الشهيد الدكتور عدنان قدري مكانسي أبو طلال
من مواليد مدينة حلب .
نشأ في أسرة مسلمة ملتزمة تحب العلم، وتحترم العلماء، وتعود في أصولها إلى النسب النبوي الشريف من مدينة مكناس في المغرب، برز فيها د. عثمان مكانسي، وكمال، والمنشد مروان.
درس مراحل التعليم المختلفة حتى حصل على الثانوية العامة ( الفرع العلمي) بتفوق.
ثم حصل على درجات تؤهله لدخول كلية الهندسة المدنية في جامعة حلب وللدخول في كلية طب الأسنان في جامعة دمشق، فدرس في كلية طب الأسنان.
استشهد في عام ١٩٨٣م.
أصداء الرحيل:
كتب د: عثمان قدري مكانسي يقول:
أخي الحبيب عدنان: رفع الله مقامك، وكتب لك المغفرة، ورزقك الفردوس الأعلى.إن كنت من الشهداء ، وفرّج عنك إن كنت من الأحياء ...وأنت حيٌّ في كلتا الحالتين .
تغيب عن عينيّ منذ إحدى وعشرين سنة، في أيار من عام ثلاثة وثمانين وتسع مئة وألف، ويبقى قلبي معلقا بك، يتفطّر لك شوقا وإشفاقا ، وتظل عيناي تسبحان بعيدا في السماء – وتجولان في رحابها- تسألان بصمت من رفعها دون عمد أن يكون لك نعم التصير ونعم المجير في جنة خلد بعيدا عن دنيا قميئة ، وزمن رديء قلب القيم والمعايير ، صار المؤمن فيه مدفوعا والفاجر مطاعا .
أذكرك صغيرا...... لا تنام إلا في فراش أخيك . لا ترضى عنه بديلا ... فأقول : على أن تصلي الفجر معي .
فتطوقني بيديك الصغيرتين، وتقول: نعم ... ألست مسلما؟.
يحبك أهل البيت جميعا لما يرون فيك من النجابة والذكاء، والاهتمام بهم . ... ترضي الجميع بلباقتك المحببة إلى النفوس .... وتشيع في البيت الأنس والبشاشة بتقليدك المتصنع لكل واحد منهم دون أن توغر صدره، فتنتشله من حزن أو وحشة أو ضيق ، وقد تأخذ أخويك وأختيك في نزهة ، فتزرع البهجة في النفوس ، والسعادة في القلوب . فيكون عطفك عليهم ورحمتك بهم بردا وسلاما على قلبي ، وأتيقن أنك- في - غيابي بعد حين في خدمة الجندية أو التدريس - نعم الأنيس ونعم الرفيق لهم .
وأسافر إلى دمشق للخدمة الإلزامية، وأنت طالب في آخر المرحلة الثانوية .... تجدّ وتسهر الليالي ، فيوفقك الله تعالى ببركة دعاء الوالدين بدرجات عالية تؤهلك لدراسة الهندسة المدنية في حلب ، بل لأفضل من ذلك .. دراسة طب الأسنان في جامعة دمشق .
أنت تريد الثانية – ولكن العين بصيرة ، واليد قصيرة - فالحالة المادية للوالد رحمه الله رقيقة لا تكاد تفي بأود العيش ... فترضى بما بين يديك – وأنت الراضي دائما بما يقسمه الله تعالى – وتعزم أن تدرس الهندسة ، دراستها أمل الألوف من الطلبة ... وأكون في إجازة بينكم فنحتفل بنجاحك الطيب ..... وأراك تستأذننا لتكون بين رفاق لك صاحبتهم في الحيّ مذ كنت ولدا صغيرا ....
إلى أين ياعدنان ؟
نتجول قليلا في الحدائق .
وأسأل أهل البيت:
أما زال يصاحب سميرا وأسامة وخليلا ؟
لم يزل، وهو بهم لصيق
كانوا فتيانا ذوي عقيدة سليمة وأدب واضح . لكنهم مجموعة – على الرغم من أدبهم – لا هدف لهم سوى كرة القدم ، ومتابعة الفنانين ، والتدخين والسهر إلى منتصف الليل ، وما ينبغي لعدنان أن يكون منهم . ولكن ما السبيل إلى ذلك ؟ ...
اتحب أن تدرس طب الأسنان ؟
نعم، ولكن يصعب على الوالد أن يتحمّل النفقة ، خصوصا إذا علم أن طالب طب الأسنان يحتاج إلى ألف ليرة في بداية كل عام ثمن أدوات طبية خاصة بالأسنان .
لا عليك . سأتدبر الأمر ، ولن أكلف الوالد شيئا .
برقت عيناه فرحا .
وشعرت بالسرور والفرح أيضا لأنه سيترك هذه الصحبة ... ولكن لا بد من بديل لها ، فالإنسان بطبعه اجتماعي . وحين سجل رغباته الدراسية كانت دراسة طب الأسنان أولى الرغبات ..... وحين جاءه القبول رأيته عندي في دمشق يؤانسني ويملأ البيت حيوية ونشاطا .
كان كثير من الأحباب يعرفون البيت الذي استأجرته في الحلبوني ، بين الإطفائية وجامع الشيخ الرفاعي رحمه الله ، يزوروني فيه حين يقصدون إلى دمشق وكان أخي أبو عصام –كمال – قد التحق بالخدمة الإلزامية بعدي بثلاثة أشهر .يشاركنا البيت وكذلك ابن عمتنا عبد القادر شوك .... فكنا نترك له الغرفة الثانية يخلو فيها إلى كتبه ودراسته .
حاولت كسر الحاجز العمري بيننا، فهولا يدخن أمامي احتراما وتقديرا، وإذا طال الأمر عليه شعر بالضيق .
أنت مدخن ، ألست كذلك؟
......................
إذا كان التدخين أمامي لا يليق بك لأنه منقصة فالأولى أن تمتنع عنه أمام الله تعالى
.......................
مارس حريتك في التدخين دون خجل لأني أريدك رجلا أوّلا ، ومرتاحا في دراستك ثانيا، وحاول جهدك ثالثا أن تتخلى عما يضرك في المال والحياة الاجتماعية، والصحة، يا طبيب المستقبل .!!
لا بد من الصديق القدوة الذي يأخذ بيد صديقه إلى بر الأمان ... والصاحب ساحب .
فكرت بهذا، إلا أن حرب تشرين عام ثلاثة وسبعين وتسع مئة وألف كانت قد بدأت وعاد الطلاب إلى مدنهم إلى أن تنجلي الأمور .... ومضى شهران أو أكثر ، ثم عادت الأمور إلى مجاريها ...ولم تمض أشهر أخرى حتى كان عدنان يسكن في "باب سريجة" مع إخوة كرام أثروا في سلوكه تأثيرا إيجابيا . منهم الشاب اللطيف الصيدلي محمد بن الشيخ الدكتور عمر خياطة رحمهما الله تعالى فقد اعتقل محمد واستشهد في تدمر على أيدي كلاب النظام الحاكم أذاقهم الله من الكأس نفسها التي سقَوها شهداءنا –آمين – ومنهم الشيخ مجاهد محمود شعبان رحمهما الله تعالى ، وقد كان مجاهد اسماً على مسمى . وكان أبوه الحاج محمود رجل المواقف والرجولة ، وهذا الشبل من ذيّاك الأسد . .. أحَبّهما كثيرا وكان مجاهد زوجَ أخت محمد ، فأراد عدنان أن يتقرّب إليهما أكثر ، فخطب الأخت الصغرى ولكن شاءت الأقدار أن يتزوج من الحور العين .... ومنهم الأستاذ الفاضل بدر الدين القصاص مدرس اللغة العربية و" عميد جامعة زمّار " فقد كان مدرسا في قرية زمار ثلاثين كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من حلب بعد قرية العيس على مشارف تل قنّسرين .
هم أخوة كرام، ربتهم الدعوة ، فكانوا مثال الأخلاق والشباب الواعد في حمل الرسالة الخالدة إلى جيلهم ومن دونهم .
كنت أرى عدنان وهو يتغير إلى الفكر الإسلامي بتفهم ورويّة وتمكُّن - .أو قل يتجذر فيه ويتبنّاه ويعيشه ، فلم يكن يعرف من المبادىء الدنيوية الهدّامة شيئا ، فقد كان الوالدان رحمهما الله تعالى يجهدان في بناء العقيدة السليمة في عقول أبنائهما وقلوبهم . فكم كانا يكافئانهم حين يصلون معهم الفجر ، ويفرحان أكثر وأكثر حين يسبق الذكور منهم الأب إلى جامع زكريا عليه السلام – الجامع الأموي الكبير - القريب من بيتنا.-... ويحاول عدنان التأثير الإيجابي في رفاقه السابقين فأحمدُ الله على الهداية التي مازجت فؤاده، وخالطت بشاشته القلب، فكان الرجل الذي تتآلف الفتيان والشباب حوله ، يقودهم بمهارة القائد الحازم العطوف .
وتوفدنا – أنا والزوجة - وزارة التربية والتعليم السورية إلى الجزائر – وقد سجلت في موقع أدباء الشام ذكرياتي هناك في أدب الرحلات - .. عام ثمانية وسبعين، .. ومن ثَمّ تبدأ انتفاضة الشعب ضد الظالمين الذين ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلّم : " دعاةٌ على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها " . وتطلب مني السفارة اسورية هناك العودة إلى سورية لأزج في السجن ، وأكون ضمن قائمة مؤلفة من ثمانية وعشرين رجلا طلبتهم من الجزائر لأننا على حد زعم النظام مجرمون ينبغي تسليمنا – حسب اتفاق عقد بين الدولتين - ... لكن الرئيس الشاذلي ابن جديد يمتنع عن تسليمنا فنحن معارضون سياسيون ، لا مجرمون .. وتضعف العلاقات بين الدولتين ....وينصحني إخواني بترك الجزائر تحسبا لمواقف قد تتغير . .. وأصل إلى عمان ، فيزورني الأهل جميعا زيارة نهائية ، فالأمن حين لا يظفر بي يطلب رأس الوالد رحمه الله فيدهم البيت فلا يجده ، فيرى الناصحون أن يستقر عندي في عمان إلى حين ... لكن هذا الحين طال أكثر من أربع سنوات !!!!
ويطلب الأمن من أخي عدنان أن يزورهم، فيعدهم بذلك لكنه يشد رحاله إلينا فأراه بعد أكثر من سنتين رجلا بما في الكلمة من معنى ... وسرعان ما جمعنا الشباب وكان له مع إخوانه السهم الأوفى في تربية الناشئة التربية الإسلامية الصالحة ، والمسلم الألمعيّ غيث أينما حلّ وحيثما ارتحل، .ونسمة طيبة تحيي النفوس وتزرع الأمل ، وأفكار تبني المستقبل وترفع دعائمه .... المسلم الواعي دفقة الحياة في نسغ الأمة ... وهكذا كان " أبو طلال " رحمه الله، ورفعه في عليين .
ويشاء الله تعالى أن يصطفيه، فيصر على العودة إلى حلب ، ليلتقي إخوانه الذين سبقوه، ويطلع على أحوالهم، قيلقي النظام الأمني القبض عليه، فيشفي حقده على شباب الدعوة بتعذيبه ليل نهار، ويصب عليه العذاب دون هوادة ولا إنسانية ... ثم لا أدري أيلحق بركب الشهداء الأبرار والدعاة الأخيار ؟ أم هو في مجاهل سجون الظلمة ومعتقلااتهم ......اللهم تقبله في أوليائك ، فقد كان يحبك ويسعى إليك . واجمعنا في الآخرة في رحمتك كما جمعتنا في الدنيا..... يا رب
أخوك عثمان قدري مكانسي
وصية الشهيد الحي:
أهلي وإخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته .
الحمد لله رب العالمين ، مالك يوم الدين، من جعل دينه – الإسلام – رحمة للعالمين، وفرض علينا الجهاد منّةً وتكرمة ًللفوز بجنات النعيم .... والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام المجاهدين ، ومرشد البشرية إلى هدى رب العالمين . وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللهم يا أرحم الراحمين، ياغفار ، يا تواب ياكريم , أنا عبدك المسيء المذنب العاصي، أتيت بابك راجياً غفرانك ،طامعا بكرمك وحلمك ، فإن لي من الذنوب والآثام شيئاً كثيرا ، وإني مقصر في طاعتك وعبادتك ، ولكنك يامولاي صاحب الفضل والجود والكرم ، تكرمتَ علينا ، واصطفيتنا لنكون دعاة مجاهدين في سبيلك .اللهم فتقبل منا أعمالنا خالصة لوجهك الكريم ، واجعلها كفارة ما اقترفنا ، وطهّر قلوبنا من النفاق ، وأعمالنا من الرياء ، وألسنتنا من الكذب . واجعلنا في عداد المقبولين عندك ، وارزقنا في الخاتمة شهادة ترضاها وترضى بها عنا ، واحشرنا مع من تحب وترضى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحَسُن أولئك رفيقا
أما بعد:
والدي ، والدتي إخوتي الأحبة: أوصيكم بتقوى الله حقاً وصدقاً. قولاً وفعلاً. فليس لنا من هذه الدنيا إلا صالح الأعمال ،واعلموا يا أحبتي أن الصبر على الابتلاء والمحنة واحتساب ذلك عند الله ليس له جزاء إلا الجنة .فالله سبحانه وتعالى يقول :" الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله، وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وأولئك هم المهتدون "
فيا أبي ويا أمي قد تحسبان أني أجهل حنانكما وعطفكما علينا، أو حرصكما على مستقبلنا ، فذلك أمر بعيد ، فلقد كنتما تبذلان أمامي الغالي والنفيس، وتضرعان إلى الله تعالى بالدعاء كي أتم دراستي، وأنال الشهادة التي تؤمن لي ولكما مستقبلاً دنيوياً سعيداً ،وما ذلك إلا مقياس بشري ضعيف ،فلقد أكرمنا الله تعالى وأنار بصيرتنا إلى الشهادة الحقة، إلى المستقبل الحقيقيّ الذي ينبغي أن نهتم به ، ونبذل الغالي والرخيص لتأمينه ... تلك شهادة يمنحها الله لمن يحب ويرضى، شهادة من رب الكون العظيم نؤمّن به نعيماً خالداً وسعادة أبدية ، لا سعادة الدنيا المزيفة المؤقتة ، ولا نعيمها الزائل . ولا ننس أبدا أن العمر محدود ، والأجل لا يقدّم ولا يؤخَّر
وإني أرجو من كل من أراد خيري ومنفعتي أن يدعو الله مخلصا ملِحّاً أن يتقبل أعمالي وأعمال كل المسلمين جميعا خالصة لوجهه الكريم، وأن يمنحني الشهادة المقبولة عنده، فلا خير أفضل من ذلك ،ولا رجاء لي غير ذلك ، لعل الله أن يكرمني – وإن لم أكن أهلاً لذلك – فأفوز فوزاً عظيما ً.
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :
" دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لاخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل " رواه مسلم
فلنتوجّه يا أحبتي إلى الله بقلوب خاشعة ذليلة لا يشوبها شيء من كدر الدنيا ولا تطلعاتها .. فلا نريد إلا وجه الله الكريم، فهو خير جازٍ وخير مثيب .وتذكروا دائماً دائماً أن الدنيا زائلة، وغرها مزيف، إلا من أعزه الله ... وعلينا بتقوى الله في كل حركة وسكنة .. في كل شاردة وواردة، في صغار الأمور وكبارها .. وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .
حتى لا ننسى شهداءنا:
الدكتور عدنان مكانسي ، ابو طلال
وكتب الأخ زهير ناعورة يقول :
غادرت عمان عام 1982 متوجها الى المدينة المنورة للدراسة فيها، كانت كلماته في وداعي، ( هناك اولويات في حياتنا وثورتنا وجهادنا ضد نظام الاسد هو اولى اولوياتنا خرجنا لنعود وسنعود لننتصر ) ، قلت لن اسافر لاكون معك ، تبسم وفي محياه الالم ، ( لا يا أخي انت أخي الصغير وانت جندي وأعلم أنك ستلبي النداء من اول صرخة )
رجعت بعد أشهر الى عمان قابلته بحب وقابلني كأخ كبير ومرشد ومعلم ، بكينا وقلت لن أعود الى الدراسة سأبقى جنديا معك، إاحتضنني، وقال: ( انت معي انت معي ) غادرت عمان وكان أخر عهدي به، اعتقل في مدينة حلب، كان اعتقاله نصرا للاعداء، ومكسبا كبيرا للطغاة كما سماه سجانوه.
غاب ابو طلال في غياهب السجون، وأحرق جسده بالسخانة الكهربائية، لم يلن، لم يستسلم، كسروا أضلاعه، تفننوا في تعذيبه، انكسر القيد، ولم تنكسر ارادته، او تهون عزيمته .
انقطعت أخباره كما الالاف من أطهار أمتنا، غاب في غياهب السجون، ولم يسطر في يوم انه لان او استكان، وتوقف الزمان عن أخباره وكتمت السجون حياته او موته.
أبا طلال وبعد احدى وثلاثين عاما مازلت في قلبي وفي ضميري، يشهد الله اني اكتب سطوري ودمعي يسابق حروفي.
أبا طلال: أنت أخي ومعلمي وقائدي وأماني وسري
كم أشتاق اليك في ثورتنا وانتصارات أمتنا، كم أحتاجك لتبصرني الطريق وتبعدني عن الخطأ
ابا طلال .... ايها الشهيد الحي .... اشتقنا لك
مصادر الترجمة:
١_ صفحة الأخ زهير ناعورة .
٢_ مركز الشرق العربي.
٣_ مواقع إلكترونية أخرى.
وسوم: العدد 1070