الشاب الشهيد وليد عطار
( ١٩٥٥ - ١٩٧٩م )
واتصلت مسيرة الشهداء، بدءاً بياسر وسمية، لتمر بخبيب وحمزة، وجعفر ونور الدين, والإمام البنا، وعودة، وقطب، ولتحط رحالها في الشام المبارك فتتخذ منهم شهداء.. ينيرون السبيل، ويحققون معالم الدرب المحفوف بالمكاره، ودرب الشهادة صعب، على حلاوته، لا يستطيعه إلا من وقر الإيمان في قلبه، وامتلأت باليقين نفسه، حتى يجد ريح الجنة كما وجدها سعد بن الربيع..
المولد، والنشأة:
ولد الشهيد وليد عطار في مدينة حلب عام 1375 هـ - 1955م لأسرة مسلمة كريمة، وتخرج في مدارس مدينته الرسمية التي كانت خاضعة لحزب البعث ومناهجه العلمانية، ووسائله الماكرة في حرب العقيدة والدس على الإسلام، فكان وجود الشهيد وأمثاله ممن نستطيع أن نسميهم (جيل الثورة) الدليل الناصع على إخفاق الحزب ومبادئه ومؤسساته، على الرغم من كثرة الوسائل من مغريات وضغوط.
لقد استطاعت الحركة الإسلامية، على الرغم من جو الإرهاب الذي تعيشه أن تصل إلى وليد وما وليد إلا شعلة ذكاء وتوقد ونباهة، فما أحراه أن يكتشف طريق الحق ويَزْوَرَّ عن الباطل بما فيه.
تردد على مسجد الروضة الذي كان يخطب فيه الشيخ طاهر خير الله، وسار على درب الدعوة، وانضم إلى صفوف الإخوان المسلمين، وعمره خمسة عشر عاماً، تربى في مدرسة الإخوان ففهم الإسلام عملاً وجهاداً وتضحية.
ولكن ما أسرعك أيها الآخذ الحبيب إلى العطاء!
تحول المدعو الغض إلى داعية، يقرأ القرآن، فيقف منه عند قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..) وقوله عز وجل (واخفض جناحك للمؤمنين).. وتمتلئ نفسه وقلبه بقول الحق جل شأنه: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً..) فيجعل من هذه الآيات الكريمة منهج حياته وخلق نفسه، فيخفض جناحه للمؤمنين.. ويشتد في وجه الظلم والظالمين..
وكانت المحنة الأولى في حياة الداعية، حين دخل المعتقل سنة 1393هـ - 1973م.
وخرج منه أشد مضاء، وأقوى عزيمة، لقد عرف دربه فسار عليه.
وينتسب الشهيد إلى كلية الهندسة بعد أن يتفوق على أقرانه في الشهادة الثانوية..
كما ينتسب إلى مسجد حي الروضة داعية إلى الله، فيجمع حوله نخبة من الشباب المؤمن، ويسيرون في درب الدعوة ينبهون الغافل، ويعلمون الجاهل، ويهدون الحائر، ويقارعون الظالم..
وفي ظلال المسجد تحول الشاب الداعية إلى رجل كبير، فنال الثقة، ونال الإعجاب، وأصبح محط آمال من حوله، ولا غرو فقد كان أسوته وقدوته الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم..
ويحوم شياطين الإنس من رجال السلطة والحزب حول الشهيد، لقد بهرهم أن يمتلئ المسجد الذي يقع في أرقى أحياء المدينة بصفوف من الشباب الغض الناعم بثيابهم البيض ولحاهم الحريرية.. يقضون أوقاتهم في عبادة وعلم وذكر، منصرفين عن كل المغريات وما أكثرها!! وتبدأ حملات التشكيك والمضايقة، ولكنها تبوء بالإخفاق ويشق الشهيد وأخوانه دربهم وسط المكاره.. لقد أصبح الداعية الصغير مربياً، يتعهد إخوانه، ويراقب تصرفاتهم، ويوجههم نحو الخير والسداد، يعود مريضهم، ويعين ضعيفهم، يسأل عن أحدهم إذا غاب، ويذكره إذا نسي.
يربيهم على أن يكونوا من السباقين في ميادين الخير والفلاح، وكان أسلوبه مؤثرا في تلاميذه، ومحبوبا مطاعا.
وقد كان الشهيد أكثر إخوانه تطبيقاً والتزاماً. ولم يكن يطيق رؤية المنكر مهما كانت عواقب إزالته فكان يزيل المنكر وفي نفسه هدفان كريمان:
الأول: أن يمتثل أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن يدرب إخوانه على الجرأة في الحق..
وهكذا وقف الشهيد في وجه سيل المنكرات لا يخاف في الله لومة لائم..
الشهيد خلقاً وخلقاً:
شاب معتدل القامة، يميل إلى القصر، رياضي الجسم، ممتلئ من غير بدانة، ذو لحية طويلة، وشعر خرنوبي قصير ووجه بيضوي، يشرق منه الإيمان والتقوى، ويفتر ثغره عن بسمة هادئة تحمل الحب للجميع.
وقد حرص الشهيد رحمه الله على أن يكون مثلاً حياً للمسلم الصادق، فكانت أخلاق الإسلام يتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم ويغترف من نبع الإسلام العذب كل حسن وجميل، كان صادقاً في القول، مخلصاً في العمل، كريماً يبذل ماله وهو محتاج إليه، ووقته مهما كان في ضيق منه، لمساعدة محتاج أو مؤازرة أخ.
وجمع إلى هذا الكرم الأريحي حلماً في غير ذل، وصبراً من غير استكانة، وصفاء نفس، وهدوء بال. وكان لهذه الصفات النفسية أبلغ الأثر على مظهره، فنفر من الجاهلية، وعاداتها وأزيائها مما انخرط في مثله كثير من الشباب، فهو وإن ارتدى البنطال إلا أنه ستره بمعطف طويل سابغ حرصاً منه على آداب الإسلام في الستر، كما أنه ستر رأسه بقبعة (باكستانية) حرصاً على السنة في غطاء الرأس.
كان رحمه الله غضيض الطرف، متواضعاً، خاشعاً لله.. إنه المسلم الذي اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم.
استشهاده:
لم يخرج الشهيد رحمه الله عن منهجه ومنهج جماعته في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والقيام بأمر الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن أنى للبغي والظلم والحقد والكفر أن يرضى بهذا؟؟ لقد قرر الزبانية النصيريون ملاحقة الشهيد، اجتمع قادتهم ليضعوا الخطة المحكمة لا لتحرير القدس التي يتباكون عليها في إعلامهم الكاذب، وهم الذين أضاعوها أو باعوها كما أضاعوا الجولان المنيع وباعوه، وإنما يضعون الخطة المحكمة للاستيلاء على بيت الشهيد..
تسوروا الجدران، وتسلقوا نحو إحدى الشرفات، فخرجت أخت الشهيد، وقد ظنت أن لصوصاً قد داهموا البيت، فسارع إليها (أسود العرين) وكمموا فمها، وأجبروه على الانصياع لأوامرهم، وأن تقودهم إلى غرفة النوم. فروعوا بقية أفراد الأسرة. كان الشهيد رحمه الله غائباً عن البيت، فسارع (أسد) نصيري ليضع فوهة بندقيته على رأس أحد إخوة الشهيد، ويهدده بإطلاق النار إن لم يخبر عن مكان أخيه وعلا صوت الأخوات والأم بالبكاء، فإذا (أسد) آخر يسارع إلى أخمص بندقيته يضرب به النساء والبنات الصغيرات!!
أسـد علي وفي الحروب نعامةٌ ...فتخاء تجفل من صفير الصافر
ولم تنته العملية المظفرة إلا باقتياد إخوة الشهيد الثلاثة إلى السجن ليكونوا رهائن عنه...
وتنتقل المداهمات إلى بيوت العمات والخالات، ولا تخلو مداهمة من سب وشتم وترويع! هذا هو المستوى الحضاري لطائفة أعماها الحقد، وأبطرتها السلطة، وغرها نوم الرجال.. سمع الشاب الشهيد بكل ما جرى، وأحس أنه قد مسه البغي فلا عليه أن ينتصر، وقد وصف ربه المؤمنين بقوله: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" – الشورى -.كان لا بد له أن ينتصر وأن يلقن (أسود النساء) درساً في الرجولة والشجاعة..
انقض مع مجموعة من رفاقه في السادس من حزيران سنة 1979م على دورية مخابرات فأوقعوا بها ولكنهم لأمر يريده الله، غفلوا عن وجود سيارة حماية لهذه الدورية، فاضطروا إلى الاشتباك معها، على الرغم من تعطل أحد المسدسين اللذين كانا معهما.
استطاع الشهيد أن يؤمِّنَ الانسحاب لرفاقه ونفسه ولكن ليس قبل أن يصاب بساقه واضطرته هذه الإصابة إلى الالتجاء مع أحد إخوانه إلى مبنى قريب من منطقة الحادث...
كان في المبنى رجلان، أحدهما جريح، ولا سلاح سوى مسدس، رجلان فقط وتستنفر لهما السلطة من جيشها العقائدي البطل ومن رجال مخابراتها ومن (أسودها الأشاوس)، ما يحيطون بالمبنى، ويستعملون مكبرات الصوت للتهديد والوعيد.. قائد المنطقة وقائد الشرطة والمحافظ يقفون من بعيد.. بعيد، يأمرون ويخططون والقلوب الخاوية ترتجف من الهلع والخوف ويطول وقت السباب، وتصدر الأوامر إلى مجموعة لاقتحام المبنى، ولكن هيهات ولحساب من سيدخلون؟
ترفض المجموعة الأولى وتتبعها الثانية. لقد تحول (الأسود) إلى نعاج. أما المجموعة الثالثة فقد اقتحمت المبنى على كره جازت عتبته وأفرغت ذخيرتها، ثم خرجت مولية الأدبار.
وتستعين السلطة برافعة لتسلق سطح المبنى ولكن الشهيدين يحبطان المحاولة.
لقد كان الشهيد وأخوه يصولان فوق سطح المبنى ويجولان, ولسان حالهما يقول: ويحكم إننا نحب الموت كما تحبون الحياة.
وتنفد ذخيرة الشهيدين، ويحاولان الخروج من المبنى، ولكن غزارة النيران تحول بينهما وبين ذلك فيسقطان، لا.. لا.. لم يسقطا، وإنما عرجا إلى عليين.
ويسجل الشهيد وليد اسمه بدمه على الجدار، (أنا الشهيد وليد عطار).
ويرقد إلى جانبه أخوه في العقيدة (عصام مواصلي) وقد أكدا لأسود النساء أن في شعبنا رجالاً... وأن الإسلام نبع ثَرُّ العطاء.
وتطوى الصفحة ونعود إلى بيت الشهيد لنجد صورة أخرى لعطاء الإسلام، لنجد الأب قد زين داره فرحاً باستشهاد ولده، ورفض قبول العزاء، ولنجد خنساء أخرى من صنع هذا الدين المجيد أماً تعتصم بالصبر والعزيمة، وتحمد الله أن رزق ابنها الشهادة!!
وعلى الرغم من السلطة يرتفع أذان الشهادة، ونرجع إلى الحي لنجد أعيناً قد ملأها الدمع وقلوباً قد عمرها الإيمان، والتصميم على الثأر والمضي في طريق الجهاد حتى يأذن الله بالنصر..
ذلكم هو الشهيد وليد، تقبل الله الكريم منه عمله وجهاده.. ورفعه عنده مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقاً..
مصادر الترجمة:
١- رابطة أدباء الشام- وسوم: العدد 668
٢- معلومات من د. ربيع دبا.
٣- معلومات من محمد نور سويد.
٤- مواقع الكترونية أخرى.
وسوم: العدد 1000