الشيخ الشاعر الداعية رائد صلاح
(ولد في 10 نوفمبر 1958 في أم الفحم)
ويلقب بشيخ الأقصى، وهو رئيس الجناح الشمالي للحركة الإسلامية في فلسطين منذ عام 1996.
حاصل على شهادة البكالوريوس في الشريعة الإسلامية.
ويعد من أشهر الشخصيات السياسية وأبرزها مواجهة للسياسات العدائية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
تولى منصب رئاسة بلدية أم الفحم ثلاثة مرات متتالية في الفترة الممتدة بين 1989 و2001.
وفي أغسطس 2000 أنتخب رئيسًا لجمعية الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية، وهو أول من كشف النقاب عن حفريات المسجد الأقصى.
بدأ نشاطه الإسلامي مبكرًا؛ حيث اعتنق أفكار الإخوان المسلمين حينما كان في المرحلة الثانوية.
وهو من مؤسسي الحركة الإسلامية في إسرائيل بداية السبعينيات، وأحد رموزها إلى حين انشقاقها نهاية التسعينيات نتيجة لقرار بعض قادتها خوض انتخابات الكنيست عام 1996.
في 28 يناير 2013م نال جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام، لما قدمه من خدمة لأبناء وطنه المسلمين، وحماية مقدساتهم في فلسطين وعلى رأسها المسجد الأقصى.
المولد والنشأة:
ولد الشيخ رائد صلاح سليمان أبو شقرة محاجنة في 10 نوفمبر 1958 في أم الفحم، لأسرة مكونة من سبعة أبناء. وهو متزوج ولديه ثمانية أبناء؛ ثلاثة ذكور وخمسة إناث. تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي (1965 - 1973)، والثانوي (1973 - 1976) في مدارس أم الفحم. وتلقى تعليمه الأكاديمي (1977 - 1980) في كلية الشريعة في جامعة الخليل. عمل بالتجارة والأعمال الحرة (1980 - 1985) بعد منعه من التدريس. ثم انتقل للعمل الصحفي (1986 - 1989) من خلال تحريره لمجلة الصراط الشهرية.
النشاط السياسي:
خاض الشيخ رائد صلاح غمار العمل السياسي عن الحركة الإسلامية بترشيح نفسه لانتخابات بلدية أم الفحم؛ التي نجح في رئاستها ثلاثة مرات متتالية؛ كان أولها في عام 1989 ثم في عام 1993 وآخرها عام 1998، ثم قدم استقالته في 2001 ليتيح المجال لغيره، وليتفرغ للعمل الدعوي والدفاع عن الأوقاف والمقدسات الإسلامية. كان في الفترة نفسها نائبًا لرئيس اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، ونائبًا لرئيس لجنة المتابعة العليا للمواطنين العرب. وفي عام 1996 انتخب رئيسًا للحركة الإسلامية (الجناح الشمالي) وما زال رئيسها حتى اليوم رغم حظرها في 17 نوفمبر 2015. وفي عام 2000 أصبح عضوًا في المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة. وفي عام 2005 أصبح رئيسًا للجنة أسرى الحرية المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا.
في السجون الإسرائيلية:
أعتقل رائد صلاح الكثير من المرات، وكان منها:
وفي عام 1981 بعد تخرجه في كلية الشريعة سجن بتهمة الارتباط بمنظمة محظورة، وبعد خروجه من السجن فرضت عليه الإقامة الجبرية، حيث كان خلالها ممنوعًا من مغادرة المدينة ومغادرة بيته خلال الليل، وملزمًا بإثبات وجوده مرة أو مرتين كل يوم في مركز شرطة وادي عارة.
في عام 2000 خلال هبة أكتوبر استهدف بمحاولة اغتيال فأصيب بعيار ناري في رأسه أطلقته القوات الإسرائيلية. وفي عام 2002 أصدرت وزارة الداخلية الإسرائيلية أمرًا بمنعه من السفر خارج البلاد. وفي عام 2003 أعتقل وأفرج عنه بعد سنتين سجنًا عام 2005، حيث وجهت إليه تهمة القيام بتبييض أموال لحساب حركة المقاومة الإسلامية حماس.
السلطات الإسرائيلية تفرج عن الشيخ رائد صلاح بعد أن سُجن 5 أشهر، بتهمة الاعتداء على شرطي إسرائيلي. 12 ديسمبر، 2010م.
وفي عام 2009 منع من دخول القدس، ثم أصدرت المحكمة الإسرائيلية عام 2010 قرارًا بسجنه تسعة أشهر.
وفي عام 2010 أمضى خمسة أشهر في السجن لبصقه على شرطي إسرائيلي حاول استفزازه.
وفي عام 2011 منع الشيخ رائد صلاح الشرطة الإسرائيلية من تفتيش زوجته، وهي عارية، وذلك حينما كانا عائدين من المملكة العربية السعودية بعد أداء مناسك العمرة، وقد تم اتهامه بإعاقة عمل الشرطة، وقد أقرت النيابة العامة بسجنه ثمانية أشهر.
وفي العام نفسه اعتقل في بريطانيا دون وجه حق، وذلك بتحريض من إسرائيل، لكن أفرج عنه، إلا أنه عند وصوله إلى مسقط رأسه أم الفحم في 16 أبريل 2012 منع من دخول القدس حتى نهاية أبريل 2012.
وفي 8 مايو 2016، دخل رائد صلاح السجن لقضاء حكمٍ بالسجن لمدة 9 أشهر، بتهمة التحريض على العنف.
وفي 17 يناير 2017 أفرج عنه مع أمر حظره من السفر خارج البلاد لمدة 6 أشهر، وجرى احتفال كبير لاستقباله في مسقط رأسه أم الفحم.
قررت محكمة الصلح الإسرائيلية في حيفا في 24 نوفمبر 2019 إدانة رائد صلاح بتهمتي «التحريض على الإرهاب»، و«تأييد منظمة محظورة» وفرضت عليه في 10 فبراير 2020 السجن الفعلي في قضية الرهائن 28 شهرًا واحتساب مدة الاعتقال الفعلية التي قضاها في التهمة وهي 11 شهرًا تبدأ من 16 أغسطس 2020 ولمدة 17 شهرًا. أفرجت عنه السلطات الإسرائيلية في 13 ديسمبر (كانون الأول) 2021.
أسطول الحرية:
في 31 مايو 2010 شارك الشيخ رائد صلاح في أسطول الحرية الهادف لفك الحصار عن قطاع غزة حيث تعرض الأسطول لعملية قرصنة بحرية في المياه الدولية من السفن الحربية الإسرائيلية. قتل في هذا التعدي أكتر من 16 متضامن، وأصيب أكثر من 38 جريح. وقد تم اعتقاله بعد محاولة اغتياله أثر وصول الأسطول قسرًا إلى ميناء أشدود في 1 يونيو 2010 هو وآخرون، وتم تمديد محاكمته لمدة أسبوع.
النشاط الدعوي:
اهتم الشيخ رائد صلاح اهتمامًا كبيرًا بالمقدسات الإسلامية من مساجد ومقابر ومقامات؛ نظرًا لتعمد الحكومة الإسرائيلية بالاعتداء عليها بعد رحيل أهلها عنها. فأنتخب في أغسطس 2000 رئيسًا لجمعية الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية التي ساهمت بالدفاع عن مساجد فلسطين، ونجحت في كشف حفريات المسجد الأقصى.
بدأ نشاط الشيخ رائد صلاح في إعمار المسجد الأقصى وبقية المقدسات بتعاظم في عام 1996، حيث استطاع أن يُحبط العديد من المخططات الإسرائيلية الساعية لإفراغ المسجد الأقصى من المصلين، عبر مشروع «مسيرة البيارق»؛ لتسيير الحافلات إليه من كافة البلدات العربية. ونجح الشيخ رائد صلاح بإعمار المصلى المرواني وفتح بواباته، وإعمار الأقصى القديم وتنظيف ساحاته وإضاءتها، وإقامة وحدات مراحيض ووضوء عند باب حطة والأسباط والمجلس، وعمل على تنظيم حلقات ذكر وقراءة قرآن في مصاطب المسجد الأقصى.
ساهم أيضًا في إنشاء مشروع «صندوق طفل الأقصى» الذي يهدف لدعم مشاريع إعمار المسجد الأقصى وربط شريحة الأطفال بقضية المسجد الأقصى.
وساهم بتنظيم المسابقة العالمية «بيت المقدس في خطر» التي تُجرى سنويًا في رمضان بمشاركة عشرات الآلاف من كافة أرجاء العالم. بالإضافة إلى مسابقة «الأقصى العلمية الثقافية» وغيرها. ساعد الشيخ رائد صلاح بإصدار العديد من الأفلام الوثائقية عن المسجد الأقصى. كان لنضاله وشخصيته الروحية الأثر الكبير في إسلام الناشطة الإسرائيلية طالي فحيمة.
جائزة الملك فيصل العالمية:
في 28 يناير 2013 نال الشيخ رائد صلاح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام لكونه أحد أبرز الشخصيات المؤسسة للحركة الإسلامية، ووضوح جهوده الإصلاحية والاجتماعية عند ترؤسه الحركة الإسلامية. وتقلده مهمة رئيس مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية، ومهمة رئيس الإغاثة الإنسانية في فلسطين. ولكونه من المبادرين بكثير من المشاريع في المسجد الأقصى بالتعاون مع إدارة الأوقاف الإسلامية في القدس ولجنة إعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة. وكذلك لأنه يُعتبر أول من كشف النقاب عن النفق الذي قامت بحفره الحكومة الإسرائيلة تحت المسجد الأقصى. ولنجاحه بمنع مصادرة أراضي الروحة مع لجنة الروحة الشعبية عام 1998، فقدم بذلك خدمة لأبناء وطنه. وأيضًا لتنظميه مهرجانات تحت شعار «الأقصى في خطر» التي تستقطب الآلاف من الفلسطينيين.
شيخ الأقصى "رائد صلاح" في عالمه الشعري:
وقد كتب د. جابر قميحة يتحدث عن رائد صلاح شاعراً:
في خطوط عريضة سريعة ينقل لنا التاريخ أن "رائد صلاح" ولد سنة 1958م في مدينة أم الفحم، ودرس المراحل الابتدائية، والإعدادية، والثانوية في مدارسها، ثم أكمل تعليمه الجامعي في كلية الشريعة بمدينة الخليل.
وبعد أن تخرج في كلية الشريعة أدخل السجن بتهمة الارتباط مع منظمة محظورة وهي (أسرة الجهاد)، وكان ذلك عام 1981م، ثم بعد الخروج من السجن فرضت عليه الإقامة الجبرية لفترة طويلة، ثم رفضت وزارة المعارف الصهيونية طلبه للالتحاق في سلك التعليم كمعلم في مدارس أم الفحم.
وفي عام 1985م تزوج الشيخ رائد صلاح، وفي عام 1986م عمل محررًا في مجلة "الصراط" الشهرية الإسلامية حتى نهاية عام 1988م، بعدها تفرغ في مطلع عام 1989م، لخوض انتخابات رئاسة بلدية أم الفحم عن الحركة الإسلامية، ونجح في تلك الانتخابات بنسبة تزيد على 70%، وأصبح رئيسًا للبلدية وهو ابن 31 عامًا، ثم خاض الانتخابات للمرة الثانية عام 1993م، ونجح بنسبة تزيد على 70% أيضًا، ثم خاض الانتخابات للمرة الثالثة عام 1997م، ونجح بنسبة تزيد على 70% للمرة الثالثة، وفي عام 2001م قدم استقالته ليفسح المجال لغيره من قادة الحركة الإسلامية.
وفي رحلة العطاء شغل الشيخ صلاح منصب نائب رئيس اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية ونائب رئيس لجنة المتابعة العليا للمواطنين العرب منذ انتخابه لرئاسة بلدية أم الفحم حتى استقالته.
وفي عام 1998م، قاد أحداث الروحة التي اجتاحت خلالها قوات الشرطة الصهيونية مدينة أم الفحم وأصابت بنيرانها وبالغاز المسيل للدموع قرابة 600 مواطن، ونجح مع لجنة الروحة الشعبية أن يحرروا غالبية أراضي الروحة، وفي العام نفسه أعلن مشروع المجتمع العصامي الذي يهدف إلى بناء الذات الفلسطيني الداخل.
وفي عام 2000م، تعرض لمحاولة اغتيال في الأيام الأولى من انتفاضة الأقصى، وأصيب بعيار ناري في رأسه من قبل القوات الصهيونية، ثم وجهت له "لجنة أور" المشكَّلة في أعقاب استشهاد 13 مواطنًا عربيًّا في الداخل خلال انتفاضة الأقصى إنذارًا، واعتبرته أحد المسببين للمسيرات، ورأت الجماهير العربية بذلك محاولة لإزاحة التهمة عن المجرم إيهود باراك، رئيس وزراء العدو آنذاك، وقيادات الأمن الصهيوني وإلصاقها بالضحية.
****
وللأدب نصيب من الشيخ رائد الذي ينظم الشعر منذ أكثر من عشرين عامًا، ويتمتع بحس فني مرهف ويمارس هواية الرسم.
نال الشيخ لقب "شيخ الأقصى"؛ حيث جعله همه الأول، وعلى رأس سلم أولوياته، وكان من المبادرين الرئيسيين لإعمار التسوية الشرقية "المصلى المرواني" والأقصى القديم، وكثير من مشاريع الإعمار في المسجد الأقصى من خلال دوره كرئيس لمؤسسة الأقصى، وبالتعاون مع هيئة الأوقاف ولجنة الإعمار في القدس.
خلال السنوات الأخيرة اشتدت الحملة الرسمية وغير الرسمية على الشيخ رائد صلاح من قبل أذرع المؤسسة الصهيونية والإعلام العبري وراحوا يرجمونه بالإرهاب وتهديد أمن الدولة، وبسبب ذلك تعرض للتحقيق البوليسي، ومنع من السفر خارج البلاد، ودخول المدارس الثانوية، ثم الجامعات لإلقاء محاضرات، وظلت حملة التحريض تشتد عليه حتى تاريخ 13/5/2003م؛ حيث تعرض للاعتقال ليلاً، وكان في تلك الليلة يجلس قرب سرير والده المريض في المستشفى. (عن موقع فلسطين المسلمة).
لقد توجه ألف جندي إسرائيلي، وألقوا القبض عليه في 13/5/2003م، وهو بجوار أبيه الذي كان يعاني سكرات الموت، وأُودع هو وإخوانه بسجن (اشمورت) في (كفاريونا)، ووجهت إليهم تُهم لم يقترفوها، من أهمها: مدِّهم (حماس) بالمال والمعونات، والمعروف أنه رئيس الحركة الإسلامية في الشمال. وعومل الشيخ ورفاقه في السجن معاملة مهينة، فكانت وحدة من الشرطة الخاصة- التي تكافح المخدرات ولا تتبع إدارة السجن- كثيرًا ما تدخل زنزانتهم، ويفتش أعضاؤها الزنزانة، ويقومون بنزع أجزاء من الحائط، ويخربون مقتنياتهم، ويقلبون كل شيء، ويجبرونهم على التجرد التام من الملابس، وإجراء تفتيش ذاتي لأماكن حساسة.
ورفضت إدارة السجن السماح له بإدخال زيت الزيتون إلى الزنزانة، وكان يستخدمه كعلاج طبي، ومنعت دخول الخضراوات، وحظرت دخول الكتب والصحف، وخفضت وقت الجولة الحرة اليومية من ساعتين إلى ساعة واحدة.
ورفضت إدارة السجن للشيخ رائد أن يحتضن ويقبل ابنه الرضيع الذي يبلغ من العمر ثلاثة أشهر، وولد في فترة سجن أبيه، لولا تدخل جمعية حقوق المواطن. وذلك لأن قانون السجن يمنع الأسرة من اللقاء المباشر مع المعتقل، ولكن من خلف حاجز زجاجي سميك يفصل بينهم.
****
في عالمه الشعري وديوانه: زغاريد السجون على مدى عامين (ابتداء من 13/5/2005م) كانت هذه بعض ملامح المصاعب والمعاناة التي عاشها الشيخ صلاح، وخلال هذه المدة تفجرت شاعرية الشيخ، وكان هذا العطاء الشعري المتمثل في هذه المجموعة الشعرية التي تعدُّ ضميمة حية "لشعر السجون".
وعملية السَّجْن- أو الاعتقال تعني عملية عزل- أو انعزال قهري- فالسجين منفصل عن مجتمعه الخاص والعام؛ بل عن عالم الخارج كله؛ ليكون محصورًا في مكان ضيق محدود، مع نزلاء يكونون جميعًا- أو بعضهم- مرتبطين به ارتباطًا قِيميًّا، فكرًا ومعتقدًا وسلوكًا، مع اختلاف في درجة الاعتناق والمعاناة، وبقدر قوة الإيمان، ونضوج الفكر، وحيوية الضمير، والولاء للعقيدة تخف حدة الشعور بالوحشة، وبشاعة العزلة، وآلام الاغتراب على حد قول ابن الرمي:
ومن ثم.. واعتمادًا على هذا الملاذ الإيماني يكون للسجين الأديب "عالم خاص" له أطروحاته، وامتداداته التي تتخطى- بل تكتسح- هذه الأسوار المادية الصماء.
والمسلم الداعية يجد غذاءه الروحي، وملاذه القوي الحصين، وهو يتجه إلى الله في سجنه، فنرى شاعرنا بشفافية روحية صوفية يتجه إلى ربه بقصيدة طويلة، نظمها في معتقله في 16/8/2003م) عنوانها "حسبي أنت الله" يقول فيها:
حسبي أنت رقيبي
ونصيري وطبيبي
حسبي أنت حبيبي
ومغيثي ومجيبي
حسبي أنت الله
....
يا جابر كل كسير
بجروح القلب أسير
يدعو في الليل حسير
وغزير الدمع صبور
حسبي أنت الله
يا مؤنس كل غريب
محتار الدرب سليب
ومغيث نِدا المكروب
والحال عليه عصيب
حسبي أنت الله
يا ملجأ كل شريدْ
مطعون الصدر طريدْ
يا شافي كل قعيد
والداء عليه شديد
حسبي أنت الله
يا حي ويا قيوم
قد نال القلب كلوم
وجرت في الصدر هموم
وأذاب الروح غموم
حسبي أنت الله
****
وتتعدد قصائد "المناجيات الإلهية" في ديوان الشاعر، وفي واحدة منها نظمها الشاعر في معتقل "الجلمة" في 6/12/2003م.
نرى الشاعر أجمل تصويرًا، وأبرع أداء منه في القصيدة السابقة، كما أنه يربط فيها بين الخاص والعام، بين معاناته وهمومه الذاتية وآلامه الخاصة، وبين هموم وطنه وأبناء أمته، متطلعًا إلى نصر مؤزر مبين، ومن هذه القصيدة الطويلة التي جعل عنوانها "ربي يا حصني ورجائي" نعرض الأبيات التالية:
عند الضيق وعند القهر
وتجبُّر ثعبان الغدْر
مولاي يا مالك أمري
سبحانك يا كاشف ضري
اشرح لي يا ربي صدري
بالراية تخفق بالنصر
في القدس الغارق في الأسر
عند تداعي زحف الهولِ
يجرف أحبابي كالسيل
وتباهي المغرور النذل
يلهبني بسياط الويل
مولاي إلهي يا حولي
يا ذا المنِّ ويا ذا الطول.
يا ذا الجود ويا ذا الفضل
احفظهم من بعدي أهلي
****
والشاعر الذي عاش قوي الإيمان، واسع الثقافة وخصوصًا الإسلامي منها، تأخذه صوفية نقية تدفعه إلى "التذكير بالموت"- والذكرى تنفع المؤمنين؛ ففي مطولته "كفى بالموت موعظة" التي نظمها في معتقله في (22/11/2003م) في ساعة شفافية إيمانية أخروية نرى سمتين أساسيتين:
الأولى: لفظية، وهي الانطلاق من عبارة محورية مكررة على رأس كل مقطع، وهي "كفى بالموت".
- كفى بالموت موعظةً
- كفى بالموت من فزع
- كفى بالموت من سفرِ
- كفى بالموت تذكرةً
- كفى بالموت تبصرةً
والثانية: سمة موضوعية، وهي أنه طرح في قصيدته المعروض الإسلامي والقرآني للموت، وأبعاده وعظاته، بطريقة عفوية تلقائية. دون أن يكون للشاعر "خصوصية تفردية" كما نرى عند أبي العلاء المعري في قصيدته الدالية التي يقول فيها:
فما قدمه رائد صلاح أقرب إلى حد بعيد إلى "موْتيات" الشاعر العباسي أبي العتاهية. ونجتزئ من هذه المطولة بالمقطوعة الآتية:
كفى بالموت تذكرةً
لعبد غافل فاجرْ
عساه اليوم في الدنيا
يعي عن حاله الخاسرْ
ويوقن أن غفلته
سراب خادع ماكر
وأن الذنب قد يحلو
لقلب تائه حائر
فلا طبٌّ لعلتهِ
ولا خلٌّ له ناصر
إذا لم يبك توابًا
على عيش مضى عابرْ
ويفْطم قلبه الشاكي
سليمًا من هوى عاثرْ
ويشحذ عزمه دومًا
قنوعًا عابدًا طاهر
وإلا ليته يدري
بأن ذكاءه قاصر
وأن ختامه مرٌّ
كنمرودٍ ذَوَى غابر
وذكر السجين للموت لا يدل على تشاؤم وسوداوية بالنسبة للسجين المؤمن ذي العقيدة السديدة التي يعيش بها ولها؛ بل يكون في هذا الذكر ما يريحه نفسيًّا؛ إذ تتسق هذه التوجيهات مع أصوله العقدية من ناحية، ويشعره بأنه يؤدي جزءًا من رسالته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- من ناحية أخرى. وهذا الأمر وذاك النهي يمثل نخاع هذه العقيدة، كما قال الإمام الغزالي: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما القطب الأعظم لهذا الدين".
وقد حدثني أحد كبار الإسلاميين الذين كانوا معتقلين أواخر أيام الملك فاروق في "معتقل الطور" بسيناء، وقال إنه كان يعيش في راحة نفسية عميقة على الرغم مما كان ينزل به وبإخوانه من إيذاء ومضايقات، وذلك على "فرضية الموت" قال: "كنت أصنع لنفسي عالمًا مؤداه: أنني مت.. وأنني في العالم الآخر.. فما كان ينزل بي في المعتقل من إيذاء.. يجعلني أحدث نفسي قائلاً: إنه عدل ألقاه في العالم الآخر.."، وكانت هذه الفكرة أو هذا الخاطر يريحني نفسيًّا إلى أبعد الحدود، وهذا يؤكد ما ذكرته آنفًا.
****
ونرى الشاعر في أشد توهجه الوجداني في قصيدته بل صرخته الثائرة (لماذا أنا في قفص الاتهام؟) التي نظمها في معتقل "الجلمة" (في 27/9/2003م). الذي يواجه فيه العدو الصهيوني بالأسباب الحقيقية لاعتقاله، وفيها يبرز الشاعر "ملامحه الجوانية" ومدى ولائه لله وللدين، وحبه للوطن والشعب الفلسطيني، وعَمَل الخير من أجل اليتامى والمحتاجين، كما أنها تبرز بمفهوم المخالفة ما جُبِل عليه الصهاينة من غدر وحقد، والقصيدة تعد تمثيلاً حيًّا "لشعر السجون"؛ لذا رأيت أن أعرضها على القارئ دون أن أحذف منها شيئًا.
لأني المسلم العربي والحر الفلسطيني
لأني قابض دومًا بلا خوف على ديني
لأني الدرع للأقصى ودمع القدس يبكيني
وحامي المهد من علج بنار الحقد يكويني
لأني الصابرُ المغروزُ في دربي بلا لينِ
ومتزرعٌ هنا طودًا بأرضي أروي زيتوني
لأني الكافلُ الحاني على أيتام قَفّينِ
ونابلسٍ وطوباسٍ وطمُّون وبُرقينِ
لأني حامل خبزًا لغزة والمساكين
وراعي المرضى والثكلى وصرْخات الملايين
لأني الغائث الباكي على كل المساجين
وساقي بسمة تعلو على دمعات محزون
سَبَوْني ثم ساقوني إلى ليل الزنازين
ونادوني: أصولي وإرهابي وغلوني
****
لأني عشت لا أحني جبيني إلا لله
وبعت الدنيا لا أرجو بريق المال والجاه
لأني صحتُ: يا شعبي كفاكم عيشة اللاهي
كفاكم عيشة الغافي وعيش العابث الساهي
لأني صنتها نفسي عن الزُلفى إلى الشاه
وصنتُ الأرضَ طيبة وخيرَ الزادِ للطاهي
لأني قدت أولادي إلى فجر لنا زاهي
وخيرُ الرسل قدوتنا وربي الآمرُ الناهي
لأني شدت منزلنا متين الركن لا واهي
يطيع الله توابًا طهورَ القلب والفاه
لأني سرت مع حزب نقي الصف أواه
نصير الحق مغوار ليعلي راية الله
سقوني المر مصلوبًا كخباب وجهجهاه
وشدوا القيد في رجلي لكي أبكي من الآه
****
لأن الأرض ميراثي وماء البحر والنهر
وسفحَ الكرمل العالي وترب السهل والغور
لأن التين والزيتون أطلالي مدى الدهر
وريح الزعتر الشافي وغابات من الصبر
لأن القمح من زرعي ومن نبعي ومن بذري
وزهر اللوز والبرقوق والليمون من زهري
لأن الفل والحنون والريحان من عطري
وريح النرجس الزاكي وعود الند والسدر
وهذا الليل إن ولى يلوح معطرًا فجري
لأن الدم من جرحي يروي نسمة النصر
ونور الصبح من صبري على المحتل والجور
رموني اليومَ مشدودًا بأغلال من القهر
وقالوا: مسلم باغ وعضوٌ في قُوى الشرِّ
****
وينقلنا الشاعر إلى لون من الشعر الفَكِه الساخر.. إلى قصيدة طويلة جاءت على شكل أحجية (والمصريون يسمونها فزُّورة)، وعنوان القصيدة "من يعرِّي الديناصور"؟ (سجن أشمورت 3/4/2004م). نعم هي أحجية، وإن صدرها الشاعر بقوله: "هي ليست أحجية، ولو تدبرتم سطورها لعرفتم هذا الديناصور باسمه ورسمه، ولحمه وعظمه، وشحمه" ويستهلها الشاعر بأسلوب استفهام، فيقول:
هل رأيتم دينصورا
يسكن اليوم القصورا
يملأ الأرض فجورا
وفسادًا وشرورا
ويجري الشاعر على لسان "الدينصور" تحذيرات منها
- احذروا كرشي الوفيرا
.........
- احذروا ظفري الكبيرا
احذروا نابي الخطيرا
فبظفره ونابه أذاق شعبًا ثبورًا، وسعيرًا، وحولت دوره قبورا
- احذروا حقدي الضريرا.
لم يزل غُولاً مغيرا
- احذروني أن أثورا
جائعًا أرجو فطورا
ويملأ القدور، ويلتهم منها ما يشاء، ولكنه لا يشبع، ولا يشكو التخمة أبدًا.
ثم يقترب الشاعر من "لحظة التنوير" أو حل الأحجية فيقول على لسان الديناصور
أرسل الصوت الجهورا
أسمع الخلق سطورا
وعظات ونذيرا
واعظًا "بوشًا" صغيرا
إذ غدا عندي أسيرا
ويأتي ختام الأحجية على لسان الشاعر شاهدًا:
هكذا أضحى شهيرا
راهبًا لا دينصورا
ومفدّى ووقورا
ورحيمًا وغيورا
هكذا غش النطورا
والسياسيّ الخبيرا
هكذا عقّ العشيرا
وسبى منه الشعورا
فافهموا هذي السطورا
كي تُعروا الدينصورا
وقال أغلب من قرأت عليهم القصيدة: إنه شارون، وقال قلة منهم: إنه رئيس السلطة الفلسطينية.. وقال القليل الأقل: إنه يقصد كل رئيس عربي فرط في حقوق الشعب الفلسطيني.
وآمل أن أكون على صواب إذا ذهبت إلى أن الرأي الأول أصدقها.
ومما يسجل لهذه القصيدة ما فيها من سخرية مرة، وقدرة على التهكم الواعي، وما فيها من بصمات قصصية، وتنويع وتدفق في الأداء اللفظي.
وقد قلت آنفًا في هذا البحث: "... واعتمادًا على الملاذ الإيماني يكون للسجين الأديب عالم خاص، له طروحاته، وامتداداته التي تتخطى، بل تكتسح هذه الأسوار المادية الصماء".
فلا عجب إذن أن نرى الشاعر- وهو في سجنه- متلاحمًا في عدد كبير من قصائده مع قضية وطنه، أرضًا وعرضًا، وعقيدةً، وشعبًا، وتاريخًا، وآلامًا، وآمالاً".
فمن أطول قصائده، وأوفاها فكرًا، وأصدقها عاطفة قصيدته "إلى شهداء هبات الأقصى" وقد نظمها الشاعر في معتقله في 25/8/2003م، وأهداها إلى "الشهداء وإلى أمهاتهم وآبائهم وأهلهم، ونحن من أهلهم"، واستهلها الشاعر بقوله:
السجن والقضبان للعدم
وزحوف جند الله للقمم
قد هل حرّا شامخ الهمم
فتقدموا يا صفوة الأمم
يا إخوتي الشهداء بالقلم
قوموا ارفعوه مخضبًا بدم
في القدس رغم القهر والألم
وحَرَص الشاعر على أن يضمّن أبياته أسماء الشهداء، واحدًا واحدًا.. كلاًّ منهم يستقل مقطوعة كاملة أو أكثر، وفي الأبيات التالية أعرض صدور هذه المقطوعات:
- (عدنان) نلت منازل الشرف
ومشيت درب مفاخر السلف
.......
(عمري محمد) قمت كالجبل
في وجه كل الباطلِ النّذَلِ
وصرخت صرخة فارسٍ بطلِ
.....
- يا (أحمد) المقتول يا ولدي
برصاص غدار سَبى بلدي
..........
- تفديك روحي (مصلح) الحسب
لم تخشَ يومًا مدفع اللهب
وأبيت أن تجثو على الركَبِ
..........
- (رامي) بجتٍّ فزت يا قمري
بالحور والجنات والنهر
..........
- أ(وسام يزْبكُ) يا سنا السّحَرِ
قد عشت دهرًا طيب الأثر
.........
- دمتم (إيادٌ) راسخ القدم
في درب أهل العز والكرم
في درب من صعدوا إلى القمم
عبر الشهادة زينة القيم
..........
- وبكفرِ- كنَّا حُرة النسب
كنت الشهيد (محمد) الأدب.
..........
- يا (رامز البشناق) في وطني
يا صوت حق صاح في سنني
.........
- هذا (عمادٌ غنايم الفرج)
يفديك يا أقصاي بالمهج
..........
- حيوا (وليد) العز والمرح
ما خفت يومًا سارق الفرح
ما خفت يومًا ناهب البلح
ويختم الشاعر قصيدته الملحمية، الطويلة بالمقطوعة التالية:
يا ويح قلبي اليومَ يا فزعي
لما نعاك الأهل في جزع
صاحوا (علاء) قامع البدع
قتلته غدرًا عصبةُ الصرَعِ
إذ صحت فيهم دونما هلع
شعبي يموج اليوم في الوجع
فرموك بالنيران كالقزع
فصعدت نحو الحور في طمع
في مجلس بالطيب مرتفع
وقد يرى بعض النقاد أن إيراد كل هذه الأعلام- وما أكثرها!!- في سياقة القصيدة يحولها إلى عمل إحصائي ينال من فنيتها، ويرى آخرون أنه لا ضير مطلقًا في تضمين هذه الأعلام، فذلك من قبيل تمام الاستيفاء الفكري.
وأرى أن هذه مسألة مما يختلف فيه التقدير، بحيث يكون من الخطأ الأخذ "بالمطلق" في هذا المجال.
وحتى يستقيم الحكم، ويتحقق له الصواب، يجب الاحتكام إلى معيار حاسم واضح، مؤداه: إذا أورد الشاعر هذه الأعلام بعفوية بعيدًا عن التكلف والتصيد، فلا مأخذ، ولا ملام، ولكن المرفوض نقديًّا أن يتعنت الشاعر، ويتعسف في إقحام هذه الأعلام في سياقة القصيدة، بدعوى الحرص على تكامل بنائها الفكري.
وقد نهج الشيخ رائد النهج الأول، ومن ثم جاءت قصيدته متمتعة بالتدفق والعفوية بعيدًا عن التكلف والتصيد.
****
ومن أواخر ما نظمه في معتقل "أشمورت" (11/5/2005م) قصيدته "من يجيب القدس"؟ وهي تدل على نضج فني واضح، وتمكن راقٍ من آلياته الفنية وجدانًا وتصويرًا وتعبيرًا، وشاعرنا رائد صلاح (شيخ الأقصى) يغلب في قصيدته الأسلوب الإنشائي الاستفهامي وهو من أقدر آليات الأداء التعبيري على الإثارة والتأثير.
والتوهج العاطفي ذو الموسيقى النحاسية الصاخبة يهيمن على القصيدة، وخصوصًا مطلعها الذي جاء قويًّا قارعًا:
القدس تسألنا أليس لعفتي حق عليكم؟
أنا في المذلة أرتمي يا حسرتي ماذا لديكم؟
أنا في المهانة غارق حتى متى أسفي عليكم
ومتى تثور زحوفكم وتجيبني: جئنا إليكم
يا عاركم من ذي التي عن نصرتي شلت يديكم؟
وعلى لسان القدس التي شخصها الشاعر، فبدت حية نابضة منتقضة أمامنا تسأل في مرارة عن سبب قعود العرب والمسلمين عن نصرتها: هل هو الخوف من الموت؟ أم هو تحجر القلوب وموت الإحساس فيها؟.
وتتوالى أسئلة القدس في حزن وأسى ممزوج بالتوبيخ والعتاب الشديد، أملاً في إيقاظ النائمين، وإيقاظ نخوة الكسالى القاعدين:
- فهي تسأل عن الأقصى المبارك السجين.
- وهي تسأل عمن يغيث الصخرة المتكسرة، التي تحدرت منها الدماء الطاهرة.
وعلى لسان القدس يستدعي الشاعر المعارك الإسلامية المنتصرة، والشخصيات العظيمة الفائقة التي غيرت مجرى التاريخ، مثل عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، والمثنى الشيباني، وصلاح الدين الأيوبي.. تسأل القدس عن كل هؤلاء لعل واحدًا منهم يتكرر في تاريخنا، فيحرر القدس، وفلسطين.
وإيراد الشاعر هذه الأعلام لم يكن مجرد استقراء إحصائي، ولكنه يحرص على أن يربط بين ماضيها الزاهي وحاضرنا المر الكسير أملاً في مسيرة كمسيرتهم الظافرة.
وفي القصيدة وعي ناضج بالتاريخ، وحس ديني دفاق، فالشاعر يعلو صوته موازيًّا لصوت القدس؛ لأنه يعيشها بنبضه وروحه.. فيستنهض أمته بعد عتاب شديد:
يا أمتي والقدس في صرخاتها هل من جواب؟
ماذا نقول لربنا والآن تنهشها الذئاب؟
والآن تنبحها بليل أو ضحى سود الكلاب
قوموا إلى القدس الشريف مهللين مكبرين
من كل أرض أقبلوا بخطا البطولة واليقين
رغم اللئام تقدموا والله خير الحافظين
لا عذر فينا للحيارى والجموع اليائسين
والخزي كل الخزي ثم العار للمتخلفين
****
ويهدي الشاعر قصيدته (أنت فينا يا أخي الرمز) التي نظمها في "أشمورت في 10/4/2004م) يهديها الشاعر إلى (الأهل، والأحباب الذين سطروا أسماءهم في زاوية "نقطة ضوء" وفي زاوية "أمة الخير" وإلى الأيدي المتوضئة التي صنعت المواقف الكريمة في معسكر العمل الإسلامي في عرابة ومجد الكروم).
وجاءت القصيدة فيها روح النشيد، وقد ذكرتني بنشيد إخواني كنا نردده في جوالة الإخوان بمصر مما يزيد على نصف قرن، ومطلعه:
جدد العهد وجنبني الكلام
إنما الإسلامُ دين العاملين
وفي هذه القصيدة تلتقي بسمات ثلاث:
الأولى: هيمنة روح النشيد بما فيه من علو النبر الموسيقى، وسرعة الإيقاع، والسهولة والتدفق.
والثانية: التوجيهات المباشرة، وخصوصًا إلى الشباب.
والثالثة: استعمال العبارة المحورية التي تتكرر على رأس كل مجموعة، وهي هنا فعل الأمر (جدد) مع التنويع في المطلوبات من الفعل، وتليه في كل مقطوعة مطلوبات وتكليفات أخرى، على النحو التالي:
جدد الإيمان في القلب ولا تخشَ العدا
واستقم في الدرب حرًّا شامخًا لبِّ الندا
لا تقل لي يائسًا ضعنا مع الدرب سدى
أنت فينا يا أخي الرمز على طول المدى
أنت دومًا في سبيل الله عنوان الفدا
.......
جدد العزم، وقاوم، ثم قاوم لا تنم
........
جدد السير ونادِ المسجد الأقصى الأسير
..........
جدد الهمة لا تصغ لغربان الظلام
..........
جدد الصبر وصابر وانتظر نور الصباح
.......
ومضمون التوجيهات يتلخص في الدعوة إلى التحلي بالقيم الإنسانية، والإسلامية العملية، كالإيمان، والعزة، والتفاؤل، والإصرار، والصبر، والثبات، والتمسك بالدين، والعمل الدائب على نشره، والدفاع عنه.
****
الشاعر العباسي (أبو فراس الحمداني)- (320- 357هـ) (932- 967م)- وقد أسر عند الروم-.. له عدد من القصائد التي كان يرسلها إلى أمه من معتقله، مثل قصيدة "أم الأسير"، وقصيدة "مصابي جليل" وقصيدة "يا حسرة ما أكاد أحملها" وقصيدة "لولا العجوز" وفيها يوصي أمه بالصبر الجميل على فراقه، ويدعوها إلى الثقة بالله، وفي ختامها يقول:
وما ذكرني بأبي فراس، وقصائده الرسالية إلى أمه إلا قصيدة شاعرنا الشيخ رائد التي نظمها في معتقل الجلمة في 30/6/2004م، ووجهها إلى أمهات رهائن الأقصى ومنهن أمه، وذلك بمناسبة حفل زفاف ابنته لبابة، وهو بعيد عنها في معتقله، آملاً أن تشارك الأمهات في حفل زفاف ابنته.
وفي مطلع هذه القصيدة يقول:
يا أمي من ظلمة سجني
أهديك سلامًا يا عيني
.....
لن أركع يومًا للفاجر
والغاصب واللص الغادر
أنا ماضٍ في دربي سائر
مبتسمًا للموت وصابر
والله الحافظ والناصر
أنا ذنبي أني لم أحْنِ
هامة عزتنا في وهن
وتوجهه إلى "الأم" لا يتوقف عند العاطفة الذاتية، ولكن تتسع هذه العاطفة لفلسطين الوطن الأم، فحصول الشاعر على الانعتاق من ظلمة السجن ليس غاية، ولكنه وسيلة للجهاد المتواصل، والعمل لتحرير العرض والأرض، والذود عن الدين، وفي مختتم القصيدة يقول الشاعر:
يا أمي يا أم محمد
أهديك سلامًا يتردد
في قلبي شوقًا كالموقد
وانتظري لو طال الموعد
رغم حقود صاح يهدد
سأعود أنادي في المسجد
إخواني لا تخشوا مفسد
هذا بيعي وخذي عني
بيعي الرابح وبلا غبْن
****
وإذا كان الشاعر قد عنون قصيدته بـ"موشح أمهات رهائن الأقصى"، فقد جعل لرفح موشحًا يسبح في فلك مختلف تمامًا: القصيدة بعنوان "موشح رفح" نظمها الشاعر في معتقل "أشمورت في 24/5/2004م".
وفيها يصف- إلى درجة المعايشة- الغارات الإسرائيلية على هذه المنطقة، كأنه واحد من المراسلين العسكريين، وفي هذه القصيدة يقول:
الموت يملأ الحقولَ والشوارعْ
والنارُ تأكُل البيوتَ والجوامعْ
والدمُّ صارَ للرُكبْ
والأرْملاتُ تَنْتَحب
ما بينَ صَبرا والنقبْ
والصمتُ الْجَمَ العَرب
لا نخوةٌ ولا غَضَبْ
والمسلماتُ تُغْتَصَبْ
والمرْوَحياتُ الجحيمُ والمدافع
تُخَلفُ الدَمارَ تنشرُ الفَظَائِع
الأرضُ أصبَحتْ خَراب
والشعبُ تَعويهِ الذِئَابْ
مُشرَّدٌ بلا ثياب
وزادُ يومِه العذَاب
ودَمعُ ليله الشرِاب
وَمَهْدُ نَومِه التراب
والجندُ تُلْطقُ الرصاصَ دونَ وازع
تصطاد حقْدًا كُلّ مرضعٍ وجائعْ
****
وفي هذه القصيدة- زيادة على الوصف الدقيق- يشيد الشاعر بالشعب الفلسطيني الصابر المصابر، المجاهد المقاوم، مع ما يلاقيه من فجور المستعمر الصهيوني الغاشم.
****
وقد عرفنا أن هذا الشاعر القائد الدعوي، كان أقوى من الأسوار والجدران التي تحيط به، فكان يمتد بقلبه ووجدانه إلى الأرض المحتلة، وخصوصًا التي يعيش فيها فلسطينيو 1948م، ويشارك بفكره وكلماته ووجدانه معبرًا عن رؤيته ألمًا وأملاً.
وبحسه الديني الحي، وفي قصيدتين طويلتين يتحدث الشاعر عن معهد حراء الذي يقف حائط صد ضد تذويب الهوية الإسلامية، عاملاً في جهد خارق على تدريس القرآن والسنة، وتأكيد القيم الدينية والعقدية.
والقصيدة الأولى رسالة حب وتقدير موجهة إلى هذا المعهد العتيد، وفتيانه، وقد نظمها الشاعر "بالجلمة" في 16/8/2003م.
والقصيدة الثانية عن حراء، نظمها الشاعر أيضًا بالمعتقل المذكور في 11/8/2004م مبرزًا آثاره الدينية والتربوية والثقافية في شتى أنحاء فلسطين.
****
والسجين كلما ازداد غيابًا وانقطاعًا عن أسرته ازداد الشوق إليهم اضطرامًا، وخصوصًا الصغار منهم، وبصفة خاصة البنات، إنهم كما قال أحد الحكماء:
"يعيشون يتامى وآباؤهم أحياء"، ويحاول الشاعر السجين أن يفرغ أشواقه في كلمات تنبض بالحب والشوق، والأمل في انفراج قريب يسعد فيه بلقاء أبنائه، وإن لاحقه الحزن والشعور الحاد بالحرمان في كثير من الأحيان.
وقصيدة شاعرنا (صلاح الدين يا ولدي) التي نظمها في المعتقل في 6/9/2003م، من أعمر قصائده بالشوق وعاطفة الأبوة الحانية، ولا عجب في ذلك فقد رزق بابنه وهو في السجن، ولم يقبل الصهاينة أن يقبل ابنه هذا ويحتضنه أثناء زيارة أسرته له (من وراء حائل زجاجي سميك، إلا بعد تدخلات وإجراءات طويلة.
وقد مزج الشاعر حبه لوليده بحبه وعشقه لوطنه، ومع حزنه الشديد لم يفقد تماسكه ووقاره، وفي مطلع قصيدته يقول:
صلاحَ الدين يا ولدي
رعاك اللهُ يا كبدي
هلا أشرقتَ مولودًا
كصبح مشرقِ المَدَدِ
وصِحْتَ بكلِّ ظلامٍ
لدى ميلادك الرغدِ
لماذا لا أرى قربي
أبي يحنو على جسدي
لقد أُخرجتُ للدنيا
بحفظَ الواحدِ الأحدِ
بلا ضحكٍ على ثغري
ولا فرحٍ بها بلدي
وجدتُ الكل يبكيني
بدمع الهمِّ والكَمَدِ
كأني الميتُ في مهدي
أو المذبوحُ في جَلَدِ
صلاحَ الدين لا تحزنْ
فليس الظلمُ للأبد
وصِحْ حُرًّا بلا قيلٍ
ولا قالٍ ولا لَدَدِ
أنا المولودُ في مهدي
أنا للمجد كالعمد
أنا زحفٌ إلى الأقصى
بلا حصر ولا عدَدِ
أنا الآذان في عكا
أنا الرمانُ في صفد
أنا الليمونُ في حيفا
وزهرُ الكرملِ الأسد
****
وفي 10/12/2003م بمعتقل الجلمة ينظم الشاعر قصيدة قصصية بعنوان "كعك العيد"، الذي غاب عن بيته بسبب غيابه في المعتقل عن أسرته، وقد بدأها بقوله:
يا لحزني غاب كعك العيد والثوب الجديد
عن فتاة من صغاري عمرها مثل الورود
اسمها ريحانة قد زينت بيتي السعيد
وينقل لنا الشاعر- بأسلوب طفولي شفيف- بلسان الصغيرة مطالبها بالنقود (العيدية) وحلوى العيد.
ولكن الشاعر تغلب عليه نبرة الثائر الناقم على هؤلاء الذين حرموا ابنته بهجة العيد، ثم بكلمات عميقة هادئة يحاول أن يخفف عن ابنته حزنها، وشقاءها، فيقول لها:
كفكفي الدمع وظلي في حمى الرب الحميد
لا تخافي لا تراعي من لظى نار الحسود
واعلمي ما من سجون يا ابنتي طالت خلود
وأبوك اليوم إن يحيا عن البيت فقيد
سوف يأتي هاتفًا فينا وفي الطفل الوليد
نحن جند الله لا نخشى من الظلم المريد
وقريبًا يظهر الإسلام منصور البنود
في رحاب القدس والأقصى وتندثر الحدود
وبروح الأبوة الحانية يهدي كلماته إلى ابنته "لبابة" بمناسبة زفافها إلى عريسها حمزة، ومن قبل عشنا مع الشاعر في قصيدة موجهة إلى أمه وأمهات الأقصى.
****
إن ما قدمه شيخ الأقصى رائد صلاح في هذه المجموعة الشعرية، يعد إضافة ثرية لأدب الجهاد والمقاومة من ناحية، و"أدب السجون" من ناحية أخرى.
****
وأخيرًا لي كلمة خلاصتها أنني رأيت في هذا الأخ الجليل مجاهدًا صبورًا في أرض نهبها الصهاينة، ورأيت فيه "قائدًا" يتمتع بسعة الأفق، والقدرة الفائقة على التعامل مع الأحداث.
وكل أولئك مؤسس على إيمان قوي بالله، وإخلاصٌ صادق لقضايا الإسلام بعامة وقضية فلسطين بخاصة.
والرجل يترك في نفس كل من يراه آثارًا عميقة: استجابة وحبًّا وتقديرًا، كان هذا هو انطباعي العفوي عن الشيخ رائد "رئيس الحركة الإسلامية لعرب 1948م" عندما رأيته لأول مرة في مؤتمر إسلامي حاشد، بمدينة بني سويف في صعيد مصر، ولم أكن أعرف من قبل أنه ينظم الشعر، فكانت سعادتي بشعره عظيمة... جد عظيمة.
قراءة في ديوان "ماذا تقول القدس" للشيخ رائد صلاح:
الشيخ رائد صلاح؛ شيخ الأقصى، شيخ القلب الفلسطيني الصامد على تراب وطنه، وابن أحرار فلسطين الذين ثبتوا على أرضهم بعد نكسة (48) ورسّخوا جذورهم في الأرض كالتين والزيتون واللوز والصبّار والليمون... وبقوا عصيين على الاقتلاع، شامخين لا تنحني لهم هامة، ولا تلين لهم قناة ...
يطل علينا شيخنا بإصداره الثالث بعنوان: "ماذا تقول القدس"، وقد جعله في ستتة أبواب ووفق الترتيب التالي –وكما أشار في مقدمته- : (جرح النّكبة). (من حصاد الحكم الجبري) . (زفرات في رحاب بيت المقدس) . (الهدهد اللبيب) . (زاد على الطريق) . (أنت الأمل) .
في هذا الديوان نجد الشيخ رائد الداعية والقائد والمثقف والمرشد الذي لا يغيّر ولا يبدّل، بل يصمد على مواقفه ثابتا في خطاه، راسخا على نهجه وموقفه كداعية وكقائد ومرب... نور الله وكلماته سبحانه، وهدي رسول الله نبراسه وقبسه الذي في ظله وعلى هداه يسير أبدا... وكأني به يعلنها بكل وضوح وبلا تردد وبدون ادنى لبس ... إذا لم تكن مربيا ومرشدا صالحا... فلن تستطيع أن تكون أي شيء آخر نافعا أو صالحا... فكن مربيا صالحا ومخلصا... لتصير قائدا مطاعا وناجحا.. لأنك إن لم تكن كذلك فلن تستطيع أن تحس نبض الناس ، وأن تعيش وتحس معاناتهم، ولن تستطيع أن تفهم دوائر الأيام وما تحمل في ثناياها...
ذلكم هو الأفق الفكري والعملي للشيخ رائد.. وهو يبرز هذا المعنى ويؤكد عليه ومنذ الحرف الأول في كل كتاباته . وهنا في أول قصيدة في ديوانه هذا (قصة شهيد) والتي كان موفقا جدا في جعلها فاتحة الديوان . والشهيد هنا يرمز لكل حر يأبى القيد، ويتسامى على الجرح، ويشمخ عزيزا ثابتا مؤمنا في الحياة والممات... وهي ليست قصيدة عادية، إنها مسرحية شعرية راقية، جعل أبطالها طرفي النقيض، وطرفي الصراع الأبدي: " طغاة ضد دعاة" وكأني به يهمس؛ بل يصرخ: لكي نرد كيد الطّغاة ونقضي عليهم ؛ يجب أن نكون دعاة صالحين ثابتين. هذه هي المعادلة الوحيدة الصالحة لحل مشاكلنا وقضايانا. وهو يجسّدها واضحة في صرخات الدعاة- ص7-11، ومن خلال تعانق جسدي وروحي وفكري... يتجلى في عظمة الموقف؛ كقوله في هذا المشهد :
منتصر: سلام الله على الأحرار
عـلـى الأبطال على الأخيار
وتـأبـى الـذّلّ وتـأبى العار
صـامد: أقبِل أقبِل نحن الأخوة
نـسـعـى دومـا صفا واحد
نـبـنـي جيلا يحمي الدّعوة
عـلـى الـثّوار على الأبرار
تـخـوض الموت بقلب النّار
تـقـول الـحـق ولـن تُلجَم
جـيـل التّقوى جيل الصّحوة
نـحـو الأقصى نحيي النّخوة
لا لـن نـذوي لا لـن نـسأم
فمن يحمل مثل هذه الروح؛ لن يزيده سوط الجلاد سوى قوة وعزيمة وثباتا وإصرارا على الحق . ومشهد الطاغية وهو يجلد منتصر، يصوّر، بل يجسِّد هذه الروح في أجمل تعبير. الطاغية يجلد منتصر بسوطه وكلماته، ومنتصر يقهره بإيمانه وثباته:
الطاغية:
مـا زلت أبيًا بل تجهر في سبّي في سبّ القيصر
فـلتعلم يا نحس الطّالع أنـي لن أهوي أو أكسر
بـنياني دوما لن يَصغُر عنواني الأعلى والأعظم
فيأتي رد منتصر مقتضباً؛ ولكن مجلجلا مزلزلاً بوضوحه ، منتصراً للحق وبالحق:
إن كنت ككسرى أو قيصر ربّي الأعلى أنت الأصغر
هكذا هو الشيخ رائد صلاح، مربياً واعظاً في كل أحواله كما أسلفنا، يقولها بكل وضوح في شعره هنا، كما يقولها ويعيشها بكل ثقة واعتزاز في كل مواقفه: لن تنال منّا قسوة الجبابرة والقياصرة ما دمنا على ديننا وعقيدتنا وحقنا .. فنحن الأعلى بديننا وحقنا، وهو الأسفل بباطله وطغيانه... كقوله ص343:
الـدّعـوة أقوى للأبد من نار المفسد في بلدي
وسنصرخ دوما في جلدِ كـزئير جلجَلَ من أسَدِ
الـدّعوة طُهرٌ وضياءٌ ومعينُ ثباتِ المُضطَهَدِ
وجـداول تَوبٍ تغسلنا بـالماء الطاهر والبَرَدِ
ودعـامـة حقٍ تجعلنا كـالجبل الشامخ والوَتَدِ
ومما يميِّز الشيخ رائد شاعرا وإنسانا: أنه دائما يبحث عن البساطة، ويختار الطريق المباشرة، ويبتعد عن التزيين والتنميق والزخرف... يقول ما يريد بكل تلقائية وبساطة ووضوح، ولا يشغل باله جمال التعبير أو جزالة الألفاظ، ولا جمال التراكيب الشعرية... ولا يبحث عن العناوين الرنانة، والألفاظ الفضفاضة، ولا يهتم بالقوالب الشعرية والمحسنات البلاغية... ولا يشغل فكره بمدارس النقد واصول الحداثة الأدبية ونظريات الأدب الحديث، وما بعد الحداثة... وإنما يظل شاغله الأوحد فكره ورسالته، ألمه وألم أمته وشعبه... وصيته وزفرته التي يريد أن يوصلها لأحبته ورعيته ناضجة واضحة سهلة مستساغة... ويبقى هدفه الأول: غرس افكاره التربوية والحضارية والعقدية المستمدة من روح ونور رسالة الإسلام. أما تعابيره وصوره وأمثلته... فمستقاة من الواقع؛ ومن الحياة، بصدق وبدون اي تعقيد أو تزيين.كقوله ص14:
غضبي نار حجري مدفع للباغي أبدا لن اركـع
وطنـي حُرٌّ ديني نـورٌ ودَمي القاني نصرٌ يلمع
فانظر إلى بساطة اللّفظ، وصدق التعبير والتصوير، مع شرف الرسالة ونبل التربية، ووضوح وسمو الهدف .
وتقريبا للصورة، وتوضيحا للحال، وربطا للحاضر بالماضي، يستعين الشيخ الشاعر برموز من التاريخ؛ ليكسب قوله عمقا ويعطيه بعدا إنسانيا وتاريخيا مؤثرا، ودائما تبقى المعادلة عنده: (الطاغية يقابله الداعية)... كقوله ص21:
عـدوّي فـرخ نيرون بـغـدر جـاء يجليني
عـن الأبناء عن بيتي عن الأقصى وعن ديني
عن الليمون عن نخلي ويـحـيا في بساتيني
ويدمي الجرح في قلبي ويـؤذيـنـي ويشقيني
ولا ينسى رموزنا التاريخية العظيمة، يجليها قدوة ورموز ثبات ونصر وتمكين وعزّة: سعد، خالد، صلاح، أبو عبيدة، المعتصم، الرشيد جعفر وطارق... وغيرهم وامثالهم... إنه يجعلهم مثالا يربي الجيل على سماتهم ، وهم من خرجوا وأخرجوا الشعوب معهم من الظلمات الى النور ، ومن عبادة الناس إلى عبادة رب الناس الواحد الأحد سبحانه، ومن جور الحكام والطغاة إلى عدل الله وسماحة دينه الذي ارتضى للناس كافة.
كما أنه لا ينسى تراثنا وتاريخنا وواقعنا، فيجعل ديوانه سجلا حافلا بأسماء المواقع والبلاد المنكوبة من جليلنا ومركزنا ومثلثنا وساحلنا ونقبنا... حتى ليكاد لا ينسى مدينة أو قرية إلا ويذكرها : عكا، حيفا، يافا، غزة، جنبن، جباليا، إجزم، إقرث، برعم، أم الزينات، اللد، الرمله، طبريا، الجعارة، حطين، طمرة، بيسان، المجدل، القسطل، والقدس واسطة العقد، ودرة التاج، وعروس المدائن... وغيرها وغيرها مما تزخر به ذاكرته الحية، ويحفظه وجدانه الحر، وجدان الداعية الذي لا ييأس ولا يتراجع ولا يهون في مواجهة الطاغية والتصدي له .
ثم لا ينسى أنه ابن الأمة الإسلامية العظيمة، فلا يجعل همه الأول (فلسطين) وجرحها ينسيه جراح الأمة وهمومها، فهي أمته، وهو منها، وجرحها جرحه، وهمها همه... فتراه يتماثل مع أمته وإخوانه، ويتبنى قضاياهم أينما كانوا: في أفغانستان، وفي الشيشان، وفي بغداد وفي لبنان وفي سراييفو... وهو في كل الأحوال يرى أن المعركة واحدة، والمعادلة واحدة: (الداعية في مواجهة الطاغية) ... والمجاهد المدافع عن حقه وعقيدته، بوجه الجلاد الغاصب الآثم.. فاسمعه يصرخ ص68:
فـي سـراييفو نار قنابل وعلي عزّت صاح صدوقا
جاء الحق وزهق الباطل إن الـبـاطل كان زهوقا
* * *
فـي سراييفو طفل يبكي ذبـحت أهلي جند الشِّرك
* * *
عـن مـأساة الأمة يحكي هدموا بيتي قصفوا السّوقا
وحين يضنيه، ويشقيه جرح بغداد يصيح ص75-78:
عاد المغول بكل أصناف الدمار
ليدمِّروا بغداد ثمّ يدمِّروا كلّ الدّيار
ليدمِّروا السّودان والصّومال في أعتى حصار
ويجوِّعوا لبنان والأردن في وضح النّهار
ويُجرِّعوا كأسا لقاهرة المعِزِّ بكل عار
ولا ينسى القدس فهي الهدف الأول...والأعظم.. لحملات الطغاة وأطماعهم:
عاد المغول ليهدموا الأقصى المبارك يا نيام
ثم لا ينسى مكة والمدينة:
عادوا لقهر القدس ثمّ مكة والمقام
ولنبش قبر محمّد طيب المدينة يا كرام
وليت الأمر يقف عند هذا الحد وكفى ، بل إنه يتعداه ليبلغ:
ولسلب كل الأرض ما بين الجزيرة والخليل
ولسلب نفط العرب والأنهار والذهب الأصيل
ونجده يختم كل زفرة ألم يطلقها، بزفرة فيها أمل علها تهز الأمة الغافلة:
والمسلمون ممزّقون والمسلمـون مفرّقـون
يا ليتـهم يتوحّـدون في وجه زحف الغاصبين
ثم يبدع الشّيخ باستخدام الرموز الأسطورية والرموز (الأمثولية) مما تأثر به من أجواء كليلة ودمنة –كما أشار في مقدمته- ليشحن النفوس بروح الحكمة، ثم ليذكي جذوة الصبر على الضيم والظلم في قلوب الرعية -جند الدعوة- في صراعهم ضد الطاغية، وزبانيته، فيأخذ مثلا أسطورة السمندل؛ ذلك الطائر الأسطوري الذي يبيض وسط اللهب (وفقا للأسطورة) ويتكاثر وسط الجمار... ليجعله مثالا لشعبه ورعيته، وكأني به يصيح بهم؛ بأهله وامته .. كونوا كالسمندل، أسكنوا اللهيب بنفوسكم الصامدة، وتكاثروا وسط الجمار ورغم الحريق، فهكذا يُقهَرُ عدوكم الطاغية فزعا من صبركم وثباتكم .
وسـط المحارق واللهب باض السمندل في طرب
مـتـوسِّـدا نارًا لظى مـتـألـقا فوق التعب
مـتـجـلـبـبًا بثباته مـتـعاليًا فوق النّصب
حُـرًا صـبـورًا موقنًا أنَّ الـبشائر في الكُرَب
مـا عـاش يوما خائنا أو مـتـقِنًا فنّ الهرب
بـل عاش طودًا شامخًا من دون خوفٍ أو رَهَب
مـا خـافَ يوما أعورا يـرمي عناقيد الغضب- (ص184)
ثمّ نراه يغترف من مخزون كنوز السُّنة النبوية الشريفة، مستخدما خاصيّة التّناصّ، ليوجه ويربي ويصحح، في نقد موجه للأمة وكل ما يدور في واقعها، ويحكم مصائرها... بأسلوب تهكميّ ساخر ولاذع، ولكنه لا يخلو من الموعظة والحكمة والتوجيه والتبصرة... ولا يبتعد عن حدود المعادلة؛ معادلة الصراع التي يظل يؤكد عليها : "الداعية في وجه الطاغية". فيأخذ مثلا معاني الحديث الشريف (حديث الرويبضة) وما جاء فيه من قوله صلى الله عليه وسلم(... يؤمّن الخائن ويخوّن الأمين) ويصوغها بشعر رقيق واضح المعاني والمرامي قائلا:
هل تفهمون المرحلة هل تدركون المهزلة
الى قوله:
أضحى العميل هو البطل والحُرّ أضحى معتقل
واللص صار هو المثل يمشي الهوينا بلا وجل
والذّئب صار هو الحمل رمز السلام بلا خجل- (ص234)
وهكذا تمضي رحلة الشيخ رائد مع الشعر، لا يريده لذاته، بل يجعله سلاحا في المعركة، ذات السلاح الذي حث عليه رسول الله صاحبه حسان وإخوانه ليكون رديفاً للسيف، في وجه الطاغية.
فبارك الله الجهد، وجعل فيه القلاح والصلاح والعزة، وجعله الله في ميزان صاحبه يوم يلقى ربه. اللهم آمين.
المراجع:
- الموسوعة التاريخية الحرة.
- رابطة أدباء الشام: أسسها الأديب عبد الله الطنطاوي.
- موقع إخوان أون لاين.
- جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام.
- موقع الجزيرة نت .
- مواقع إلكترونية أخرى.
وسوم: العدد 1068