عبد الرحمن بارود.. الفلسطيني الثابت الذي لم يتزحزح ولم يهادن
وُلد الشاعر الدكتور عبد الرحمن بارود عام 1937، في قرية بيت دراس (لواء غزة). وبدأ دراسته الابتدائية في قريته حتى طردتهم العصابات الصهيونية منها عام 1948، وكان في الحادية عشرة من عمره. فلجأ إلى غزة واستقر في مخيم جباليا.
وأكمل الدراسة الابتدائية في مدارس الأونروا في غزة، وهناك نظم أولى قصائده عن معركة بيت دراس. وأكمل دراسته حتى الثانوية العامة (التوجيهي) عام 1955، وكان طوال فترة دراسته من أوائل الطلاب.
عمل مدرّساً في مدارس الوكالة حتى حصل على منحة دراسية من وكالة الغوث ليكمل دراسته الجامعية في كلية الآداب في جامعة القاهرة، وحصل منها على درجة الليسانس في اللغة العربية وآدابها بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف الأولى. ومن طريف ما رواه زميل دراسته الشيخ محمد صيام، "أننا مجموعة الامتياز في الدفعة كنا نجلس أمام لجنة الاختبار الشفهي، وهي لجنة مكونة من كبار الأساتذة، أمثال د. شوقي ضيف، ود. سهير القلماوي، ود. حسين مؤنس وغيرهم.. فيسألوننا عما شاء الله أن يسألونا عنه. ولكن أحداً منهم لا يسأل الطالب عبد الرحمن بارود شيئاً عن المنهج الدراسي، لعلمهم أنه متبحر فيه، فيناقشونه في الأدب شعره ونثره، وكأنه واحد منهم".
ثم حصل بارود على منحة من جامعة القاهرة لينال منها الماجستير عام 1962 بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، وحاز على منحة للدكتوراه، لكنه عاش محنة الإخوان في الحقبة الناصرية وسُجن 7 سنوات عجاف، وتأخر حصوله على الدكتوراه حتى 1972، وأيضاً بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى.
وفور حصوله على الدكتوراه تعاقد مع جامعة الملك عبد العزيز بجدة لوظيفة أستاذ جامعي، وقضى فيها ثلاثين سنة (1972- 2002) متنقلاً بين أقسام اللغة العربية والدراسات الإسلامية؛ حيث تخرَّج على يديه الكثير من الطلاب والطالبات.
وتفرَّغ بعد ذلك للعمل العام؛ حيث إنه كان يقضي أغلب وقته في الكتابة وتأليف الشعر، وله دور واضح وبارز ومؤثر في أوساط الجالية الفلسطينية في السعودية عموماً وفي جدة خصوصاً.
وفي جامعة الملك عبد العزيز بمدينة جدة عمل بارود أستاذاً للثقافة الإسلامية، ووفّقه الله سبحانه لأداء دور كريم في جامعته، حيث غرس في طلابه أعمق معاني الانتماء للإسلام، معززاً كل مكرمات رسالة الإسلام العظيم. وعمل كل جهده في سبيل تحرير فلسطين، معتقداً أن ما صلح به أول الأمة سيصلح به آخرها، وهو الإسلام، وأن التحرير سيكون بالإسلام وبالمقاومة والجهاد.
صدر ديوانه "الأعمال الشعرية الكاملة" عن مؤسسة فلسطين للثقافة عام 2010، وأخبرني ابن أخته أبو بكر الخالدي، أنه عندما تسلم النسخة الأولى من ديوانه أمسكه كطفله الصغير وقلّب صفحاته، وأخذ يقول: اللهم انفع به، اللهم انفع به! ونوى أن يراجعه، لكنه توفي بعدها بيومين في 17 نيسان (أبريل) 2010 في جدة، عن عمر 73 سنة.
نماذج من شعره
تأثر الدكتور عبد الرحمن بارود من هزيمة 1967، وبكى الأمة، وخاطبها من سجنه، وقال:
ادْفِنِي قَتْلاَكِ وارْضَي بالمُصِيْبَةْ واذْهَبِيْ عاصِفَةَ اللَّيْلِ غَرِيْبَةْ
واقْبَعِيْ حَوْلَ الضَّحَايَا واذْكُرِيْ عُمُراً مُرًّا وأوْطَاناً سَلِيْبَةْ
وادْخُلِي السِّجْنَ الَّذِي شَيَّدْتِهِ وتَوَارَيْ في الزَّنَازِيْنِ العَصِيْبَةْ
وَارْمُقِي المَجْدَ الَّذِي حَطَّمْتِهِ واعْصُرِي القَلْبَ الَّذِي خُنْتِ وَجِيْبَهْ
أَنْتِ ضَيَّعْتِ الرُّجُولاَتِ سُدَى أَنْتِ أَطْلَقْتِ يَدَ البَغْيِ الخَصِيْبَةْ
لم يقتنع شاعرنا يوماً بالسلام مع الاحتلال، رغم ما كان يجري في تلك الأيام من تزيين للكلمات مثل "سلام الشجعان" و"هجوم السلام" و"التنازلات المؤلمة" وغير ذلك، فردّ عليهم بقصيدة "هجوم السلام" عام 1989، وفيها يقول:
يَا حَمَامَ السَّلاَمِ عُدْ يَا حَمَامُ لاَ يَفُلُّ الحُسَامَ إلاَّ الحُسَامُ
في زَمَانِ الصُّقُورِ صِرْتُمْ حَمَاماً كَيْفَ يَحْيَى مَعَ الصُّقُورِ الحَمَامُ؟!
أَيُّ عُرْسٍ هَذَا؟! تَزُفُّونَ مَاذَا؟! ولِمَاذَا يُطَبِّلُ الإعْلاَمُ؟!
أَيُّهَا البَائِعُونَ حَيْفَا ويَافَا أَهُجُومٌ هَذَا أَمِ اسْتِسْلاَمُ؟!
ثَكِلَتْ أُمُّكُمْ أَلَيْسَ لَدَيْكُمْ غَيْرُ (عَاشَ السَّلاَمُ- يَحْيَا السَّلاَمُ)؟!
أَوَ غَيْرَ السَّاطُورِ يُبْصِرُ شَيْئاً تَاجِرُ البُنْدُقِيَّةِ اللَّحَّامُ؟!
ومن جميل شعره الرمزي والصور البلاغية الجميلة، قصيدته (فلسطين) التي نظمهاعام 1984:
غَنِّنَا فالدُّجَى شَدِيْدُ السَّوَادِ وقَطِيْعُ الرَّقِيْقِ مِنْ غَيْرِ حَادِ
مِنْ صَدِيْقِيْ صَرَخْتُ لاَ مِنْ عَدُوِّ ومِنَ الأَصْدِقَاءِ أَعْدَى الأَعَادِي
أَصْدِقَائِي يُسَمِّمُونَ جُرُوحِي مَنْذُ قَرْنٍ ويَحْرِقُونَ حَصَادِي
أَصْدِقَائِي إِنْ زَوَّدُونِي بِشَيْءٍ زَوَّدُونِي بِحِفْنَةٍ مِنْ رَمَادِ
قُلْ لِمَنْ يَطْمَعُونَ فِيْنَا أَفِيْقُوا دُونَ مَا تَطْلُبُونَ خَرْطُ القَتَادِ
في فِلَسْطِيْنَ خَطَّ ذُو القَلَمِ الأَعْلَى طَرِيْقَ الأَجْدَادِ والأَحْفَادِ
ويخاطب الخنساوات في فلسطين في قصيدته "عشق الفداء" التي نظمها عام 2004:
ازْرَعِي في البَنِيْنَ عِشْقَ الفِدَاءِ ورُكُوبَ العَوَاصِفِ الهَوْجَاءِ
أرْضِعِيْهِمْ مَعَ الحَلِيْبِ رَحِيْقاً مِنْ شُمُوخٍ وعِزَّةٍ وإِبَاءِ
عَوِّذِيْهِمْ باللهِ مِنْ كُلِّ مَرْعَى فِيْهِ حِمْضٌ مُقَطِّعُ الأمْعَاءِ
لِنُسُورِ الإِسْلاَمِ في الجَوِّ مَرْحَى لاَ لِتِلْكَ السَّلاَحِفِ الجَرْبَاءِ
أما عن حب فلسطين، فلا يمكن أن نتجاوز قصيدته في حبها بعنوان "عام مضى" التي نظمها عام 1989:
حَلاَّكِ مَنْ يَتَحَلَّى بِاسمْهِ الذَّهَبُ .. وأَطْيَبُ الطِّيْبِ فِيْكِ الرُّسْلُ والكُتُبُ
تَنْأَى بِنَا الدَّارُ لَكِنْ مِنْ مَهَاجِرِنَا .. إِلَيْكِ مِثْلَ رُفُوفِ الطَّيْرِ نَنْجَذِبُ
فيَا فِلَسْطِيْنُ حَيَّاكِ الحَيَا غَدَقاً .. ولَى الرَّدَى هَارِباً واخْضَوضَرَ الحَطَبُ
أقُولُ والقَلْبُ يَشْدُو في خَمَائِلِهَا .. هَذَا الجَمَالُ إلَى الفِرْدَوْسِ يَنْتَسِبُ
يَا لَلْجَمَالِ إِذَا مَا ازَّيْنَتْ وعلَى .. سُفُوحِهَا غَرَّدَ الزَّيْتُونُ والعِنَبُ
لاَ لاَ تَسَلْ عَنْ شُمُوخِ البُرْتُقَالِ .. ضُحًى وقَدْ تَلأْلأَ في نُوَّارِهِ الحَبَبُ
هَذِي فِلَسْطِيْنُ يَا مَنْ لَيْسَ يَعْرِفُهَا .. كأَنَّ أَحْجَارَهَا القُدْسِيَّةَ الشُّهُبُ
وسوم: العدد 992