دين الدولة:
"ونحن – السوريين – دعاة وحدة عربية، نعتبر أنفسنا جزءاً من الأمة العربية، ووطننا السوري جزءاً من الوطن العربي الأكبر، وجمهوريتنا هي اليوم عضو في الجامعة العربية.
وستكون غداً، وبفضل الله، جزءاً من الدولة العربية الواحدة.
والنص على أن دين الدولة الإسلام، عامل قوي من عوامل الوحدة الشعبية بيننا وبين إخواننا العرب، ومظهر رسمي من مظاهر التقارب بين دول الجامعة العربية، فلماذا نهمل أقوى عامل من عوامل الوحدة العربية، شعبية ورسمية؟ ولماذا نتجاهل الواقع الملموس؟
وخلافاً لمفكرين إسلاميين آخرين، تشككوا من الجذور الغربية للقومية العربية، فقد عبر السباعي عن دعمه لها، مع التأكيد على أنها لا تعني تعصباً قومياً أو طائفياً، بل هي مفهوم لوطن داخل حدود الحضارة.
ورأى أن القومية العربية لا يمكن أن تنقطع عن الماضي، بل إنها تستمد منه عناصر قوتها ومنعتها، وفي الماضي تراث وحضارة، فماذا يمنع من الاستفادة منهما؟
ليزعم في شأنهما وقيمتهما من شاء ما شاء، فلن يستطيع أحد أن يزعم أنهما غثاء لا خير فيهما، أو أنهما ماتا مع الزمن الذي مضى.. فلماذا لا نستفيد مما فيها من خير وحياة؟
وكان يرى أن تقوم القومية العربية على أساس من قيم الإسلام الروحية، وتعاليمه الأصلية، وتراثه الحضاري الخالد، ورفض أن تكون وعاء للعلمانية، أو أن تكون بديلاً للإسلام، كما ينادي البعث والقوميون العرب.
كما يرى أن الأمة العربية المسلمة هي وحدها المؤهلة للنهوض بالدور الحضاري المرتقب، لحمل حضارة الغد، وعليها أن تأخذ بالأسباب لتحقيق ذلك، لأن المسلمين يحملون عقيدة من أرقى العقائد التي تسهم في بناء الحضارات، فهي عقيدة علم تحترم العقل، وتدفعه دفعاً حثيثاً وراء المجهول ليصير معلوماً. وهي عقيدة خلق إنساني معتدل كريم، يتجافى عن التفريط في العدالة، وعن الإفراط في الرحمة، وهي عقيدة تشريع يهدف إلى اليسر، ويتوخى المصلحة للفرد والأمة والإنسانية، وذات روحانية إيجابية بناءة (1).
ولهذا عندما بدأت مباحثات الوحدة بين مصر وسورية، واشترط جمال عبد الناصر حل الأحزاب السورية شرطاً لقيام الوحدة، بادر السباعي إلى الإعلان عن حل جماعة الإخوان المسلمين التي كان شيخها وزعيمها، مع ما كان بين الإخوان وجمال عبد الناصر من خصومة ودماء، وكان يقول لنا نحن الشباب المتحمسين الرافضين لأي لقاء مع عبد الناصر:
"جمال فرد، وسوف يموت عندما يحين أجله، وسوف نصبر عليه من أجل الوحدة التي أرجو أن تستقر وتدوم".
وعندما تفككت الوحدة لأسباب ذاتية وموضوعية داخلية، ولأسباب تآمرية خارجية، حزن السباعي عليها، ولم يوافق على الانفصال الذي وقع عليه زعماء (الدعاة إلى الوحدة العربية، والقومية العربية) والذين صنعوها مع عبد الناصر.
كان السباعي يقر المعنى القومي، ويشيد بخصائص العروبة، ويتحدث عن الأمة العربية، في الوقت الذي ينفي عن هذه القومية معنيين اثنين، هما: قومية الجاهلية، وقومية العدوان.
أما الأولى: فتلك التي يراد بها "الاعتزاز بالجنس إلى درجة تؤدي إلى انتقاص الأجناس الأخرى، والعدوان عليها، والتضحية بها في سبيل عزة أمة وبقائها، ولعله يشير بهذا الكلام إلى طروحات البعث، في كتابات عفلق والأرسوزي(1).
"لقد احتلت قضية العرب والعروبة مكاناً بارزاً في فكر السباعي ودعوة الإخوان، في وسط تناول هذه القضية تناولاً مغلوطاً، أو اتخذ منها سلماً لتوهين العقيدة ورباط الإسلام، حتى إنه عد (توحيد العرب والمسلمين) أحد أهداف دعوة الإخوان، فقال:
"هذا الوطن العربي الكبير واحد في جغرافيته، ولغته، وعقائده، وأخلاقه، وتاريخه، وخصائصه، فيجب أن يكون كذلك في واقعه السياسي. هكذا آمن الإخوان بوحدة الوطن العربي، وهكذا يعملون لتوحيد الأمة العربية في هذه الكيانات المجزأة المبعثرة التي أقامها الاستعمار، لتكون لقمة سائغة لمطامعه وعدوانه(2).
ولأنه يرى وحدة الأمة في دينها، وتاريخها، وجغرافيتها فإنه كان يدافع عنها، وعن قضاياها في أقطارها المترامية الأطراف، يدعو إلى تحريرها من الاستعمار، وإلى وحدة أقطارها المحررة.. نرى هذا في موقفه من الاستعمار الفرنسي في لبنان، والمغرب العربي، وما تفعله فرنسا لتمزيقه بين عرب وبربر، فيشن حملة على (الظهير البربري) ويندد بمحاولات فرنسا فرنسة الجزائر، وانتزاعها من عروبتها وإسلامها، وعندما انطلقت الثورة الجزائرية، كان السباعي في طليعة المؤيدين لها، المؤازرين لقادتها المجاهدين، يقدم لهم العون المادي والمعنوي ويناصرهم في المؤتمرات والمحافل السياسية، وخطبه ومحاضراته وكتاباته في هذا كثيرة، في سورية ولبنان وفرنسا وسواها من الدول الأوروبية التي زارها وفي الاتحاد السوفياتي الذي زار جامعاته، وحاور علماءه وذوي الشأن فيه.
وطالب برحيل الاستعمار البريطاني من مصر، ووقف إلى جانب مصر أيام العدوان الثلاثي عليها، وأيد تأميم قناة السويس، وطالب بالسماح له وللإخوان المسلمين بمشاركة الشعب المصري في كفاحه من أجل التحرير، برغم ما كان بين الإخوان وبين عبد الناصر من عداوة ودماء وسجون وتعذيب واضطهاد وتشريد.
وطالب بتحرير الإمارات العربية (المحميات) في عدة مناسبات، وقدم مذكرة باسم الإخوان المسلمين إلى جامعة الدول العربية في 15/5/1951 طالب فيها بالعمل لتحرير تلك المحميات من مستعمريها.
وأما كفاحه من أجل فلسطين، فسوف نفرد له بضع صفحات هي جزء يسير من جهاده من أجلها، ونكتفي هنا بهذا العهد الذي قطعه على نفسه، في خطابه الذي ألقاه في المكتبة الوطنية بحمص، بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف فقال:
"وأنت يا سيدي يا رسول الله! أيها القائد الذي لم يخطئ له سهم، ولا نكست له راية، ولا زلَّتْ له قدم! لك منا عهد الله، أن نذود عن مسراك ومهد أخيك المسيح، بالدماء، والرجال، والأموال، نقدم القافلة تلو القافلة، ونريق الدماء إثر الدماء، ونبذل المال بعد المال، حتى ننطلق بعد تحرير فلسطين، إلى تحرير أنفسنا وأوطاننا، والعالم كله. هذا عهد إليك في ذكرى الميلاد(1).
التعاون مع العالم الإسلامي:
كان السباعي ينظر إلى شعوب العالم الإسلامي خاصة، وحكوماته ودوله عامة، على أنها رصيد وبُعد استراتيجي للأمة العربية، لا يجوز لها أن تفرط فيه، مهما كانت الأسباب، كاعتراف دولة أو دولتين من دوله بالكيان الصهيوني مثلاً، وهذا الرصيد ظهير لنا في قضايانا عامة، والقضية الفلسطينية خاصة، وقد لمس هذا وعرفه من خلال مواقف المنظمات الشعبية والعلمية التي كان يشارك في مؤتمراتها، ومن خلال المواقف الرسمية لدول العالم الإسلامي.
ولهذا كان يدعو إلى تكتل العالم الإسلامي في اتحاد سياسي واقتصادي وثقافي في الميادين الأخرى، كما هو الشأن في الاتحادات العالمية كالاتحاد السوفياتي، والاتحاد الأوروبي وسواهما من الاتحادات السياسية، قال:
"إن تعاون العرب مع العالم الإسلامي لا يضرهم، بل يجعلهم في مكان القيادة لهذا العالم الفسيح، وهي قيادة لا يستهين بها إلا من جهل قدر نفسه وأمته، وناءت كواهله بحمل أعباء المجد، ودفع ثمن الخلود"(1).
وقد ناضل السباعي الأحزاب العلمانية حول هذه الفكرة التي يرفضونها، كما رفضوا من قبل فكرة الجامعة الإسلامية، والمؤتمر الإسلامي، وكل فكرة تنادي بتضامن المسلمين وتعاونهم في أي مجال من مجالات الحياة.
وهذه الفكرة الرائعة قديمة لديه، وكان الإمام البنا رحمه الله، نادى بالوحدة العربية والتعاون الإسلامي، وقد تبنى السباعي هذه الفكرة التي جاءت في برنامجه الانتخابي عام 1949 وهتف بها في مؤتمر العالم الإسلامي الذي عقد في كراتشي عام 1370هـــ - 1950م وألقى فيه السباعي خطاباً مدوياً بعنوان: (تكتل المسلمين طريق السلام للإنسانية) قال فيه:
"إننا نشهد اليوم الاتحاد الأوروبي، والشيوعي، واتحادات أخرى، تقوم على اتحاد فكري، والإسلام أولى بأن تجتمع عليه الشعوب، من الرأسمالية والشيوعية وغيرهما، فالإسلام دين تنتظم فلسفته شؤون الحياة، ويزيد على تلك المذاهب الفكرية، أنه متصل بأعماق النفس، تملؤه روح كريمة، وليس الإسلام فكرة عدوانية أو عنصرية، ولكنه فكرة إنسانية(2)".
وكان السباعي يناصر القضايا الإسلامية ما وسعه ذلك، ويسعى إلى التواصل مع الحكومات والمنظمات الشعبية الإسلامية ويحضر مؤتمراتها، ويدافع عنها، وإذا أخطأت إحداها بشأن قضية، بادر إلى نصحها، أو عتابها، أو انتقادها بشدة، كما فعل مع حكام تركيا الكمالية العلمانية، ومع باكستان التي شاركت في حلف بغداد الاستعماري.
وكان مع إندونيسيا في كفاحها من أجل الاستقلال والتحرير من هولندا المستعمرة، ومع باكستان في نزاعها مع الهند من أجل كشمير، ووقف إلى جانب حكومة (مصدق) ضد شاه إيران العميل لأمريكا.
وكانت له صلاته العميقة مع الدكتور محمد ناصر، رئيس وزراء إندونيسيا آنئذ، ومع الإمام المودودي، الباكستاني، والإمام الندوي، الهندي، ومع نواب صفوي، الإيراني ومع سواهم من قادة البلاد الإسلامية، وقد جعل من بيته المتواضع، ومن المركز العام للإخوان، ملجأ وملتقى لكل الزعماء العرب والإسلاميين الذين يكافحون الاستعمار.
في السياسة العالمية:
كان السباعي ابن عصره، وعلى اطلاع على ما يجري حوله في العالم الذي تقاسمه معسكران كبيران: المعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة أمريكا، والمعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي، وكان كل من المعسكرين يسعى لبسط نفوذه على الدول العربية والإسلامية، أو ما كانوا يطلقون عليه اسم العالم الثالث، وكان لكلا المعسكرين عملاء يعملون لهما، وأتباع يدافعون عنهما، ويتبادلون الاتهامات بالخيانة والعمالة فيما بينهم، والذي يطالع الصحافة السورية والعربية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، يراها مكتظة بتلك الاتهامات التي لا توفر أحداً..
أما السباعي فكان يأسى لحال هؤلاء وأولئك، ويقف بين الصفين طوداً شامخاً لا يميل إلى معسكر دون معسكر، لأنه يعرف طبيعة السياسة التي ينتهجها كلٌّ من المعسكرين، وكلاهما لا يريد بالعرب والمسلمين خيراً، وكلاهما يعمل حسب ما تمليه عليه مصالحه، وليس هناك من يعمل حسب مبادئ إنسانية يريد بها الخير للناس، ولهذا دعا في برنامجه الانتخابي عام 1949 إلى إقامة علاقات سياسية مع الدول العظمى على أساس المساواة وصيانة مصلحة الأمة، وسيادتها، واستقلالها، وقال في خطابه الشهير في حمص في ذكرى المولد النبوي الشريف في أربعينيات القرن العشرين:
"وإذا كان لا بد لنا من أن نستفيد من ذكرى المولد في شؤون الساعة الحاضرة، فإننا نهيب بقومنا أن يتذكروا الحقائق التالية دائماً:
1- أن الصراع المحتدم الآن بين معسكري السوفيات والإنجلوسكسون، صراع بين مذهبين، لم يثبت أحدهما حتى الآن، صلاحه لإنقاذ العالم من ورطاته وشقائه.
2- وأن رقعة العالم العربي وخيراته وكنوزه الدفينة تحت أطباق ثراه، هي أهم ما يصطرع عليه المتقاتلان، لينفرد كل منهما بالسيطرة عليها، والتفرد بها.
3- وأن انحيازنا إلى أحدهما، يقرر مصير هذه المعركة الحاسمة، ويلحق بالآخر أشد أنواع الهزائم التي منيت بها أمة من الأمم.
4- وأن مصلحتنا: في ترك هذا الصراع يقوى ويشتد، حتى يضعف الفريقان معاً، ونستفيد من ضعفهما قوة وانطلاقاً.
5- وأن الانحياز إلى أحد المعسكرين يكبلنا بالقيود من جديد، ويجعل بلادنا مسرحاً لحرب عالمية ثالثة، نصطلي نحن بنارها، قبل أن يصطلي الأقوياء، كما أن هذا الانحياز من شأنه أن يقوي ذئباً على ذئب، ولصاً على لص، فنمهد السبل للذئب الغالب لكي يفتك بالقطيع الضعيف".
وهكذا برزت فكرة الحياد الإيجابي، وسياسة عدم الانحياز التي تمخض عنها مؤتمر باندونغ ودول عدم الانحياز.
ثم إن السباعي نادى بأن نستورد السلاح من الشرق الشيوعي، ما دام الغرب الإمبريالي يمنعه عنا، ولا يعطينا ما نطلب، وإذا أعطى اشترط علينا، وأذلنا، وهو يريد مصلحة (إسرائيل) أولاً، ونادى بالتعاون مع الاتحاد السوفياتي، ما دام يقف إلى جانبنا في قضايا التحرر من الاستعمار.
وهاجم الاستعمار، في حديث له أذيع نيابة عنه، بسبب مرضه، مساء الاثنين 3/12/1956 ونادى بالحياد بين المعسكرين، وكان مما قال:
"إننا نعلن أننا أحرار، حياديون في هذا الصراع، ولن نرضى لأنفسنا أن يكون همنا الانتقال من دائرة نفوذ إلى دائرة نفوذ آخر.. نحن أمة لها كيانها، ولها فلسفتها، ولها رسالتها، وقد حملنا هذه الرسالة.. ولن نستطيع تأدية هذه الرسالة إلا يوم نكون أحراراً، وسنكافح في سبيل هذه الحرية كل معتد علينا..
"إننا نسلك الطريق الصحيح في تحديد موقفنا من الأحلاف والاستعمار، ولا شك أن الطريق الوحيد، أن نعتمد على أنفسنا، وألا نرتبط بعجلة الاستعمار، وأن نتحرر(1).
وقال:
"يجب أن نخاطب العالم، فمكاننا مكان قيادة، ولا تبعية، وواجب الشباب المسلم أن يشعر أن رسالته لا كرسالة الإنجليز أو الروس أو الألمان أو الفرنسيين.. بل رسالته هي قيادتهم، لأنهم حائرون(1)".
ونتيجة لمواقفه الشامخة في مواجهة الغرب الاستعماري المستكبر، أطلق عليه بعض الظرفاء من عملاء الغرب، وصف: الشيخ الأحمر، متهماً إياه بالانحياز إلى الاتحاد السوفياتي الشيوعي (الأحمر)، وخاصة بعد الخطاب الذائع الصيت الذي كان بعنوان (جواب الإسلام على الشيوعية) الذي ألقاه في المؤتمر الإسلامي – المسيحي – الذي عقد في بحمدون بلبنان، والذي نظمته (جمعية أصدقاء الشرق الأوسط) الأمريكية، وأرادت منه تكتل المسلمين والمسيحيين ضد الاتحاد السوفياتي، ففضحهم السباعي بخطابه هذا، وكشف نياتهم المبيتة في استغفال العرب والمسلمين الذين يقف الغرب، وعلى رأسه أمريكا، ضدهم.. ضد مصالحنا، وإلى جانب أعدائنا اليهود الغاصبين المجرمين.
لم يكن السباعي شيخاً (أحمر) بل كان يحارب الشيوعية يوم كان الغرب وعملاؤه من العرب والمسلمين يتقربون إليها، وإنما كان يميز بين الشيوعية كدولة ذات قوة وأهداف سياسية، وبين الشيوعية كمبدأ مناف للإسلام، مناقض للأديان، داعٍ إلى الإلحاد والانحلال...
لقد دافع السباعي عن أقصى درجات التعاون السياسي والاقتصادي مع الاتحاد السوفياتي، في الوقت الذي كان من أعدى أعداء الشيوعية من حيث إنها عقيدة ذات فلسفة مادية تنكر الروح وما وراء المادة(2).
المرأة:
عرف السباعي أن للمرأة دوراً مهماً في حياة الفرد والمجتمع، أو ينبغي أن يكون لها هذا الدور الذي عدا عليه العادون نتيجة التخلف الفكري في عصور الجمود والانحطاط التي ما تزال تسحب أذيالها على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فتصدى لهذا التخلف وأسبابه، وللحيف الذي لحق وما يزال يلحق بالمرأسة، فأولاها عناية فائقة في خطبه ومحاضراته ومقالاته وكتبه، بل أفرد لها كتاباً بعنوان (المرأة بين الفقه والقانون) سكب فيه أفكاره حول المرأة وكذلك أعطاها حيزاً مهماً في كتابه (هكذا علمتني الحياة) بل إنه كتب عنها وعما يراد لها من الانحراف، في مجلة (الفتح) عام 1354هــــ - في العدد 473 وهو دون سن العشرين، بعنوان: (المرأة المسلمة بين تعاليم القرآن، وتسويلات الشيطان) وهذا كله يؤكد أهمية المرأة لديه، ولهذه الأهمية افتتح كتابه البديع (المرأة بين الفقه والقانون) بهذه الفقرة الجميلة المعبرة:
"قضية المرأة هي قضية كل أب وكل ابن، وما دام في الدنيا آباء وأبناء، ففي الدنيا احترام عميق لكرامة النساء، والذين لا يفرقون بين الكرامة والابتذال، هم غارقون في الأوهام والأوحال".
وأهدى كتابه القيّم هذا:
(إلى المرأة المسلمة التي رباها الإسلام، فكانت خير زوجة وخير أم.
إلى الفتيات المؤمنات اللاتي يقاومن إغراء الحضارة وفتنتها.
إلى أمي التي ربتني فأحسنت تربيتي، ورعتني فأحسنت رعايتي.
إلى أمي التي هي مثل كثير من أمهات الجيل الماضي، استقامة وعفة وإخلاصاً للزوج، وتفرغاً لحياة البيت، فتفانين في تربيتنا وتهذيبنا، وغرسن المثل العليا في نفوسنا كأطفال، وشجعننا على المضي في طريقنا ودعوتنا كرجال).
وإذا حللنا هذين النصين المكثفين الموجزين، وجدنا المرأة في بؤرة الشعور لديه، تحتل حيزاً مهماً من تفكيره، يحترمها ويجلها أماً، وأختاً، وزوجة، وبنتاً، ويكرمها، ويصونها من الابتذال، فهي التي ربته طفلاً، وجعلت منه رجلاً، ملء إهابه عزيمة ومضاء، كما كانت العفة والاستقامة والإخلاص ملء إهاب أمهاتنا في الجيل الماضي، ولدى الفتيات المؤمنات اللواتي يقاومن إغراء الحضارة وفتنتها، والزوجات الصالحات اللواتي رباهن الإسلام على الفضيلة والإخلاص للزوج.
ورضي الله عن أمهاتنا وزوجاتنا المتفيئات ظل الإسلام، العاملات بأحكامه، فو الله، ليومٌ من أيام الواحدة منهن، يعدل في إنسانيته وجلاله وطهره، عمراً كاملاً من أعمار أولئك اللاتي يتفيأن ظلال هذه الحضارة الفاجرة الغادرة المتمردة المبدلة لصنع الله(1).
ويأتي اهتمام السباعي بقضية المرأة، كونها تشغل نصف المجتمع من حيث العدد، وهي أجمل ما في المجتمع من حيث العواطف، وأعقد ما في المجتمع من حيث المشكلات، ومن ثمة، كان واجب المفكرين أن ينظروا إلى قضيتها دائماً على أنها قضية المجتمع كله، أكثر مما يفكر أكثر الرجال فيها على أنها قضية جنس متمم أو مبهج(1).
والذي يتأمل كتابه (هكذا علمتني الحياة) الذي دوَّن فيه خلاصات تجاربه وحكمته، يحس بمدى المعاناة التي كابدها مع المرأة ومن أجل المرأة، وقد أفادته هذه المكابدة معرفة بها أي معرفة، جعلته ينثر حكمه حولها "فالمرأة داء، ودواء، ومرض، وعلاج:
فالعاقلة ذات الخلق الحسن، والذوق الحسن، دواء للزوج، تشفيه من متاعبه النفسية والمادية.
والجاهلة الحمقاء داء للأسرة، تلوث جميع أفرادها بجراثيم القلق والنزاع.
والمرأة المتكبرة المغرورة، مرض للزوج لا يشفى منه إلا بطلاقها، أو الزواج عليها، وكلا الأمرين مرٌ بغيض.
والمرأة الصالحة المستقيمة علاج لكل ما يعانيه المجتمع من شرور وآفات(2).
ويرى أن الذين يكابرون في الحق في قضية المرأة أربعة:
مراهق لا يفكر إلا في أهوائه الجنسية.
وكاتب يرى في إرضاء غرور المرأة، ودغدغة عواطف المراهقين والمراهقات طريقاً إلى رواج كتابه، والإثراء منه.
وسياسي يهمه كسب أصوات الناخبات من المتعلمات.
وطاغية يتقرب للغرب بأنه متجدد غير متعصب للدين والأخلاق والخصائص العربية والإسلامية.
والمرأة طفل كبير، يريد منك أن تعامله معاملة الكبار.
والمرأة غزال يظن أن قرونه تغني عنه غناء أنياب الأسد(4)، فتقع فريسة لأنياب أولئك الذئاب.
ولهذا هاجم أدب الميوعة والجنس، وندد بكتابه وشعرائه الذين جعلوا من المرأة مطية لإبليس والشر، وحقها أن تكرم عن الابتذال، وتكون مصدر خير ويمن وبركة للإنسانية.
ولهذا دعا إلى تعليم المرأة وتوعيتها حتى لا تكون فريسة لأولئك الأبالسة، لأن المرأة الجاهلة الرعناء، لها من أنوثتها (العاطفة) وليس لها ممن إنسانيتها (العقل).
واعتبر بروز المرأة في المجتمع، ولعبها بمقدراته، وانحدارها بأخلاقه، سبباً في سقوط الحضارات عبر التاريخ(1).
وقد أراد الله للمرأة، في شرعه الحكيم، الهناءة والكرامة والاستقرار، وأراد لها العابثون بها، الشقاء، والمهانة، والاضطراب(2).
وليست المرأة – عنده – أنقص عقلاً من الرجل، ولكنها تغلب عاطفتها على عقلها، والرجل يغلب عقله على عاطفته، وبهذا اختلفت نتائج أعمالها، بتباين استعمال كل منهما لعقله، فنسب إليها نقصان العقل، ونُسب إلى الرجل زيادته(3).
ويرى السباعي أن "المرأة تجمع صفات الذئب، والثعلب، والشاة، فلها من الذئب افتراسها لزوجها المسكين، ولها من الثعلب مكرها بزوجها الظالم، ولها من الشاة وداعتها مع زوجها الحازم"(4).
ومن عجيب أمر المرأة أنها أقوى سلطاناً على الرجل، وهي أضعف منه، وأكثر تبرماً به، وهي أظلم منه وأكثر وفاء له، وهو أغدر منها، وهي أكثر منه شكوى، وهي أهدأ منه بالاً"(5).
وندد بأولئك المتلاعبين بها كدمية بين أيديهم، ودعا إلى تكريمها، بأن تعامل كإنسان، وأن ينأى بها عن مظان الشبهات، ولا تُطرح في وقود الشهوات، وتلوكها الألسن بشتى الشائعات، وحذر من أن نخدع بمظاهر احترام الغربي للمرأة في الأندية والمجتمعات، ونغفل النظر عن معاملته لها في البيوت، وموقفه من تقديره لها، ورأيه فيها، في القصص والأمثال والروايات، فتقدير الأمة للمرأة يظهر في أمثالها وقوانينها، لا في مجالس لهوها وعبثها، ولقد رأيت الغربيين يقدمون المرأة في الحفلات، ويؤخرونها في البيوت، ويقبلون يدها في المجتمعات العامة، ويصفعون وجهها في بيوتهم الخاصة، ويتظاهرون بالاعتراف لها في حق المساواة، وهم ينكرون عليها هذه المساواة في قرارة نفوسهم، ويحنون لها رؤوسهم في مواطن الهزل، وينصرفون عنها في مواطن الجد.
والمرأة عندنا تخدعها الظواهر، كما يخدعها الذين يريدون إرواء شهواتهم من أنوثتها(1).
والسباعي المفكر العميق يؤكد دائماً على أخلاق المرأة، وتربيتها على العفة والفضيلة، لأن "المرأة التي ترى سعادتها في صيانة شرفها، تعرف كيف تربي أولاداً يصونون شرف الأمة، والمرأة التي ترى سعادتها في إشباع لذائذها، تربي أولاداً أسهل شيء عليهم أن يخونوا شرف الأمة في سبيل إشباع أهوائهم.. وشتان بين جيل يصون شرف الأمة، وبين جيل يخونه."(2).
ولهذا كان يبتهل إلى الله أن يهيئ لأولادنا وحفدتنا وحفيداتنا أمهات عاقلات صالحات، فإن الأم إما أن تجعل من ابنها رجلاً، وإما أن تجعل منه شريراً، وإما أن تجعل منه مغفلاً(3).
ثم إن قلة عقل الأم تنشئ الأولاد طائشين، وقلة دينها تنشئهم فاسقين، وقلة أمانتها تنشئهم خائنين وإذا اجتمع للأم الدين والعقل والأمانة والجمال، أنشأت أولادها عظماء خالدين. ولا أظن ذلك يوجد إلا في الحور العين.(4).
وما أروع تحذيره هذا للمرأة الفاضلة:
"احذري ما يخدعونك به من ألفاظ التحرر من العبودية، وتحطيم قيود التقاليد.
إنهم يريدون أن يضيفوا إلى عبوديتك للجهل الموروث، عبودية الشهوة الجامحة، وإلى قيود التقاليد البالية، قيود الاستغلال الآثم الماكر.
احذري أيتها المرأة الفاضلة فإن السمكة لا تقع في الشبكة، إلا حين تعمى عن دقة نسيجها، ولا يصطادها الصياد إلا بعد أن تستمرئ طعم سنارته"(5).
وقد لخص السباعي رأيه في قضية المرأة على الشكل التالي:
1- يجب تعليمها، ويرى أن تختلف برامج تعليم البنات قليلاً عن برامج تعليم الذكور، بما يهيئها لحياتها في المستقبل.
2- يجب أن تتمتع بجميع حقوقها التي منحها إياها الإسلام، كحق الانتخاب والترشيح للمجالس النيابية، وحق التعلم، والتوظيف والعمل، ولكنه يعلق على ما تعانيه المرأة العاملة فيقول:
"ما أقسى أفئدة الذين يريدون للمرأة أن تعمل لتكسب قوتها، وهي تعاني من شدائد الحمل والولادة والحضانة والإرضاع لطفل واحد، بله أطفال آخرين، وغير شؤون البيت وأعبائه.. ما أقسى أفئدتهم، وأغلظ أكبادهم! ولولا الحياء لقلت إنهم متوحشون، يتلذذون بتعذيب المرهقين، واستعباد المستضعفين(1).
3- يجب العناية بإعدادها لأيام النكبات والحروب، فنحن معرضون لحروب دامية، إقليمية أو عالمية، فيجب أن تتعلم ما يتعلق بالدفاع المدني، والإسعاف المنزلي وغيره، وأن تتدرب على استعمال السلاح، وإتقان الرمي، والدفاع، وكل ذلك يجب أن يتم في حدود الأخلاق الإسلامية.
وأين العرب والمسلمون من هذا التفكير الاستراتيجي الذي يستشرف المستقبل، وما ينتظر الأمة، فيما الحكام والمتزعمون يلهثون وراء المتع والمكاسب الشخصية، وإرضاء الأعداء على حساب الأمة والوطن والقيم.
4- يجب أن يضيق نطاق توظيفها في الدولة، بحيث لا توظف إلا وظائف تتفق مع رسالتها، ومع طبيعتها، كالتطبيب للنساء، والأطفال، والتعليم في مدارس البنات والأطفال، وما أشبه ذلك من أعمال التوجيه الاجتماعي للأسر والعائلات.
5- يجب أن تهيأ لأداء رسالتها الاجتماعية النبيلة، بما يجعل منها امرأة صالحة لتكوين أسرة، والإشراف على شؤون البيت والأولاد.
6- يجب منع اختلاطها بالرجال الأجانب عنها، إلا ما تقتضيه الضرورة الماسة في حدود الأخلاق الإسلامية، ومن ذلك أداؤها للعبادات في المساجد، وتلقيها العلم في الجامعات.
7- يجب عدم إفساد سعادتها بالاشتغال بالسياسة، لتصان داخل المجتمع من خطر الخلافات الحزبية، والتفرغ لأداء رسالتها الكبرى.
8- يجب أن تُهيأ للقيام بالإصلاح الاجتماعي والأخلاقي في الأوساط النسائية، فعائلاتنا وأمهاتنا، ونساؤنا، في أشد الحاجة إلى وعي حقيقي، تعرف به المرأة كيف تؤدي رسالتها على أكمل وجه.. والمرأة أقدر من الرجل وأصلح منه للقيام بهذا العمل الإصلاحي العظيم في أوساط النساء.
9- يجب ألا يسمح للمرأة بالعمل خارج منزلها، إلا حين تكون فقيرة لا عائل لها من زوج أو أب أو قريب، وذلك إلى أن ينفذ نظام الإسلام القاضي بإعالة مثل هؤلاء من بيت المال، دون إلجائهن إلى ذل الكسب، وإرهاق مطالب العيش.
10- يجب منع التبرج وإبداء ما حرم الله إبداءه من جسمها وزينتها، ويجب وضع القوانين التي تحقق ذلك، ومعاقبة من تصر على إبداء معالم فتنتها للرجال بعقوبات متناسبة مع وضع المرأة.
11- يجب إيقاف هذا الطوفان الخطير من أدب الجنس، وأن تتعاون الحكومة مع الشعب في هذا الشأن، وفي اعتقادي أن عبء هذا الإيقاف يقع ثقله على عاتق سيداتنا وآنساتنا الفضليات، بأن يبدين رأيهن صريحاً في استنكار هذا النوع من الأدب واستهجانه(1).
ويقول السباعي المفكر الجريء:
"أنا لا أخشى لومة لائم حين أعلن: أن أمتنا لا ترضى أن تخرج عن حدود دينها، لأنها مقتنعة بصلاح نظامه وفلسفته، وإن كل خروج على حدود ما جاء به الإسلام نحو المرأة، سيقابل من علماء الأمة وعقلائها، من جيلها المؤمن، من نسائها وبناتها الفضليات، بالرفض والإعراض والمحاربة لكل من يحمل لواء مثل تلك الدعوة الآثمة"(2).
وأخيراً، وبعد أن تجاوزت عن الكثير مما قاله في الحياة الزوجية، والعلاقات بين الأزواج، والمرارات والغصص التي يعاني منها كثير من الأزواج الفضلاء، يطيب لي أن أختم بهذه الكلمات للسباعي المفكر العميق:
"المرأة هي المرأة منذ حواء حتى تنتهي الحياة على الأرض:
زينتها حياتها، ومن ثمة، فحياة البيت بأن تكون زينته، وحياة المجتمع بأن تكون أنثاه فحسب، وكل كلام غير هذا عبث ترده طبيعة المرأة نفسها"(3).
سماته الفكرية:
1- الشمول:
كان السباعي ذا ثقافة موسوعية شملت فيما شملت، دراسة التاريخ دراسة المفكر الواعي البصير الذي حدد هدفه من دراسته.
درس التاريخ العربي الإسلامي، والتاريخ الإنساني، ودرس الحضارات التي سادت ثم بادت، والتي لا تزال تضيء.
ودرس الشخصيات المؤثرة عبر التاريخ من أنبياء ومصلحين وثوار وكتاب، وأدباء، وشعراء، ومفكرين وسياسيين وعلماء.
ودرس المجتمعات البشرية في صعودها وانحطاطها.
ومزج كل ذلك بعقله الحصيف، الذي يمثل الثقافة الإسلامية التي جابهت المعارف كلها دون خشية منها، وتفاعل معها قلبه الذكي، ومشاعره الجياشة، ووعيه الصافي، وتجاربه الثرة، لتتشكل من كل ذلك، شخصية السباعي ذات الفكر الشمولي في دراسة الموضوعات دراسة شاملة تحدد المفهومات وترسم الخطوات، وتشخص الأدوار، وتبحث عن العلل والأسباب، وتصف العلاج، فهو لا يكتفي بدراسة جزء أو جانب من الموضوع، بل يغطي الجوانب كلها في تكامل متجانس، في الفكر السياسي، وفي الفكر الاجتماعي، وفي الفكر الديني، وسواها من الموضوعات التي تستند في دراستها إلى النصوص الدينية، والأخلاقية، والتاريخية، والفلسفية، ويستشهد بأقوال الغربيين والشرقيين، وبما يجري في المجتمعات الشرقية والغربية، ثم يكتبها بأسلوب تفهمه العامة، وتقبله الخاصة، وكأنه يخاطب الناس على قدر عقولهم، على الرغم من تفاوتها. وقد أفادته خبراته التي اكتسبها من أعماله في الميادين الإدارية، والتنظيمية، والعلمية، والتربوية، والصحفية، ومن أسفاره، والمؤتمرات التي شارك فيها، والندوات التي أدارها، والمناقشات التي أثارها مع المستشرقين، والمستغربين من العلمانيين وسواهم، في نظراته الشاملة للأفكار التي يناقشها، والمفكرين والعلماء والسياسيين وعلماء الاجتماع الذين يحاورهم، وفي دراسة الظواهر الاجتماعية، والأمراض النفسية، والمذاهب الفكرية والسياسية والاقتصادية والفلسفية وسواها.
2- العمق:
وكان لذكائه المتقد، وإنعام نظره في الظواهر التي تنشأ في المجتمع، وطول تأمله في الحياة وفي الموضوعات التي تشغل عقله، وللعلوم التي اكتسبها آثارها العميقة في فكره، فلم يكن يقف عند ظواهر الأشياء ودلالاتها السطحية القريبة، بل كان يتتبعها في بواطنها وأعماقها، ويغوص في دواخلها، ليتعرف على بواعثها وحقائقها، وليصل فيها إلى أمور لا يصل إليها المفكر السطحي أو العادي، ويبرز هذا في مناقشاته وحواره مع رجال الفكر والسياسة والعلم في الجامعات الأوروبية والروسية، وفي رؤيته للمشكلات الاجتماعية، وفي فهمه للمسائل الدينية.
وكان تفكيره العميق وسيلته الناجعة في الإفهام والإقناع، وفي تحديد المفاهيم، وفي استقدام الأدلة والحجج العقلية والنفسية، وقد أظهر عمقه الفكري في المقالات والأبحاث التي كتبها في (دروس في دعوة الإخوان المسلمين) وفي أحاديثه الإذاعية التي جمعها في كتابيه (أخلاقنا الاجتماعية) و(من روائع حضارتنا) وفي خاطراته وحكمه في كتابه البديع (هكذا علمتني الحياة) بجزأيه: الاجتماعي والسياسي الذي بلغ فيه ما بلغ من الحكمة وعمق التفكير، مع أنه قدم خاطرات، ولكنها ولدت في لحظات الصفاء والمعاناة، فكثفت ألوان تجاربه الخصبة ومعاناته الحادة، في حياة عصيبة عاناها مع الأقرباء والأبعداء، ومع النفس والمرض. ثم في كتابه الجامع الدقيق المظلوم (اشتراكية الإسلام) الذي غاص فيه إلى عمق أنظمة التكافل الاجتماعي كما أرادها الإسلام، ونزلها هو على الواقع تنزيلاً أدهش الأصدقاء والأعداء، فلقي منهم الألاقي.
كان ثاقب النظرة في دراسة الواقع السياسي، لا تخدعه الخوادع من المظاهر الخلابة، بل كان عميق التفكير فيها، وهو يستخلص العبر من الحوادث، وأحوال القادة والزعماء الذين عرفهم على حقيقتهم، فظهروا لبصيرته عرايا من كل بهرج، ومن يقرأ مقاله الافتتاحي في جريدة المنار(1)، وعمره اثنان وثلاثون عاماً، وكان بعنوان: (يا شيوخنا في السياسة: لقد آذانا ضعفكم، فاتركونا نسير) يظن هذا الكلام لشيخ عركته التجارب حتى فهم هؤلاء الزعماء ونزعاتهم السياسية والنفسية، وتطلعاتهم الذاتية.
3- الصدق:
وهو قد تحول عند السباعي إلى إيمان ملأ وجدانه، وسيطر على مشاعره وأحاسيسه، حتى صارت الفكرة جزءاً حياً من كيانه فيخرج قوله معبراً عنها، وعمله دليلاً عليها.
الصدق إيمان عقلي ووجداني بالفكرة، بحيث يلتزم بها، ويثبت عليها، ولا يفتأ يتحدث عنها، وفي نطاقها، ولا يبرحها إلا ليوضحها ويدلل عليها.
كما أنه يحرص عليها، ويتمسك بها، ويسعى إلى نشرها وتحقيقها في الواقع مهما واجهته من عقبات، وكلفته من تضحيات، ومستنداً في ذلك على الواقع المعيش.
فهو مثلاً، عندما تحدث عن الفساد الاجتماعي جابه به الأفراد، والهيئات على كل المستويات، ولم يخش لومة لائم، لما يملك من الأدلة والبراهين الحية الملموسة على ذلك، وهذا نطالعه في الكثير مما كتب وخطب وكان في منتهى الصراحة في الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية عامة، وقضية فلسطين، وما كان من شأن الزعامات العربية قبل النكبة وأثناءها وبعدها خاصة.
لقد كان صادقاً واقعياً في كل ما كتب، وفي سائر المجالات والميادين، وما كذب على الناس، ولا خادع الجماهير التي وثقت به، بل صارحها، وكان صادقاً معها، صدقه مع ربه، ومع نفسه، فما زل له لسان، ولا كبا له فكر، ولا نبا له قلم، ولا انحرف في تفكير، وكان الرائد الذي ما كذب أهله، وما ينبغي له إلا أن يكون كذلك.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على الرسول القائد محمد، وعلى آله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين.
***
(1) مجلة الرسالة – العدد 367 في 15/7/1940م.
(1) دروس في دعوة الإخوان المسلمين: 178.
(1) مصطفى السباعي بأقلام محبيه وعارفيه: 37 – 38.
(1) المصدر نفسه: 98 – 99.
(2) المصدر نفسه: 104.
(3) د. عدنان زرزور – مصطفى السباعي الداعية المجدد: 397.
(1) دروس في دعوة الإخوان المسلمين: 164.
(1) التكافل الاجتماعي في الإسلام: 7.
(1) محمد جمال باروت – يثرب الجديدة: 105 و 116.
(2) المصدر السابق: 109 و 110.
(1) د. عدنان زرزور – مصطفى السباعي: 156.
(1) عن الحبيب الجنحاني بتصرف يسير، نقلاً عن (المنار الجديد) دمشق: 11/11/1994.
(1) مصطفى السباعي – أخلاقنا الاجتماعية: 93 – 94
(2) المصدر السابق نفسه: 79.
(1) د. زرزور: 120
(1) مصطفى السباعي – آلام وآمال 103.
(1) مصطفى السباعي – هذا هو الإسلام ج2/ ص8و 10و11.
(1) مصطفى السباعي: مقدمات حضارة الإسلام: 46 و48.
(1) المصدر السابق نفسه: ص128 – 129.
(1) الدكتور زرزور: 239/ 240.
(2) د. عدنان زرزور: 240.
(1) عبد الله الطنطاوي – مصطفى السباعي، الداعية الرائد والعالم المجاهد 29 – 40.
(1) د. عدنان زرزور: 160.
(2) دروس عن دعوة الإخوان المسلمين: 14
(1) هذا هو الإسلام: 1/28.
(1) دروس في دعوة الإخوان المسلمين: 15
(2) جريدة الشهاب الدمشقية: 61و62.
(1) الشهاب: 80
(1) عبد االله الطنطاوي – مصطفى السباعي – الداعية الرائد، والعالم المجاهد: 25.
(2) محمد جمال باروت: يثرب الجديدة: 120 – 121.
(1) هكذا علمتني الحياة: 181.
(1) هكذا علمتني الحياة: 205.
(2) هكذا علمتني الحياة: 206.
(3) (4) هكذا علمتني الحياة 140/ 57
(1) (2) (3) (4) (5) هكذا علمتني الحياة 101/ 102.
(1) (2) (3) (4) (5) هكذا علمتني الحياة 105/106/107/ 60/99/108
(1) هكذا علمتني الحياة: 180.
(1) (2) المرأة بين الفقه والقانون/ 203 – 204 – 205.
(3) هكذا علمتني الحياة: 177.
(1) العدد 168 – س1.
وسوم: العدد 950