في سير النساء الصَّالحات
لِسير النساء الصَّالحات في هذه الأمة الكثير من العِبر والمواعظ ،والعديد من الدروس بالغة الأهمية للأجيال المتعاقبة . فَهُنَّ الأسوة للنساء المسلمات ، ومن صفاتهن ومزاياهُنَّ مايُزجَى لكل أم ولكل فتاة تريد السعادة في دنياها وآخرتها . ونحن في زمن الذي يتمسك بأوامر دينه ، ويعمل بما جاء من الأوامر والنواهي ، فذلك كالقابض على الجمر، فبشرى لكل مسلم ولكل مسلمة بهذه البشارة التي تؤكد لهما الفوز بنعيم الجنة برحمة من الله سبحانه وتعالى .
فالنساء المسلمات عِشْن هذا الدين القويم بكل مشاعرهن ، على وعي وإخلاص ، فكن يتسابقن على فعل الخيرات ، وإقامة الشعائر والفرائض من صلاة وصيام ، ومن أداء الصدقات للمحتاجات من أرحام ومن جيران ،ومن القيام بتربية أولادهن وبناتهن على الأخلاق الحميدة ، وإرشادهن وتدريبهن على أداء الفرائض والسنن ، وهنَّ اللواتي يجتنبن الغيبة والنميمة وغيرهما من الصفات السيئة والمحرمة ، فتراهنَّ ملتزمات بكل ما أمر به الشرع ، إضافة إلى القيام بواجبهن المنزلي ، راضيات بما قسم الله لهن في حياتهن ، فهن الحامدات الشاكرات ، وهُنَّ الصَّابرات اللواتي يحفظن أسرار بيوتهن ، وهن الحريصات على ذكر الله عزَّ وجلَّ ، وتلاوة القرآن الكريم ، وتفعيل دور السنن النبوية في حياة بناتهن وأولادهن منذ نعومة أظفارهن .
وهنَّ اللواتي يتمتعن بقيم الإسلام العالية من صفاء للنفس ،ومن العفة والحياء والحشمة وعدم مخالطة الرجال ، ويبقى الحياء لدى المرأة المسلمة مزيَّةً عالية وصفة نفيسة ، والحياء هو السياج الحصين للمرأة ، حيث يقودها لفعل الصالحات ، وينأى بها عن قبائح الصفات ، وتنال به درجة الإيمان التي تتمناها طلُّ امرأة ذات عقل ودين . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ) . ولا يمنعها هذا الحياء من أداء واجباتها في أي موقع تعمل فيه إذا التزمت بحدود ما أنزل الله في كتابه العظيم ، وبما ورد في سُنَّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم .
وإننا نجدُ في سير الصحابيات الفاضلات المواقف العاليات التي تدل على إيمانهن ووفائهن على ماعاهدن الله ورسولَه صلى الله عليه وسلم ، ومن منا لاتذكر سيرة الفاضلة الكريمة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، وما قدَّمت لرسول الله في أول أيام نزول الوحي ،وحسبها بشارة الله لها عند وفاتها رضي الله عنها ، إذ جاء جبريل عليه السلام ليبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( بشِّرْ خديجة ببيتٍ في الجنة من قصب لاصخبَ فيه ولا نّصّبَ ) . وأما مآثر الصِّديقة بنت الصِّديق رضي الله عنها فلا تُحصى فهذه) : الصديقة بنت الإمام الصديق الأكبر، خير من طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء والمرسلين، رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، ومُعينه في الأسفار، ووزيره في عهده، وخليفته بحق من بعده، رضي الله عنه وعن ابنته، القرشية، التيمية، المكية، أم المؤمنين، زوجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وحبيبة خليل الله صلى الله عليه وسلم، الفقيهة الربانية، المبرأة من فوق سبع سموات، أفقه نساء هذه الأمة على الإطلاق، تزوج بها سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنوات، وهو صلى الله عليه وسلم ابن أربع وخمسين سنة، وأقام معها تسع سنوات، ومات عنها وهو ابن ثلاث وستين سنة، وهي لم تخط بعد إلى التاسعة عشرة، على أنها ملأت أرجاء الأرض علمًا، فهي في رواية الحديث نسيج وحدها، وعت من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تعه من نسائه، وروت عنه ما يروِ مثله أحد من الصحابة إلا أبا هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين ، عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين سنة، وتوفيت ولها من العمر ثمان وستون سنة) . ونجد أيضا أسمى المزايا وأجل السجايا لدى بقية أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن أجمعين،وبقية آل بيت النبيِّ صلى الله عليه وسلم . وكذلك حال الصَّحابيات الفاضلات ، وكلنا يذكر أن أول شهيدة في الإسلام هي سُمية بنت خياط أم عمار بن ياسر كانت سابعة في الإسلام،وهي من الأسرة التي بشرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة حين مرَّ وهم يُعذَّبون : ( صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنَّة ) . ولما قُتل أبو جهل يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: (قتل الله قاتِل أمك) .
وتتلألأ صفحات سيرة النساء الصَّالحات في زمن التابعين والتابعات ، ثم في بقية العصور الإسلامية ، حيث كانت للنساء الصَّالحات مواقفهن السَّاميات ، ومآثرهن العاليات في جميع المجالات التي كانت في أزمانهن . وأنقل هنا موقفا من سيرة هذه المأة الصالحة في قضية الحجاب : ( (لما كان العلامة الكاساني في حلب طلبت منه زوجته الفقيهة فاطمة بنت السمرقندي الرجوع إلى بلاده، فلما همَّ بذلك استدعاه الملك العادل نور الدين، وسأله أن يقيم بحلب ، فعرفه أنه لا يقدر على مخالفة زوجه، إذ هي بنت شيخه، فأرسل الملك إلى فاطمة خادمًا بحيث لا تحتجب منه، ويخاطبها عن الملك في ذلك، فلم تأذن للخادم، وأرسلت إلى زوجها تقول له: ((أبَعدُ عهدُك بالفقه إلى هذا الحد؟ أما تعلم أنه لا يحل أن ينظر إليَّ هذا الخادم؟ وأي فرق بينه وبين الرجال في عدم جواز النظر؟ فأرسل إليها الملك امرأة لتكلمها في هذا) . وأما تلك الصحابية الجليلة أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم رضي الله عنها فقد جاء في سيرتها : ( كانوا يسقونها العسل، ويوثقونها بالأغلال، ثم يلقونها بين الرمال، ولها حرٌ يذيب اللحم، ويصهر العظم، حتى يقتلها الظمأ ،وممن فعلوا بهن ذلك أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت ثم جعلت تدخل على نساء قريس سرًا، فتدعوهن، وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها، وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك فعلنا، ولكنا سنردك إليهم، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثًا لا يطعموني، ولا يسقوني، فنزلوا منزلًا، وكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا بأثر شيءٍ بارد وقع علي منه ثم عاد، فتناولته، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلًا ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته، فشربت منه قليلًا، ثم رفع، ثم عاد أيضًا، فصنع ذلك مرارً حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ فقلت: لا والله ما فعلت ذلك، كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا لساعتهم ) . تلكم نقطة من بحر السير الكريمة لبعض النساء الصَّالحات ، ومكتبتنا الإسلامية وتراثنا القويم حافل بهذه السير التي باتت مضرب الأمثال عند أولي الألباب من خَلْقِ الله . وإن الله سبحانه وتعالى وعدهن بالجنان ، وينلن فيها مالا عين رأت ولا أّن سمعت ولا خطر على قلب بشر . من النَّعيم الذي يُصيب جميع النِّساء الصالحات ، فيرجعن في عمر الشباب ، وحسنهن فاق حسن الحور العين ، ولقد ورد عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ عجوزا طلبت منه أن يدعو لها بالجنَّة، فقال لها: (يا أمَّ فلانٍ، إنَّ الجنةَ لا تدخلُها عجوزٌ )، فولَّت تبكي. فقال: أَخبِروها أنَّها لا تدخلُها وهي عجوزٌ، إنَّ اللهَ تعالَى يقول: ( إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً. فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا. عُرُبًا أَتْرَابًا)، وورد كذلك في بعض الآثار أنَّ نساء أهل الدُّنيا يُعطَيْنَ من الجمال أضعاف ما تُعطى الحور العين في الجنَّة، وذلك بسبب عبادَتِهنَّ لله -سبحانه وتعالى- في الدنيا، كما أنَّ الجنَّة تتزيَّن للنِّساء كما تتزيَّن للرِّجال ، وأنهن يجدن رضوان الله سبحانه وتعالى ، والزَّوجة الصالحة فإنَّها تَدخل مع زوجها إلى الجنَّة، يقول سبحانه وتعالى: (جَنّاتُ عَدنٍ يَدخُلونَها وَمَن صَلَحَ مِن آبائِهِم وَأَزواجِهِم وَذُرِّيّاتِهِم) .
وسوم: العدد 1042